الثلاثاء، 25 نوفمبر 2014

المفاتن كسراب



     المجرّب يعرف أن الصور التي تنشرها وكالات السياحة عن الأماكن السياحيّة مضلّلة، بنسبةٍ تصل في كثيرٍ من الأحيان إلى 70 %. لأنها ببساطة ترويجيّة، دعايّة مثل أي دعايّة، هدفُها تسويق المنتَج. ولأنه منتَج كأي منتج، فثمّة -لجذب الناس إليه- صناعةٌ ما، هي صناعة الدعاية والإعلان. هنالك إضافات فوقَ الواقع (المنتج، السلعة، .. إلخ) المراد تسويقه، إذ لو قُدّم هذا الواقع (المنتج، السلعة، .. إلخ) كما هو حقيقةً، لما استقطبَ كثيرا. لأنه إن لم يكن عاديّا، فهو قريبٌ من العادي. يبدو أن فكرة الدعايّة قائمة على إقناع الناس أن هذا المنتج غير عادي، بالتالي، تُقاس فعاليّتُها ونجاحها كدعاية في الطلب غير العادي، على هذا العادي! كما تُقاس الخديعة (أو الوهم) بالفجوة التي تخلُقها بين حقيقة الشيء وصورته في الدعايةكل ما تفعلُه الدعاية أنها تغرس فينا وهم الحاجة أو تثيرها بفنون العرض المغري.
     
      قد يكون التفكير في هذه الرغبة المصطنعة أو المستثارة سبيلا إلى اكتشاف حقائق جديدة عن الدعايّة وصورها، بافتراض أن الأولى (الرغبة) مجرد نتيجة للثانيّة (الدعاية). عموما، هنالك مجالات واسعة للبحث والتأمّل. لكن أليس صحيحا أن كثيرا من حاجاتنا تتولّد من "دعايات" ما، تفد إلينا من غير طريق وكالات الدعاية والإعلان، وبأهداف ليست ماديّةً بالضرورة، كالعشق والإعجاب مثلا ! الجدير بالذكر أن هذه "الدعاية" تفعل في النفس قريب مما تفعله تلك الدعاية التقليديّة، كما بها من الزيف والإيهام قريبا مما فيها، اللهم أن هذه أكثر بساطة، ذلك أن عمل الأفراد غير المحترفين، ليس كعمل الوكالات المحترفة.

     لاحظْ عندما تخرج لرحلة بريّة، كيف أنك تتخيّر الأماكن التي تلتقطها عدسة تصويرك، وبزوايا وأوضاع معيّنة. وكذلك من يذهبون للمطاعم أو المنتزهات، لا يجيلون عدساتهم في المكان، هكذا كيفما اتفق، لا، بل ينتقون الأفضل، وبدقّةٍ متناهية. وكذا من يصوّرون ذواتهم، حيث يعتنون بالصورة، بكافّة تفاصيلها، بحسب الذين ستُعرض عليهم، كثرةً ونوعيّة. تعطيك الصورة جزءا، وتترك الباقي (غير المعطى) لخيالك المفتتن بذلك الجزء. الكل يخفي أشياء (العيوب) ويبرز أشياء (المميّزات). أي يمارس تسويقا ما. فإن كان الهدف الكسب المادي، فهي تجارة. وإن كان من أجل كسب ثناء المعجبين، فهو الرياء والمفاخرة ونحوها. الجميع إذن مشارك في اللّعبة، خادعٌ ومخدوع، لأنه يقدّم صورةً عنه وعن واقعه، تفوق الحقيقة، كثيرا ما تكون زائفةً أو مضلّلة. الغريب أن الأكثرين يتبادلون المقالب، وبوعي !

     طبعا هذا لا يعني أن واقع الأشخاص عموما سيء أو قبيح، إنما يعني أنه أقل مما يتظاهرون به بدرجاتٍ تتفاوت بين شخصٍ وآخر. لكنهم -في المجمل- أقل منها، بلا شك. نظرة عامّة إلى حسابات أنستغرام توحي أن الجميع تقريبا غارقون في حياة النعيم والترف.

     لو تأمّلنا هنا مليّا، لربما تكشّفت لنا حقائق الافتتان بالأشخاص أو الأشياء، وأنها نابعة من خيالاتٍ وأوهام، بدليل أننا إذا اقتربنا أكثر من تلك "الفتن" وعايشناها، لزالت الغشاوة وصحا العقل من سكْرات التعلّق والرغبة والاشتهاء، ولربما فهمَ أن سرِّ الافتتان بالشيء، هو غموضه أو الجهل به. على هذه الجهالة والغموض تعتاش الدعايّات، وتفرّخ الأوهام، وتنتشر الأضاليل. هذا يقودني إلى الزعم بأن فهم الإنسان كثيرا ما يورثُه رضى وقناعةً وغبطة هادئة.