الثلاثاء، 25 نوفمبر 2014

المفاتن كسراب



     المجرّب يعرف أن الصور التي تنشرها وكالات السياحة عن الأماكن السياحيّة مضلّلة، بنسبةٍ تصل في كثيرٍ من الأحيان إلى 70 %. لأنها ببساطة ترويجيّة، دعايّة مثل أي دعايّة، هدفُها تسويق المنتَج. ولأنه منتَج كأي منتج، فثمّة -لجذب الناس إليه- صناعةٌ ما، هي صناعة الدعاية والإعلان. هنالك إضافات فوقَ الواقع (المنتج، السلعة، .. إلخ) المراد تسويقه، إذ لو قُدّم هذا الواقع (المنتج، السلعة، .. إلخ) كما هو حقيقةً، لما استقطبَ كثيرا. لأنه إن لم يكن عاديّا، فهو قريبٌ من العادي. يبدو أن فكرة الدعايّة قائمة على إقناع الناس أن هذا المنتج غير عادي، بالتالي، تُقاس فعاليّتُها ونجاحها كدعاية في الطلب غير العادي، على هذا العادي! كما تُقاس الخديعة (أو الوهم) بالفجوة التي تخلُقها بين حقيقة الشيء وصورته في الدعايةكل ما تفعلُه الدعاية أنها تغرس فينا وهم الحاجة أو تثيرها بفنون العرض المغري.
     
      قد يكون التفكير في هذه الرغبة المصطنعة أو المستثارة سبيلا إلى اكتشاف حقائق جديدة عن الدعايّة وصورها، بافتراض أن الأولى (الرغبة) مجرد نتيجة للثانيّة (الدعاية). عموما، هنالك مجالات واسعة للبحث والتأمّل. لكن أليس صحيحا أن كثيرا من حاجاتنا تتولّد من "دعايات" ما، تفد إلينا من غير طريق وكالات الدعاية والإعلان، وبأهداف ليست ماديّةً بالضرورة، كالعشق والإعجاب مثلا ! الجدير بالذكر أن هذه "الدعاية" تفعل في النفس قريب مما تفعله تلك الدعاية التقليديّة، كما بها من الزيف والإيهام قريبا مما فيها، اللهم أن هذه أكثر بساطة، ذلك أن عمل الأفراد غير المحترفين، ليس كعمل الوكالات المحترفة.

     لاحظْ عندما تخرج لرحلة بريّة، كيف أنك تتخيّر الأماكن التي تلتقطها عدسة تصويرك، وبزوايا وأوضاع معيّنة. وكذلك من يذهبون للمطاعم أو المنتزهات، لا يجيلون عدساتهم في المكان، هكذا كيفما اتفق، لا، بل ينتقون الأفضل، وبدقّةٍ متناهية. وكذا من يصوّرون ذواتهم، حيث يعتنون بالصورة، بكافّة تفاصيلها، بحسب الذين ستُعرض عليهم، كثرةً ونوعيّة. تعطيك الصورة جزءا، وتترك الباقي (غير المعطى) لخيالك المفتتن بذلك الجزء. الكل يخفي أشياء (العيوب) ويبرز أشياء (المميّزات). أي يمارس تسويقا ما. فإن كان الهدف الكسب المادي، فهي تجارة. وإن كان من أجل كسب ثناء المعجبين، فهو الرياء والمفاخرة ونحوها. الجميع إذن مشارك في اللّعبة، خادعٌ ومخدوع، لأنه يقدّم صورةً عنه وعن واقعه، تفوق الحقيقة، كثيرا ما تكون زائفةً أو مضلّلة. الغريب أن الأكثرين يتبادلون المقالب، وبوعي !

     طبعا هذا لا يعني أن واقع الأشخاص عموما سيء أو قبيح، إنما يعني أنه أقل مما يتظاهرون به بدرجاتٍ تتفاوت بين شخصٍ وآخر. لكنهم -في المجمل- أقل منها، بلا شك. نظرة عامّة إلى حسابات أنستغرام توحي أن الجميع تقريبا غارقون في حياة النعيم والترف.

     لو تأمّلنا هنا مليّا، لربما تكشّفت لنا حقائق الافتتان بالأشخاص أو الأشياء، وأنها نابعة من خيالاتٍ وأوهام، بدليل أننا إذا اقتربنا أكثر من تلك "الفتن" وعايشناها، لزالت الغشاوة وصحا العقل من سكْرات التعلّق والرغبة والاشتهاء، ولربما فهمَ أن سرِّ الافتتان بالشيء، هو غموضه أو الجهل به. على هذه الجهالة والغموض تعتاش الدعايّات، وتفرّخ الأوهام، وتنتشر الأضاليل. هذا يقودني إلى الزعم بأن فهم الإنسان كثيرا ما يورثُه رضى وقناعةً وغبطة هادئة.




الاثنين، 24 نوفمبر 2014

كيف يموت الحب



     لكل شيء عمرٌ افتراضي، خصوصا البشر وما يتعلّق بهم، كالحب مثلا، هذا الذي يبدو انتهاءَه أحيانا وكأنه شاذ أو خارج عن الطبيعة. كالموت، يفرضُ الحب المنقضي نفسه علينا، فنتلقّاه مكلومين كما نتلقّى مصيبة الموت. كالبشر، الحب يُولد، فيشب، فيهرم، فيشيخ. تتعاوره الأسقام، فيُشفى منها مستردّا عافيتَه كلها أو بعضها، لكنه -في النهاية- يموت. هو الحب كما هي الحياة، كل شيءٍ فيها بالنسبة لنا مؤقّت، لأننا فيها مؤقّتون أصلا. إذا ماتَ الحب بيننا كيف نصنع؟ ببساطة، نحسن تشييعه لمثواه الأخير، في ذاكرتنا. ندفنُه هناك حتى لا ننساه، ذلك أن كرامة الحب إذا تُوفّي هي استذكارُه بوفاء. ثم اقتسام تركته ودَّا وصداقةً وتعاطفا. هذه هي ثمرة الحب التي تبقى، نقتطفها بعده، ربما زمنا طويلا.

     موت الحب لا تعني بالضرورة تعثّره أو فشله، فقد يموت لأنه استنفد عمره، وعاش كما ينبغي أن يعيش، في حدود طبيعته. كأي شيء متناهي وسينفد. لهذا لا يجب أن تُبنى الارتباطات المؤبدة (كالزواج) على الحب وحدَه، لأن حياته -مهما طالت- لن تكون بطول حياة الزوجين. أقصر بكثير. وإن جعلا الاستمرار معا مرهونا بالحب، مشروطا بوجوده، فلا يعني هذا سوى أنهما قد قرّرا سلفا أن يُحدّدا للزواج أمدا قصيرا نسبيا. وهذا مصير من يضعون الزواج غايةً للحب.

     عادةً يريد هؤلاء بالزواج وضعَ إطار شرعي للعلاقة. لا يفكّران بأكثر من "الحلال" والمباركة الاجتماعيّة لارتباطهم. ومن يتذاكون قليلا، فيعكسون الآية، بجعل الحب غاية الزواج وهدفَه، فإنهم في الحقيقة يحوّلون، مع مرور الوقت، عُشَّ الزوجيّة إلى غرفة "إنعاش حب"، مرهقة ودائمة. يمضون معظم حياتهما في عمل المستحيل، وهو ألا يلفظ الحبُّ أنفاسه الأخيرة على فراشهم ! أعتقد أن أفضل ما يقدّمه الحب، هو أن يؤسس لعلاقةٍ أخرى، ترثه، أكثر عقلانيّة، تقوم على التفاهم المتبادل. خلافا للحب، هذا الذي علينا أن نتعامل معه كمرحلة وحسب. كاللّذة المصاحبة لكل جديد، ما دامَ جديدا. إن علاقة الحببين كعلاقة الصديقين، يستمتعان ببعضهما أول الأمر، ثم يتعاونان للاستمتاع بأشياء أخرى. إنه الرُفقة إذن.

     ما يتناقلُه الرواة مشافهةً أو في بطون الكتب، عن قصص "الحب الخالد"، كقيس وليلى، جميل وبُثينة، كُثيّر وعزّة، وغيرهم، أراه محل شكٍّ كبير من حيث ثبوته، هذا أولا. ثانيا، من حيث مضمونه، إذ تبدو تلك القصص شذوذا عن القاعدة، أمور لا تُصدّق قياسا بالمعهود من حال الناس. وثالثا، أنها كلها لم تتوّج بزواج، ما لعله يخفف من غرائبيّتها. فلو قُيّض لأولئك المتفانين في عشقهم أن يسكنوا بيت الزوجيّة سويّةً، لماتت قصصهم خلف أبوابه. كما أن النهايات المأساويّة، ربما هي التي كتبت الخلود لأصحابها. فذلك الحب طال عمره، لا لشيءٍ، سوى أنه أُجهض !

     فائدة الحب للزواج أنه يتيح فرصةً لتعارف دافئ، يقرّب أحدهما للآخر جدا، مما يسمح له باستكشافه بصورةٍ أفضل. لكن مشكلته أنه شاعري، يسلب الألبابَ أحوجُ ما يكون إليها شخصٌ بصدد تقرير مستقبله مع شخصٍ آخر، مدى الحياة، ولأن احتمالات الإنجاب واردة جدا. وهذه مسئوليّة لا يُنتظر من سُكارى بخمر الحب التيقّظ لها. بعبارةٍ أخرى: الحب أعمى، بحيث لا يصلح مرشدا في رحلة زواج طويلة.

     في المجتمعات المنفتحة تبدو الأمور أسهل وأكثر بساطة، متى ما جمع الهوى بين اثنين، تصاحبا تحت الشمس. فإذا شبعا وأدركهما الملل، أطلقَ كلُ واحدٍ منهما ذراع الآخر في الهواء. لا زواج ولا ذريّة. البعض منّا يقرأ أخبار المشاهير منهم، ويستغرب من ارتباطاتهم العاطفيّة وانحلالها السريع، كيف أنها متعددة وكثيرة ! وهذا هو الوضع الطبيعي في نظري، لأنها علاقات حرّة، تُرك مصيرها بيد الشغف والرغبة وحدها، وهي متقلّبة بطبيعتها، بنسبةٍ تختلف من شخصٍ لآخر. كما أن عامل "الحلال" والمباركة الاجتماعيّة والرغبة في الإنجاب، تقريبا مفقود هناك، لأسبابٍ معروفة. إضافةًَ إلى أن الزواج لا يُعتبر، بالنسبة للمرأة، شرط استقرار وعامل أمان، لأن مركزها في المجتمع قوي أساسا.

الخميس، 20 نوفمبر 2014

حول مواقع التواصل الاجتماعي (تأمّلات تنقصها السياسة)



     الشيء الذي أعطته مواقع التواصل الاجتماعي للناس هو "التشارك"، بحيث تنخرط معهم بمجرد افتتاحك لحساب فيها، فإذا أنت في خضمّهم. هذه المواقع أنواع، أعرقها الفيسبوك، بحوائطه الفسيحة، التي تزدري الإيجاز. جاء بعده العيّي الشحيح : تويتر، وليس في جعبته سوى مائة وأربعين حرفا لا أكثر، بعدها تُسحب الورقة. فتكسّرت أقلامٌ اعتادت الإطناب والاستفاضة. لكن لم يلبث أن غرّدَ على أغصانه -أي تويتر- الذئبُ والبعير والدجاجة. ثم ظهر أنستغرام، فذهب في الإيجاز حدَّ إلغاء الكلمة نفسها، فأحلَّ الصورة محلَّها بالكامل، وصارت هي المتن الأساسي. الفوتوغرافيا هي معجم أنستغرام، ولذا كانت لغته موحّدةً على مستوى العالم. فتستطيع أن تتصفّح حسابات صينيّين مثلا من غير أن تعرف كلمةً صينيّة واحدة. طبعا هنالك موقع شهير نوعا ما، اسمه ساوندكلاود، يعتمد على الصوت. يمكننا أن نضعه حيث نضع الصوت بين الكلمة المسيّجة بلغة خاصّة، والصورة المطلقة العِنان في فضاء البصر. ذلك أن الصوت فيه من خصوصيّة اللّغة وعموميّة الصورة، ربما لأن معجمه هو الموسيقى.

     هل هذه المواقع مجرد موضات عابرة ؟ إذا اعتبرنا أن ظهور السيارة كان موضةً عابرة، فهذه المواقع هي إذن موضة عابرة. نعم، قد يفقد تويتر مثلا زخمه مع الوقت، تاركا المجال لموقع آخر يأخذ مكانه. أعني أن فكرة التواصل الاجتماعي ستظل باقية، الذي سيتغيّر هي المواقع وصيغ العرض ومضامينه، وما إلى ذلك. على أيّة حال، أعتقد أن هذه المواقع ثورة تقنيّة ومعرفيّة وذوقيّة هائلة، حدث مفصلي في تاريخ الوعي الاجتماعي والثقافي على مستوى العالم. يُقال إن اختراع الطباعة قلبَ أوروبا رأسا على عقب، وأظن أن مواقع التواصل الاجتماعي ستقلب العالم. كيف؟ وإلى أين؟ هذا موضوع أكبر من إمكانيّات مقالة، سأتحدث فقط عن أنستغرام أكثر وساوندكلاود أقل، كلاما لو غيّر القارئ فيه بعضَ الشيء، لانطبقَ على الفيسبوك وتويتر، أو مجمل مواقع التواصل الاجتماعي.

     للصورة محتوى ودلالة كالكلمة. وإن عرضها صاحبها للفُرْجة، فهي حتما ستعبّر عنه. بل أظن أن اعتزامه مسبقا أن ينشرها سيؤثّر في محتواها، ذلك أنه يريد بواسطتها أن يقول شيئا. ينطبق هذا على الصوت المنتقى في ساوندكلاود، الأغاني أو المقطوعات التي تعرضها تعبّر عنك، تريد أن تقول بها شيئا. مكوّنات الصورة والأغنيّة ليست من ابتكارنا، هي أشياء نجدها مكتملةً، ثم نستخدمها. ربما لهذا لا تبلغ شهرة المصوّر، مهما كان مبدعا، خُمْس أو عُشْر شهرة المغنّي أو الأديب. صحيح، هنالك فرق بين المصوّر البارع الفنّان، وبين المستمع الذوّاقة، فالأخير لا يعدو أن يكون مستقبِلا رائعا وحسب، بخلاف الأول، إذ يبدو منتجا، ثمّة إضافة لديه. وبالتأكيد، من بيده كاميرا لديه لمسات خاصة، يفتقدها واضعُ السمّاعات بأذنيه. ولذا كان جمهور ساوندكلاود مغمورين، وأعتقد أنه الموقع الوحيد، بين مواقع التواصل الاجتماعي، الذي يخلو من مشاهير. طبعا هذا افتراض قادني إليه التحليل، لم أتحقّق منه. المهم، قارنْ بين الشعبيّة التي تحضى بها مهرجانات الطرب والأدب وجوائزها، بتلك المعنيّة بالفوتوغرافيا. ولا أعرف إن كان هنالك من جائزة لأفضل سمّيع !

     لاحظت أن الفجاجة العامّية في ساوندكلاود أقل، ولم أجد لهذا تفسيرا سوى أن جمهوره لا يعبّرون عن أنفسهم سوى بأشياء ليست من صنعهم، أغاني أو مقطوعات، وأحيانا محاضرات. وسيلتك في التعبير تكشفك أكثر، بقدر تدخّلك في تكوينها. ولذا كان المرء -كما يقول العرب- مخبوءٌ تحت لسانه. لا شيء يدل عليك كالكلمة. وهذا ما جعل فيسبوك وتويتر يعجُّ بالتفاهة. في أنستغرام وساوندكلاود الأمر يختلف. كم أُعجبت بشخصٍ في   ساوندكلاود بسبب اخياراته الرائقة، وكم دُهشت وأنا أتصفّح حسابه في أنستغرام، فأتوقّف فورا عن دخول حساباته في تويتر وفيسبوك، كي لا أخسره !

     ختاما، الرسالة التي أود أن تصل لجمهور أنستغرام، هي أن الأنيق ليس بالضرورة هو الفخم. وإن صحَّ ما يقوله بارت بأن "الصورة تكرّر ميكانيّكا ما لا يتكرر وجوديّا"، فأنتم غارقون في الهياط بصورةٍ مذهلة.. ولغوغاء تويتر : بسببكم أمنتُ بالحكومة بعد كفر.. ولسمّيعات ساوندكلاود قبلاتي التي من الصعب أن تكون أخويّة ونحن في مطلع الشتاء.


الثلاثاء، 11 نوفمبر 2014

الشغفُ رعبا



     مهما قيل، فأظن أن الولع بأفلام الرعب الدموي سلوك غير سوي، منافٍ لطبيعتنا في الركون لكل ما يشعرنا بالأمان والسلامة، وتفتيشنا (المضني أحيانا) عمّا ينفّس عنا ويبعث على الابتهاج، ونفورنا من العكس. ولا أستبعد أن هذا الشغف الغريب ينطوي على نوازع إجراميّة كامنة في الشخص، قابعة في أعماقه، حيث يستعيض عن ممارسة القتل والتعذيب بالتلذذ بمشاهدته، كما يستعيض الشَبِقُ بمتابعة أفلام السكس عن الممارسة، إذا استعصت عليه كما يشتهيها، ولأسباب مَدَنيّة خالصة. فرويد يقول إن نوازع البشر يتنازعها الشبق والعدوان.

     لعلماء النفس آراء متعدّدة حول هذه الظاهرة، فمنهم من يرى أن هؤلاء يستمتعون بالتغيّرات الفسيولوجيّة الحادة التي تطرأ عليهم أثناء تعرّضهم للرعب. آخرون يذهبون إلى أن المتعة المنتظرة، خصوصا لدى المراهقين، لا تحصل إلا بعد الموقف المرعب، لشعورهم أنهم قد صمدوا وانتصروا على الخوف. بمعنى أن الرعب أداة للاختبار، لا للمتعة. فريق ثالث يقول إن الباحثين عن الفزع همُّهم هو الخروجُ من رتابة حياتهم اليوميّة، حيث يجدون فيه، أي المفزع (أفلاما، ألعابا، نشاطات، الخ) حجرا كبيرا، يُلقون به في بحيرة حياتهم الراكدة. المسألة تغيير إذن، خروج عن عادتهم المألوفة. هنالك تفسيرات أخرى، من أكثرها غرابةً، في نظري، الزعمُ بأن هؤلاء، بينما يحبسون أنفاسهم هلعا أمامَ المشاهد المريعة، تملؤهم غبطةٌ خفيّة بأنهم في مأمنٍ مما يرونه. هنا متعتُهم !

     لا أدري إن كان هنالك من فسّر إدمان مشاهدتها تفسيرا مازوخيّا، حيث يستمتع الشخص (المريض) بإرهاب نفسِه، مذعورا بين مشاهد الأشلاء والوحوش والجلّادين العتاة.

     عموما، تناولُ علم النفس لهذه الظاهرة، مثل تناوله لأي ظاهرةٍ سلبيّة أخرى، كتعاطي المخدّرات أو الدعارة. والتفسيرُ ليس تبريرا بحال. والظاهرة ما تزال خصبةً للدراسة، مفتوحةً للبحث والتأمّل. وشخصيّا، أظن أن التشويق والإثارة من أكثر التفسيرات إقناعا، بقطع النظر عن مقاصد هوّاة الرعب، والمحيّر أن للتشويق والإثارة أسبابا أخرى، غير التعرّض للفزع، المتمثّل في هذا الصنف من الأفلام بالدرجة الأولى، وما تفيضُ به من قتلٍ وسلْخ وتقطيع مقزّز، فهل يجهل مدمنوها أن للإثارة والتشويق أساليب وطرائق أخرى !

     دراسات عديدة ربطت بين ارتفاع معدّلات الجريمة وانتشار أفلام العنف، فما بالك بأفلام الرعب، إذ فيه ما هو أشنع من مجرد السطو والعراك وإطلاق النار ! أميلُ للاعتقاد بأن استمراء الإنسان لأجواء الرعب والعنف المفرط، وتطبيع وعيِه عليها بالمدوامة والتكرار، تزيل مع الوقت رهبتَه من الدم، وتجعله يستخف بالقتل، ويتعايش نفسيّا مع : الرؤوس المحطّمة، والأوصال الممزّقة، والعيون المفقوءة، والبطون المبقورة، إلخ. أي تخلق في داخله سفّاحا صغيرا، من المحتمل أن يكبر، ذلك أن الإدمان وليدُ تقبّل في الأساس.

     هل تذكرون كيف استنكرَ كثيرون صورا التُقطتْ لأطفالٍ صفّوا أمامهم رؤوس أضاحي من الغنم، يسخرون بسفّاحي داعش، وهم يتصوّرون وبين أيديهم رؤوس ضحاياهم من البشر ؟ أظنهم -المنددّون بالصور- استشفّوا منها تقبّلا ما، لفعائل داعش. بمعنى أنهم وضعوا الصورة في إطارها الثقافي. لكن أليس ما يُعرض في أفلام الرعب أعظم هولا ؟ إن تكنولوجيا السينما ألغت الفرق تماما بين الافتراض والحقيقة، بل جسّدت الخيال ونفخت فيه الروح. كما يبدو أن الدخول العالية التي تدرُّها أفلام الرعب على كبرى الشركات المنتجة -كما التبغ وشركاته الكبرى- تقفُ، بما لها من نفوذ، حاجزا منيعا أمام حملات المناهضة. لكن لعل ما حُُقّق في مكافحة التبغ من تقدّمٍ يسير أن يُحرز مستقبلا في مكافحة أفلام الرعب والعنف، إذ لهذه أضرارٌ لا تقل عن تلك. والله أعلم.

الأربعاء، 5 نوفمبر 2014

في ذم العبقريّة والنجاح !



     تستهويني القراءة في المذكّرات والسير الشخصيّة لألمع المشاهير؛ فلاسفة، علماء، سياسيّون، رجال أعمال، أدباء، فنّانون .. الخ. بدا لي أنهم يشتركون في عدّةِ أشياء، أبرزُها في نظري : الترتيب. أي العمل وفق خطّة مدروسة. ثم المثابرة على التقيّد بها. ربما يتميّزون عن غيرهم، بكون الواحد منهم قد حدّد أهدافه مبكّرا، منذ وقتٍ طويل، وكرّس جهوده ليصل إليها. عملُه تراكمي، لا مجال فيه لتبديد الجهود وتضييع الأوقات. ولأن الوقت ينضب، فكل خطوةٍ لا تقرّب للهدف، فإنها تُباعد منه. الناجح شحيحٌ بوقته ضرورةً، لأنه يريد أن يختصر الزمن، ليحقّق في سنواتٍ معدودة، ما يستغرق من الناس العاديين عقودا -أو قرونا- ليحقّقوه. ولذا كان "الترتيب" جوادَه الذي يراهن عليه لشقِّ ميادين الحياة بسرعةٍ قياسيّة، وهل النجاح الباهر شيءٌ غير السباق مع الزمن !

     تُقاس المساحة التي يغطّيها الترتيب والانتظام من حياة هؤلاء، بعلو القمّة التي يصبو إليها أحدهم. كلما كانت شاهقةً، اتّسع في حياته نطاقُ الترتيب والانتظام، حتى يستغرق تفاصيلها الصغيرة. ولذا كان العبقري الفذُّ آلةً خالصة، لا يكل ولا يمل. يكاد صبرُه الدؤوب على رتابة الحياة وانتظام نشاطاته فيها، أن يكون موهبتَه العظمى ! هل لاحظتم كم هي صارمةٌ حياتهم، لا مكان فيها لفوضويّةٍ أو مزاج طاغٍ في تقلّبه أو أهواء جارفة ! لعل هذا أن يفسّر ضمور عواطف العباقرة والناجحين الكبار. الواحد منهم كتلةٌ مصمتة من العقل والإرادة. إنه ليرى نهاية طموحه، قمّته المرتجاة، وكأنه وإيّاها نقطتان، يكافح أن تكون مجريات حياته خطّا مستقيما يصلُ بينهما. وحتى لا يتذذب الخطُ أو يعوجُّ، كان عليه أن يوقد على عزيمته النار. طبعا، لا أجادلُ فيما قدّموه للإنسانيّة، ولا أشكّك في عظمتهم. لكن نمط حياتهم يبدو لي ثقيلا، شديدَ الوطأة، لا يُطاق. أحيانا يُخيّل إليَّ أنهم كائناتٌ عجيبة، تشبهنا وليست مثلنا، إنما خُلقت من أجلنا.

     على أيّة حال، وبما أنني سأحيا لمرّةٍ واحدة على الأكثر، فأتمنى لو عشتُ بكامل كياني، بكل ما بي من نوازع وانفعالات وأهواء وتعقّل. لا أفكّر في الاستسلام لخطّةٍ شاملة تحكم حياتي، أنصاع لبنودها وأتقيّد بمراحلها. لن أبخل على نفسي بأي بهجةٍ سانحة أو فرحٍ طارئ، وسأحاول أن أرّبي لحظاته وأتيح لها فرصة التكاثر والانتشار. باختصار، سأحترم الفوضى وأقمع النظام. ليس في حياة العبقري ما يغريني بالتّشبه به، ولا أرى ابتسامات كبار الناجحين سوى جزء من الكاميرات التي تحيط بهم، تُطفئ معها إذا أُطفئت. نعم، قد نُبهر بهم والأضواءُ عليهم مسلّطة، فنتمنّى أن نكون مثلهم. لكننا لا نفكّر بالثمن الباهض الذي دفعوه، ليصلوا إلى ما وصلوا إليه، وهلعَهم المزمن من احتمال أن ينحدر مستواهم وينزلوا عن العرش يوما ما، ذلك أن الاحتفاظ بالصدارة أصعبُ من الوصول إليها، يالَشقائهم ! ربما يجدون في الشهرة والمجد والمراتب العالية عزاءً من كل ما لاقوه في سبيلها من تعبٍ ومشاق، لكن أظنها -الشهرة وأخواتها- كالحسناء التي تبهتُ مع الوقت، ليبقى التعبُ في المحافظة عليها مجهودا ضائعا بلا مردود حقيقي، وكثيرا ما تكون الشهرةُ مضنيةً وسببا -هي نفسُها- للشقاء والتعب.

     الطُمُوح يمدُّ العبقري المنقطع لعمله بالطاقة التي يحتاجها لبلوغ القمّة السامقة، تماما كالإيمان التي يمدُّ العابد المنقطع لمحرابه بالطاقة التي يحتاجها لبلوغ الفردوس الأعلى. والقمّة -كالجنّة- حُفّت بالمكاره. وكلُ نجاحٍ استثنائي مجرد نتيجة لصبرٍ وتجلّد استثنائي على الحرمان. كل ما هنالك أنني مقتنعٌ أن كليهما يطاردُ وهَمْا، ينفق عمره في الحرث والزرع، لنيل ثمرةٍ لا تُقطف إلا آخر العمر أو بعده ! فهل هي صدفةٌ أن في كبار المتصوفة مجاذيب، وفي كبار العباقرة مجانين !


الأحد، 2 نوفمبر 2014

هوى بنت الشيخ كمفصل تاريخي


     يُحكى أن زعيما قَبَليّا مرموقا زوّجَ ابنته من رجلٍ شبّبَ بها في أشعاره (تغزّل بها)، فكسر -أي شيخ القبيلة- تقليدا راسخا منذ لا يُدرى متى، يقضي بتحريم الفتاة على من يذكرها في شعرِه متغزّلا، تحريما مؤبّدا. يتوارثُه الناس، جيلا بعد جيل، كباقي عاداتهم وتقاليدهم. يختلقون له التبريرات المتنوّعة، ليبقى وجودُه معقولا، والتمسّكُ به ذا معنى، إلى أن جاء رجلٌ يملك سلطةً ما، فوق عاديّة، فهتك قدسيّتَه، وجرّأ بعضَ الناس على الخروج عليه. مع الوقت، كثُر عددهم، وأخذت التبريرات المحافظة تفقد منقطيّتها. شيئا فشيئا حتى تلاشى التقليد واضمحل، وصار تزويج الحبيبن شيئا طبيعيا، بل ومشروعا.

     
الطريف في الأمر أن شيخ القبيلة كان مضطرّا لتفجير ثورة في وجه التقاليد، حيث إنه وجدَ أن منع ابنته المدلّلة من الزواج بمحبوبها سيفضي بها للموت، لا محالة. ولأنها كانت وحيدتَه وثمرةَ قلبه، فقد كان مستعدَّا للتخلّي عن حياته من أجل سعادتها، وليس بمركزه الاجتماعي فقط. فكانت خطوته الانتحاريّة تلك. ولأنه فارس مغوار، فقد غامر بمستقبله برابطة جأش، تماما كما يصنع في معاركه، حين يخوض غمار الموت مبتسما، لينجو في كل مرّةٍ بأعجوبة، ويعلو في قومه ويسود، ويكتسب رمزيّةً فائقة.

     
أرى أن تُدرج هذه القصّة في قائمة روائع المكتشفات التي عُثر عليها صدفةً، ذلك أن مجازفة الشيخ نفضت -عن غير قصد- الترابَ عن ركائز التقليد المتّبع، وكشفت أنه يستمد سلطانه فقط من غموض بداياته، أولا. ومن تواطئ الناس لا شعوريّا على التسليم به، ثانيا.. الغموض يساوي عدم المعرفة، أي الجهل. هذا الجهل، هو بالذّات، من يشحذ المخيّلة بشتّى الأساطير والتفسيرات والتعلّات، التي تُساق بوصفها مستندات التقيّد بالتّقاليد.

     
الغريب أن الملتزمين بذلك التقليد الظالم المفرّق بين الأحباب، كانوا يتسامرون في إنشاد قصائد التشبيب والغزل. يحفظونها ويدندنون بها، ويغنّون. وربما يبكون رِقّةً أو شوقا. لكنهم، كأفراد، يحرصون على إخفاء هذا الانفعال الوجداني عن بعضهم، وكأنه منقصةٌ أو عيب. وإذا وقفوا على واحدٍ منهم يترنّمُ باكيا لوحده، كانت فضيحته مدوّيةً! أليس عجيبا أمرُ هذا الذي يستلذّه الناس ويحنّون إليه إذا اختلا كلٌ منهم بنفسه، فإذا اجتمعوا تمالؤوا على نبذه وازدرائه، أو تظاهروا بذلك أمام بعضهم؟! كم يستوقفني مجتمعنا المحافظ، وهو يحتقر المطربين والممثلين كأشخاص، ويستخف بالطرب والتمثيل كممارسة، بينما لا تكفُّ مسجّلاتهم وتلفزيوناتهم عن بثَّه ليلا ونهارا. كما لو أنهم، بهذه المفارقة، ذلك المعتوه الذي يستقذر طبّاخا، وهو يأكل على مائدته كل يوم، من غير أن يجبره أحد !

     
يشبُّ الصبي وله ميول فنيّة، لكن يُربّى على كبتها، فيموت الفنّان فيه باكرا، كمؤودةٍ لا ندري بأي ذنب قُتلت. وتنشأ الفتاة وفي عنقها طوقٌ من العيب والحرام، يضيقُ كلما كبرتُ، حتى يخنق أنوثتها، فتشبُّ وبعاطفتها ووجدانها عاهات، حيث تهرم وهي لا تعرف كيف تحب وتعاشر.. ألسنا بحاجةٍ لشخصيّة كبيرة تشبه ذلك الشيخ المقدام، علَّها أن تكسر التقاليد التي طالما حالت دون الاعتراف الصريح بالكثير من المتع والمسرّات والفنون؟! أظن أن التقاليد لا تتزحزح إلا بمكافئ يوازيها معنويّا، كشخصيّة استثنائيّة مثلا، فالفن حتى يتحوّل لثقافة عامّة، ويكون جزءا من التقليد المتّبع وليس خروجا عليه، يحتاج فنّانين يتمتّعون بشخصيّات كبيرة، تفرض احترامها، وكذا الفكر والدين والحب .