الجمعة، 7 أكتوبر 2016

تقشّفوا تصحّوا


     لندرك قيمة الأشياء حقّا، فإن عليها أن تُصاب بالندرة، حتى لا نتمكن من الحصول عليها بذات السهولة. بكلمة : أن نشعر أن ثمّة ما يمهّد لاختفائها !

     عندما تشعر أن صحتك تتآكل، تهرع للرياضة وتجدول وجباتك الغذائية وتزيد من اخضرارها، موطّنا نفسك على استدامة هذا الوضع الصحي، لأن فرص بقائك على ما يُرام باتت أقل .. وعندما ترى دخلك يتناقص، تبدأ بمراجعة مشترياتك ناظرا بعينٍ ناقدة أكثر لنمط الاستهلاك المتّبع في حياتك، وربما تتفاجئ أن نسبةً ليست بقليلة مما تنفق فيه أموالك لا يعود بالنفع الذي كان متوقعا منه، وأحيانا لا يعود بأي نفع مطلقا، مما يسهل عليك قياس نسبة الهدر، عندها ستخلع الكماليات قناع الضروريات التي كانت تتنكّر به ! وهكذا، كما لو أن الفاقة تبعث بالنذر وتحضّر النفوس قبل أن تأتي.

     أعتقد أننا نميل لتقليص نفقاتنا أكثر من ميلنا لزيادة مداخيلنا لتغطّية عجز الموازنة الشخصي، والسبب في رأيي أن فوضوية الإنفاق عادة ملازمة للكسالى، شحيحي الخيال والعزيمة. لذا نفضّل أسهل الطريقين، وهو التخلّي عن بعض الكماليّات اكتفاءً بالبعض، فبدلا من القيام عن الكرسي الآيل للسقوط بنا نرفع شطيّة، متكئين على الأخرى. لكن إذا استمر وضعنا المالي في الانحدار، فإن شعبا آخر سيُولد، أكثر قدرةً على التكيّف مع الوضع الجديد، الأقل رفاه، الدافع للعمل والحركة والابتكار. ما يعد بانقلابات هائلة، ليس في الاقتصاد وحسب.

     رفاهنا مستعار، وهو يختلف في تشكيله للثقافة والمجتمع، عن الرفاه الناجم عن انتاجٍ وصناعة. ولذلك، فإن تراجع الأخير قد يخرج حكومات عن موقع السلطة، ليضعها على مقاعد المعارضة في البرلمان. لكن ما يجري لنا، قد يسقط دولا بأكملها، ما لم يُتدارك بإصلاحات كبيرة وعميقة، وهذا مشروط بإرادة سياسية لا أدري أن كان طبيعة النظام تسمح بها، إلا أن أكثر الاحتجاجات على قرارات التقشف تستند لفكرة "العدالة الاجتماعيّة"، كيف للحكومة أن تقضم راتبي دون أن تمس دخول كبار القوم .. ذلك ما يجعلني أعتقد (أو آمل) أن العوز سيغيّر من علاقات القوّة داخل مؤسسة الحكم، تغيّرا للأفضل، لأن الحاجة أم الاختراع. نحن بأمسِّ الحاجة للحاجة التي تفجّر طاقاتنا المغمورة بالنفط. ومن لم لا يتكيّف، يبيد، شعبا كان أم حكومة.