الأحد، 12 فبراير 2017

منابت الفضاء العام


     مع التزايد الملحوظ في أعداد مرتاديها، شيءٌ ما يصنعه المطعم والمقهى والممشى والحديقة، الخ، مثلما المهرجانات بأنواعها، الترفيهي منها والثقافي. فضاء عام يجري تكوّنه، لعله ما يُكْسِب المدينة وجهها الحديث،  خصوصا مع القول بأنها منتج حداثي في الأساس. إطار فضفاض، يموج بالألوان والأشكال، أي تعدّدي. ما سيجعل من تنامي مقاومته للحشْر في أُطر أضيق : أمرا متوقّعا. لكن هل يمكن فعلا التضييق عليه ؟ ولماذا ؟ لا أعرف إن كان في الإمكان إيقاف نمو المدينة وتطّورها التلقائي، فمن يستطيع أن يعتزل العالم !

     لهذا التفتّح الدنيوي مآلات سياسيّة في نهاية المطاف، يتوجّس منها أي نظام حكم مؤسس على عقيدة دينيّة مغلقة، لأنها ستفرض عليه طريقةً مختلفة لإدارة سلطته، تتّسع فيها الشُقّة بين الديني والدنيوي، بما لا يمكن رتقه بفتوى. ولذا سيكون الرد إما مناطحة روح الحضارة التي تسيّر تاريخنا المعاصر، وهو خيار معدوم الجدوى، أو بالبحث عن مشروعيّة رديفة (مشروعيّة الإنجاز، نموذج دبي مثلا، أو المحافظة على الكيان، وأظن النموذج المصري أبرز أمثلته حاليّا).

     الفضاءات العامّة تقلب الأمزجة الشعبيّة، فيها يتلقّى الناس تمريناتٍ يوميّة على الاختلاف، فيكون -الاختلاف بحدَّ ذاته- مبعث أُنس، بعد أن كان مثيرا للنُفرة. انحسار أصاب القاعدة الاجتماعيّة للفكر الآحادي، التي يرى في التجانس خيرا تجب المحافظة عليه، بواسطة سياسة اللا تسامح، وتكريس مقدّماتها في قطاع التربية والتعليم. كما وسيتعالى السجال الذي يستبطن البحث عن شروطٍ جديدة لتعريف الشاذ والمنبوذ، ربما لأن ضغط الاستثناءات أثار الشكوك في مكانة القاعدة، وهو تغيّر اجتماعي يجب تسجيله. ومتى أصبحت المعتقدات الدينيّة في منزلة الآراء الشخصيّة، فإن الأرض قبلت بذور العلمانيّة، التي لا تعني في صورتها القانونيّة سوى فصل الديني عن الدنيوي، كما أن التسامح هي تعبيرها عن نفسها اجتماعيّا.

     نزعة الاستهلاك هذه تجرُّ معها قافلة من القيم والأفكار، ستبحث لنفسها عن تنظيم اجتماعي آخر، يناسبها. السؤال : هل كل ذلك مخطّط له ؟ هذا ما أستبعده تماما. ولنا أن نستنتج من ذلك أن تراخي الحكومة عن ضبط الفضاء العام وفقا لمرجعيّة، ما هو إلا استفتاح خجول لسياسة مختلفة وفقا لمرجعيّة أخرى، لا مناص من انتهاجها، ربما تفاديا للأكثر سوءا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق