الاثنين، 1 فبراير 2016

الليبرالية كأسلوب عيش


     لا يوجد دين أو مذهب أو إيديولوجيا إلا وهو يدعو إلى إطلاق حرّية الناس، لكن في إطار أفكاره. أي تحرير أتباعه والمؤمنين به، ثم منحهم الحقَّ في تحديد حرّيات الآخرين. وحدَها الليبراليّة تدعو إلى تحرير الفرد، أيّا كان دينه أو مذهبه أو إيديولوجيّته. تحريرُه مِنْ كل ما يحول دون تمثّل قناعاته والعيش بمقتضاها بسلام. ربما لأن الليبراليّة -كما يقول العروي- نتجت من معاناة الحدود. ولذا كانت ضد كل قيدٍ على الفرد لا ينبع من ذاته. أنت -في الليبراليّة- حرٌّ في اختيار قيودك التي تشاء. لا أجد في الليبراليّة مضمونا فكريّا آخر، عدا هذا. ولذا لم تكن إيديولوجيا، أي نظاما من المعتقدات النهائيّة الباتّة، بل كانت دعوةً للتعايش واحترام الاختلافات. أو كأسلوب حياة متسامحة. تكاد الليبراليّة ألا تُعنى بالفلسفات والأفكار الكليّة، فهي غير مهمّة تقريبا، المهم هو الفرد. أي حرّيته وحقُّه الطبيعي في اعتناق أيٍّ منها. وضوحُها وبساطتُها هذه هي سرُّ قوّتها ونفوذها العظيم في الأديان والمذاهب والإيديولوجيّات، لأنها لا تقدّم نفسها بديلا عن شيءٍ منها. هي فقط مجال اجتماعي، يمكنها -أي الأديان والمذاهب والإيديولوجيّات- أن توجد فيه بدون صراع، حتى اعتقد بعضُ منظّريها أنها نهاية التاريخ وذروة التطوّر الاجتماعي، لأنها وضعت حدا للصراع المسيّر لحركة التاريخ.

     منذ القِدم تأسست المجتمعات متجانسةً، تحكمها تصورات موحّدة تقريبا، في المعتقدات والأخلاق والسلوك. وكانت باستمرار تنفي غير المتّفق معها، وتنبذه نبذا لا هوادة فيه، وتعتبره انحرافا يجب التخلّص منه. ذلك أن عدم الاتّفاق معها كان بمثابة خروج عليها ! وبمرور الوقت تحوّلت المجتمعات، بفعل عوامل الدمج والمجانسة، إلى كتلٍ بشريّة ضخمة، مكوّنة من أفرادٍ مكرّرين، مجرد نسخ متطابقة، هي السواد الأعظم. كان المختلف شاذَّا إذن، حيث يبدو نتوءا مؤذيّا عن الصف الصقيل، الأمر الذي جعل أول متطلّبات اللباقة الاجتماعيّة هي مطابقة الجميع والتماهي معهم. مع بزوغ الليبراليّة انتهى كلُّ هذا، فحلَّ التعدد محلَّ الآحادية، وتلوّنت المجتمعات، وصار أول متطلّبات اللباقة الاجتماعيّة هو التسامح .. الذي اختلَف هو الموقف من المختلِف، فلم يعد أحدٌ وصيّا على مثله. ومن يرى أن لديه فكرةً عظيمة مثلا أو ضروريةً للبشر بأي معنى كان، فليس له سوى أن يُقنعهم بها. الأفكار العظيمة ليست بحاجة سيف أو مدفع، ولّى عصر الإرغام والقسْر، بالعكس، الفكرة المسلّحة بغير الحجّة والبرهان، باتت مثار شك.

     أوجدت الليبراليّة مجتمعا ضعيفَ الدولة، قويَ المؤسسات. القانون فيه ليس لفرض الحرّية، إنما لحمايتها، لأن الحرّية لا يمكن اختزالها في نمطٍ سلوكي واحد، معيّن، حتى يُعمّم ويُفرض على الجميع. كلٌّ منا يريد أن يكون حرَّا ليعمل ما يريده، وما نريده يختلفُ من شخصٍ لآخر، بطبيعة الحال، إذ الحرّية تُبرر بغاياتها، وغاياتها تختلف بحسب الأفراد. لعل هذا أن يقودنا إلى التفكير في شعار "لا حرّية لأعداء الحرّية"، الذي تبنّاه بعضُ زعامات الثورة الفرنسيّة. وبعيدا عن المجازر والفظاعات التي ارتُكبت تحت رايته، فإن المستهدف ينبغي أن يكون في تناقضٍ وجودي مع الحريّة، حرّية مجتمعه، بحيث لا يجد المجتمع مناصا من الاختيار بين أن يعيش أفرادُه أحرارا كما يريدون، أو أن يتركوا للمستبد وأعوانه حرّية تحديد نطاق حرّيتهم، كما يريدون.

     من الواضح إذن أنهم كانوا في موقع المدافع عن حرّيته المستلبة، التي اضطُر -حتى يستردَّها- إلى إهدار حرّية المهاجم، بل وتصفيته ماديّا. لا يوجد خيار ثالث. كان صراعا إذن لاستعادة الحرّية ممن صادرها، وليس لفرضها على أحد. والواقع أنه لا يُتصور فرض الحرّية على أحد، اللهم إجبار امرأةٍ على خلع نقابها مثلا، لكن أيُّ حرّية فُرضت هنا ؟! إنها وصاية، تستبطن نفس منطق فارضي القيود، إذ من يتولّى الفرض في كليهما -القيد والحرّية- يعتقد أنه يملك الحق في تحديد نطاق حرّية غيره، باعتبارهم -ما لم يكونوا مثله- قاصرين، وبالتالي، فهو يحتكر الحرّية، معطيا نفسَه حقَّ منحها أو منعها من يشاء (ممن ليسوا بالضرورة خطرا عليها !). أليس هؤلاء أعداءً للحرّية ؟! أليس الإرغام نقيضا للحريّة، تماما كالقيد ؟! يقول جون استيورات مِلْ: "إن الغاية الوحيدة التي تسوّغ للناس أن يتدخّلوا -منفردين أو مجتمعين- في حرّية الفرد في تصرّفاته، هي حماية أنفسهم منه. والغرض الوحيد الذي يبرّر، بحق، استخدام القوّة مع أي فردٍ يعيش في جماعة متمدّنة، وبرغم من إرادته، هو منعه من إيذاء غيره. أما اعتبار مصلحته -مادّيةً كانت أو أدبيّة-، فلا يكفي مسوغّا لهذا التدخّل، إذ لا يجوز إكراهه على إتيان فعلٍ أو الإمساك عنه، بحجّة أنه الأفضل له، أو بدعوى أن هذا يجعله أسعد حالا .. قد تكون هذه أسباب وجيهة لتبرير الاحتجاج على تصرّفه، أو مناقشته والتباحث معه، أو محاولة إقناعه بخطأ تصرّفه، ولكنها لا تبرّر إكراهه أو إلحاق ضرر به، إذا أصرَّ على أن يتصرّف بخلاف ذلك". هذه -لمن سأل- زبدةُ الليبراليّة.