الأربعاء، 25 نوفمبر 2015

مقتطفات (٢)


     إذن المرأة المسلمة شخصيّة غير منطقيّة (إذ كيف تقبل بهذه التناقضات) وغير سويّة نفسيّا (إذ كيف ترضى بهذه الإهانات)، مما ترتّب على ذلك أنه لا يحق لها المطالبة بأي حقوق إنسانيّة طالما رضيت لنفسها هذه الوضعيّة المهينة، وانجرّ هذا الرأي إلى تقبّل قمع المسلمين واضطهادهم في أوروبا والعالم، وهي عنصريّة حقيرة، لكن لماذا ؟ لأنه يوجد في موروث هذه الأمة ما لا يمكن القبول به اليوم. لكن هل يوجد موروث منسجم مع عالم اليوم، بما في ذلك موروث عصر النهضة والتنوير نفسه، الذي نفترض أنه أنتج عالم اليوم ؟ قطعا لا. مثلا، مونتسيكو وفوليتر وجون لوك كانوا يعتبرون الاسترقاق نتاجا قانونيا مشروعا للحرب. وآراؤهم في دونيّة المرة معروفة، بل لا تختلف مع ما نقرؤه عند الإمام مالك أو ابن تيميّة. قد يُقال وهل من الإنصاف محاكمة الحداثة بكل ما في موروثها ؟ طبعا لا يجوز كما لا يجوز محاكمة المسلمين بكل ما في موروثهم. ومن الشائع اليوم أن نرى مسلمين لا يقولون بقتل المرتد ولا بحرمة تولّي المرأة للمناصب العليا ولا بشرعية إعلان الجهاد على غير المسلمين لأنهم غير مسلمين .. إلخ. في تونس والمغرب وتركيا وماليزيا وغيرها، تزداد هذه الشريحة على حساب الأصوليّة التي تأخذ بحرفيّة النصوص والآثار (ومؤشرات اتجاهات الرأي العام تؤكد هذا الاستنتاج)، ذلك لأن الأديان ظواهر اجتماعيّة في النهاية، تتطوّر بتطوّر البشر، خصوصا جوانب التشريع فيها. ومن تضييع الوقت السعيُ لنقض ديانة من خلال تطبيقاتها التشريعيّة المتغيّرة بطبيعتها، وليست مفارقة أن أدلّة أكثر تلك التشريعات (كأحكام المواريث والشهادات والولاية وغيرها) ظنّية أساسا، ولهذا كانت محل خلاف فقهي، إذ لو توفّر الدليل القاطع ثبوتا ودلالة لحسم النزاع وانتهى الفقه، مما يثبت أنها كانت معالجات لواقع تاريخي معيّن. لهذا كنت أتساءل دائما : هل تلك الأحكام تقرر العدالة مطلقا أم العدالة تلك الأزمان ؟ وكان هذا ينقلني لتساؤل آخر : ما المطلق والنسبي في الشريعة ؟ لأجد نفسي تائها في تساؤل، أكثر تجريدا : كيف لنا أن نتصوّر عدالةً مطلقة أصلا والإنسان نفسه كائن نسبي ومتحوّل بيولوجيّا !

     على أيّة حال، من الواضح أنه بمرور الوقت تتضاءل المطلقات في الشرائع كلها، حيث يغدو الحجاب -مثلا، في الشريعة الإسلاميّة- نسبيّا والعفّة مطلقا. لكن ألم يكن الله يعلم بكل ما سيجري في التاريخ البشري من تطوّرات ؟ لا يبدو تساؤلا ساذجا جدا، لكن أظن أن كل جيل سيقرأ النص الإلهي في ضوء حاجاته. لكن هل المؤمن ينصاع لتشريعات ديانته لأنها فقط الأنسب له دنيويّا ؟ في الواقع لا، بل لأنها تصله بالحقيقة العليا للكون، وتمنحه معنى لوجوده. لهذا عندما ينقدح الشك في قلب مؤمن لا تعتريه فرحة التحرّر من القيود، بل يتزلزل كيانه ويشعر بالضياع المطلق وتعلوه كآبة. لعل هذا سبب تشبّت المؤمن بربّه، فهو على استعداد أن يتنازل عن كثير في سبيل حصوله على معنى يفسّر وجوده.

     نقطة أخيرة أحب تسجيلها، وهي أن مشكلة هذا الطروحات المتطرّفة أنها تنطلق من مبدأ أن تنوير الناس يبدأ من ضرورة تخليّهم عن أديانهم جملة، أي مطالبة المجتمعات المسلمة بما لم تصل إليه بعد المجتمعات الغربيّة.