منذ نحو خمس سنوات ابتدأتُ أسجّل يوميّاتي وأنا لا أدري بالضبط لماذا. واظبتُ عليها سنةً، ونصف سنة أخرى، ثم أهملتها. مؤسفٌ أن ذلك لا يعود لكوني قد قرّرت أن أعيش حياتي بدلا من التفكير فيها !
كانت "يوميّات" على سبيل المجاز، إذ لم أكن أكتب سوى ثلاث إلى أربع مرّات فقط في الأسبوع. هذا في المتوسّط. لا أدوّن الأحداث إلا قليلا، لأنها تتواتر بلا انقطاع. أركّزُ فقط على تدوين انعكاساتها في وجداني وذهني، فليس كل حدثٍ في حياة الإنسان يترك أثرا في نفسه، أثرا يبقى طويلا. أسجل ما يستحق الذكرى، ما أريد له ألا يُنسى.
كنت في اليوميّات أوثّق بعدسة الحرف صورةَ اهتزازات أعماقي، كل ما رمى حدثٌ بحجر. اتساع الدوائر، في إيقاعاتها، لأعودَ إليها بعد مدّةٍ وأجد ركاما من الأشياء تحت السطح وقد صفا. لم أكن أشغل نفسي بكيف ولماذا. لا أحلّل ولا أستنتج، فقط أنكبُّ على تسجيل انطباعاتي وهي طازجة، ثم أتأمّلها لاحقا، إذا هدأت وبردت مشاعري وعادت أجزاء كياني لمواضعها الطبيعية. لكن مشكلة الصياغة والتوقيت تظل منغّصةً دائما، رغم أهميتها عندي. فما كل حدثٍ يجري يكون دفتر اليوميّات تحت يدي. هذا الفاصل الزمني، بين الحدث وتسجيله، كثيرا ما يسمح بتسرّب تحليلاتٍ واستنتاجات في تضاعيف ما كنت أحسبُها لغةً وصفيّة بيضاء، محايدة قدر الإمكان. ولذلك أتخلّى عن كتابة اليوميّة إذا طال العهد بالحدث، إذ تتسلط عليَّ نزعةُ الانتقاء والتحليل والاستنتاج، وليس هذا غرضي من كتابة اليوميّات. أريدني فيها شاهدَ عيانٍ فقط، لكن على نفسي. ربما لأتربّى وأنضج ذاتيا.
مسترخيا مع الشاي أقرأ تاريخ مشاعري، أقلّبُ الصفحات وأراقب عن كثبٍ تفاعلاتي مع المواقف، أو بالأحرى : تذبذبي واختلاجاتي في خضمها. وكم تكشّف لي مدى عجزي عن تصحيح المسار وضبط ردود الأفعال بالطريقة التي ترضي كبريائي مثلا ! خُلقت هكذا، وهي الحقيقة التي عليَّ أن أحترمها بعد اليوم، بكل نضج أتقبلها. ومهما فهمت كيف يحدث الجوع، فليس في ذلك ما يشبع.
يبدو أننا نعيش تفاصيل يومنا بربع أو ثلث عقل. من يمتلك النصف سنعدُّه الفطِن بيننا، والعبقري من حاز أكثر. لا تعمل عقولنا بكل طاقتها، ولا تحضر معارفنا كلها، إلا بعد انفصالنا عن المواقف بمددٍ يختلف طولها من شخصٍ لآخر. بدليل أننا لو رجعنا للخلف، لغيّرنا الكثير والكثير من مواقفنا وكلامنا، واستبدلناه (درجة هذا التغيير والاستبدال تختلف -كما أشرتُ- من شخصٍ لآخر). كما أن الانفصال والتباعد الزماني عن حدثٍ ما، كالارتفاع والتباعد المكاني عن موقعٍ ما، حيث تتصاغر الأشياء وتتضح الرؤية وتأخذ طابعا شموليّا أكثر، مما يمنحنا شعورا بالسيطرة، معرفيا ونفسيا، على المشهد. ولو أُعطيت قدرة إعادة الزمن خمس دقائق في كل مرة، سأتمكن من تفادي العقبات والمآزق، لكن سأخسر عفويتي، وربما أكثر. حتما سأكون شخصا آخر، إذ نحن نتاج أخطائنا وصوبنا معا. لا أدري إن هذا أفضل أم أسوء !
ما الذي نريده من وراء تسجيل اليوميّات، ثم وضعها على الرفوف ؟ أظنه لا يقل أهمّيةً عن الذي نريده من وراء التقاط الصور، ثم وضعها في الألبومات. لعل اليوميّة والصورة لا تعدو أن تكون محاولات للاحتفاظ بقطعةٍ من الماضي واستبقائها في الحاضر، وربما ادّخارها للمستقبل. كلاهما وسيلة لتعزيز انتقائية الذاكرة بطريقة مفيدة أكثر. كلاهما طريقة للالتفاف على الزمن ومقاومته. ذلك أن رصد المواقف والأحداث في الماضي يزيد الإنسان شعورا بالزمن، وأن كل شيءٍ عابر ومؤقّت. وهذا بدوره يقلّل من انغماسه في المواقف والأحداث أكثر مما يجب، كما لو أنه سجينها أبدا. وبهذا يكون تقييد الماضي وسيلةً للتحرّر منه، وأسلوبا للسباحة فوق الحاضر، عبورا متخفّفا للمستقبل.
كانت "يوميّات" على سبيل المجاز، إذ لم أكن أكتب سوى ثلاث إلى أربع مرّات فقط في الأسبوع. هذا في المتوسّط. لا أدوّن الأحداث إلا قليلا، لأنها تتواتر بلا انقطاع. أركّزُ فقط على تدوين انعكاساتها في وجداني وذهني، فليس كل حدثٍ في حياة الإنسان يترك أثرا في نفسه، أثرا يبقى طويلا. أسجل ما يستحق الذكرى، ما أريد له ألا يُنسى.
كنت في اليوميّات أوثّق بعدسة الحرف صورةَ اهتزازات أعماقي، كل ما رمى حدثٌ بحجر. اتساع الدوائر، في إيقاعاتها، لأعودَ إليها بعد مدّةٍ وأجد ركاما من الأشياء تحت السطح وقد صفا. لم أكن أشغل نفسي بكيف ولماذا. لا أحلّل ولا أستنتج، فقط أنكبُّ على تسجيل انطباعاتي وهي طازجة، ثم أتأمّلها لاحقا، إذا هدأت وبردت مشاعري وعادت أجزاء كياني لمواضعها الطبيعية. لكن مشكلة الصياغة والتوقيت تظل منغّصةً دائما، رغم أهميتها عندي. فما كل حدثٍ يجري يكون دفتر اليوميّات تحت يدي. هذا الفاصل الزمني، بين الحدث وتسجيله، كثيرا ما يسمح بتسرّب تحليلاتٍ واستنتاجات في تضاعيف ما كنت أحسبُها لغةً وصفيّة بيضاء، محايدة قدر الإمكان. ولذلك أتخلّى عن كتابة اليوميّة إذا طال العهد بالحدث، إذ تتسلط عليَّ نزعةُ الانتقاء والتحليل والاستنتاج، وليس هذا غرضي من كتابة اليوميّات. أريدني فيها شاهدَ عيانٍ فقط، لكن على نفسي. ربما لأتربّى وأنضج ذاتيا.
مسترخيا مع الشاي أقرأ تاريخ مشاعري، أقلّبُ الصفحات وأراقب عن كثبٍ تفاعلاتي مع المواقف، أو بالأحرى : تذبذبي واختلاجاتي في خضمها. وكم تكشّف لي مدى عجزي عن تصحيح المسار وضبط ردود الأفعال بالطريقة التي ترضي كبريائي مثلا ! خُلقت هكذا، وهي الحقيقة التي عليَّ أن أحترمها بعد اليوم، بكل نضج أتقبلها. ومهما فهمت كيف يحدث الجوع، فليس في ذلك ما يشبع.
يبدو أننا نعيش تفاصيل يومنا بربع أو ثلث عقل. من يمتلك النصف سنعدُّه الفطِن بيننا، والعبقري من حاز أكثر. لا تعمل عقولنا بكل طاقتها، ولا تحضر معارفنا كلها، إلا بعد انفصالنا عن المواقف بمددٍ يختلف طولها من شخصٍ لآخر. بدليل أننا لو رجعنا للخلف، لغيّرنا الكثير والكثير من مواقفنا وكلامنا، واستبدلناه (درجة هذا التغيير والاستبدال تختلف -كما أشرتُ- من شخصٍ لآخر). كما أن الانفصال والتباعد الزماني عن حدثٍ ما، كالارتفاع والتباعد المكاني عن موقعٍ ما، حيث تتصاغر الأشياء وتتضح الرؤية وتأخذ طابعا شموليّا أكثر، مما يمنحنا شعورا بالسيطرة، معرفيا ونفسيا، على المشهد. ولو أُعطيت قدرة إعادة الزمن خمس دقائق في كل مرة، سأتمكن من تفادي العقبات والمآزق، لكن سأخسر عفويتي، وربما أكثر. حتما سأكون شخصا آخر، إذ نحن نتاج أخطائنا وصوبنا معا. لا أدري إن هذا أفضل أم أسوء !
ما الذي نريده من وراء تسجيل اليوميّات، ثم وضعها على الرفوف ؟ أظنه لا يقل أهمّيةً عن الذي نريده من وراء التقاط الصور، ثم وضعها في الألبومات. لعل اليوميّة والصورة لا تعدو أن تكون محاولات للاحتفاظ بقطعةٍ من الماضي واستبقائها في الحاضر، وربما ادّخارها للمستقبل. كلاهما وسيلة لتعزيز انتقائية الذاكرة بطريقة مفيدة أكثر. كلاهما طريقة للالتفاف على الزمن ومقاومته. ذلك أن رصد المواقف والأحداث في الماضي يزيد الإنسان شعورا بالزمن، وأن كل شيءٍ عابر ومؤقّت. وهذا بدوره يقلّل من انغماسه في المواقف والأحداث أكثر مما يجب، كما لو أنه سجينها أبدا. وبهذا يكون تقييد الماضي وسيلةً للتحرّر منه، وأسلوبا للسباحة فوق الحاضر، عبورا متخفّفا للمستقبل.