الأحد، 27 نوفمبر 2016

يوميات عائد إلى الخلف

منذ نحو خمس سنوات ابتدأتُ أسجّل يوميّاتي وأنا لا أدري لماذا بالضبط. واظبتُ عليها سنةً، ونصف سنة أخرى، ثم أهملتها، والمؤسف أن ذلك لا يعود لكوني قد قرّرت أن أعيش حياتي بدلا من التفكير فيها !

     كانت "يوميّات" على سبيل المجاز، إذ لم أكن أكتب سوى ثلاث إلى أربع مرّات في الأسبوع. هذا في المتوسّط. لا أدوّن الأحداث إلا قليلا، لأنها تتواتر بلا انقطاع. أركّزُ فقط على تدوين انعكاساتها في وجداني وعقلي، ومعلومٌ أنه ليس كل حدثٍ في حياة الإنسان يترك أثرا في النفس، أثرا يبقى طويلا. أسجل ما يستحق الذكرى، ما أريد ألا يُنسى.

     كنت في اليوميّات أوثّق بعدسة الحرف صورةَ اهتزازات وجداني وعقلي أمام الأحداث. ارتجاجاتها، حسب الإيقاع، لأعودَ إليها بعد مدّةٍ وأجد الصفحة ساخنةً كما هي، وأحيانا مبلولةً بدمعٍ أو عرَق. لم أكن أشغل نفسي بكيف ولماذا. لا أحلّل ولا أستنتج، فقط أنكبُّ على تسجيل انطباعاتي وهي طازجة، ثم أتأمّلها لاحقا، إذا هدأت وبردت مشاعري وعادت أجزاء كياني لمواضعها الطبيعية. لكن مشكلة الصياغة والتوقيت تظل منغّصةً دائما، وهي عنصر مهم عندي. فما كل حدثٍ يجري يكون دفتر اليوميّات تحت يدي. هذا الفاصل الزمني، بين الحدث وتسجيله، كثيرا ما يسمح بتسرّب تحليلاتٍ واستنتاجات في تضاعيف ما كنت أحسبُها لغةً وصفيّة بيضاء، محايدة قدر الإمكان. ولذلك أتخلّى عن كتابة اليوميّة إذا طال العهد بالحدث، إذ تتسلط عليَّ نزعةُ الانتقاء والتحليل والاستنتاج، وليس هذا غرضي من كتابة اليوميّات. أريدني فيها شاهدَ عيانٍ فقط، لكن على نفسي. ربما كي أتربى وأنضج ذاتيا.

     مسترخيا مع الشاي أقرأ تاريخ مشاعري، أقلّبُ الصفحات وأراقب عن كثبٍ تفاعلاتي مع المواقف، أو بالأحرى : تذبذبي واختلاجاتي في خضمها. وكم تكشّف لي مدى عجزي عن تصحيح المسار وضبط ردود الأفعال بالطريقة التي ترضي كبريائي مثلا ! خُلقت هكذا، وهي الحقيقة التي عليَّ أن أحترمها بعد اليوم، بكل نضج أتقبلها. ومهما فهمت كيف يحدث الجوع، فلن يشبعك ذلك !

     يبدو أننا نعيش تفاصيل يومنا بربع أو ثلث عقل. الفطن منّا يملك نصف عقله ربما. والعبقري أكثر من ذلك. لا تعمل عقولنا بكل طاقتها، ولا تحضر معارفنا كلها، إلا بعد انفصالنا عن المواقف بمددٍ يختلف طولها من شخصٍ لآخر. بدليل أننا لو رجعنا للخلف، لغيّرنا الكثير والكثير من مواقفنا وكلامنا، واستبدلناه (درجة هذا التغيير والاستبدال تختلف -كما أشرتُ- من شخصٍ لآخر). كما أن الانفصال والتباعد الزماني عن حدثٍ ما، كالانفصال والتباعد المكاني عن موقعٍ ما، حيث تتصاغر الأشياء وتتضح الرؤية وتأخذ طابعا شموليّا أكثر، مما يمنحنا شعورا بالسيطرة المعرفيّة والنفسية على المشهد. لكن ماذا أُعطيت قدرة إعادة الزمن خمس دقائق، سأتمكن من تفادي العقبات والمآزق، لكن سأخسر عفويتي، وربما أكثر. حتما سأكون شخصا آخر. لا أدري إن هذا أفضل أم أسوء !

     ما الذي نريده من وراء تسجيل اليوميّات، ثم وضعها على الرفوف ؟ أظنه لا يقل أهمّيةً عن الذي نريده من وراء التقاط الصور، ثم وضعها في الألبومات. لعل اليوميّة والصورة لا تعدو أن تكون محاولات للاحتفاظ بقطعةٍ من الماضي واستبقائها في الحاضر والمستقبل. كلاهما وسيلة لتدعيم انتقائية الذاكرة بطريقة مناسبة أكثر. كلاهما طريقة للالتفاف على الزمن ومقاومته. ذلك أن رصد المواقف والأحداث في الماضي يزيد الإنسان شعورا بالزمن، وأن كل شيءٍ عابر ومؤقّت. وهذا بدوره يقلّل من انغماسه في المواقف والأحداث أكثر مما يجب، كما لو أنها باقيّةٌ أبدا. وبهذا يكون تقييد الماضي وسيلةً للتحرّر منه، وأسلوبا للسباحة فوق الحاضر.

الخميس، 17 نوفمبر 2016

دعِ الكوارث تعمل .. دعها تمرّ



     منطقتنا أحوج ما تكون للاستقرار، لكن من المؤسف القول إنه ليس في متناول اليد، الكثير من الحطب مركومٌ للآن. هل نستحق ما يجري لنا ؟ هل اضطراب المنطقة محصّلة طبيعية للوضع الذي يعيشه أهلها، اقتصادا وفكرا وسياسة ؟ تختلف الإجابات، لكن أعتقد أن مقارنة وضعنا بوضع الكثير من الأمم يؤكد أن لمشكلاتنا حيثيات نحن منها محل الرأس والقلب، اقتصادا وفكرا وسياسة. نحن المسؤولون عنها أصالةً. في المجمل، المجتمعات تساوي اقتصادها وفكرها وسياستها، تردّيها في هذه الأمور لا يعني سوى فشلها. كل شخص يعادل منجزاته، هذه هي العدالة. لم يُمنحوا فرصتهم كاملة، هاه ؟ وهل النجاح شيءٌ غير خَلْق الفرص أو انتزاعها ! المستكينون لظروفهم مكانهم الذيل، هذه هي العدالة مرّة أخرى.

     المقارنة بين التجارب لا تستوجب البصق في وجه أحد، كل ما هنالك أننا ندخل المدرسة التي تخرّجت منها مجتمعات أخرى. الكارثة فصل تربوي، لا أكثر. والتسخّط على الأقدار ناجمٌ عن الجهل بها، هذا ما يقوله هيجل على الأقل، إذ الصياح على الطماطم الخضراء لن يدفعها للاحمرار قبل الأوان، وتكسير السياط على ظهر الحَمَل لن تجعل منه خروفا في ساعة. أكثر من يموت اليوم، هم أناس فشلوا أن يعيشوا. يتساقطون ضحايا من لم يحالفهم التوفيق ويكونوا الجناة أو المتآمرين. إذن، دعِ الكارثة تمر، دعها تعمل. الطبيعة تسلك دربها بسلاسة.

    فهم الأمور بهذا الشكل مريح نفسيا، كما أنه مفيد عمليّا. هدر الوقت في اللّغط المتشائم واستهلاك الأعصاب لن يغيّر شيئا على المستوى العام. سيكلّ المتخاصمون وتنكسر قطعياتهم ويركنون راغمين إلى ما سيكون "العيش المشترك"، بعد أن تغرق حواضنهم الاجتماعية في الوحل. إذا عجز اليقين عن تحويل الواقع، انقلبَ عليه الواقع وأحاله شكّا يعلو صوته حتى يجلجل فوق المنابر، وصرفَ الناس عنه لشيءٍ آخر : المصلحة، العقل، العلم، اللّهو، الخ. المهم ألا تخضع الحقيقة الماثلة (العيش) لمقتضيات شيءٍ غائب (الإيمان). وعوض الانكباب على تحليل ما يحدث، على المثقف تدبير قارب نجاة تحسّبا لفشل الناس في تحديد صوت الهدير القادم من بعيد، إذا ما كان فيضانا مغرقا أم رعدا قاصفا !