الاثنين، 26 أكتوبر 2020

رايات وحشود وأقلام .. ودهر

      على المثقف، في مسعاه "الأبدي"، للتنوير، أن يتحلى بالشجاعة لمواجهة مفتوحة، ضد السلطة أو المجتمع. وألا يتفوه إلا بما يعتقد أنه الحق. بيد أن "الحق"، كثيرا ما يكون عالقا في مقاربات معقدة، سياسيا واجتماعيا، وأحيانا استراتيجيا. وعلى نحو أبدي أيضا. نسمع ونقرأ عن مثقفين قد أزمعوا على مكاشفة الجموع الغفيرة بحقيقة أن حرية الرأي أكثر قدسية من كل مقدس. وأنها المطلق الوحيد في خضم النسبيات المقدسة. وأن قمعها يقود لضروب لا تُحصى من الفتن والتقهقر الحضاري عامة. وهو، على ما يبدو، انحياز خالص للقيمة بوجه شتى الاعتبارات المصلحية. في تصور مؤسس على وجود قيم خارج التاريخ، فوق الظروف، مبرأة من دنس المصالح وتقاطعاتها، وغير مشروطة ولا مرتهنة للحسابات والمقاربات الضيقة بالضرورة. لكن تاريخ القيم المؤلهة عند كل المثقفين، زاخر بالمقاربات والحسابات والمصالح، وكل انتصار لقيمةٍ ما، جاء كحاصل، غير مخطط له، وتقريبا غير مقصود للفاعلين في السياق التاريخي، إن كان ثمة من إرادة فاعلة مستقلة في التاريخ. فأشهر الثورات في التاريخ المعاصر؛ الأمريكية، الفرنسية، والروسية. لم تكن القيم الخالصة على جدول أعمالها عندما اندلعت، إلا كشعارات خفّاقة بغرض التعبئة والاحتشاد. مسيرة التطور البشري تزحف عمياء. والانتظام داخلها مغمور بالفوضى. لكن طبيعة معرفتنا تفضل اقتناص المنتظم المتتابع، في سلسلة من الأسباب والنتائج المضبوطة. هذا أسهل في التحليل والتنبوء، بيد أنه لا يعبر بالضرورة عن الواقع. ولا مناص من البناء على ما نعرف (أو ما نتخيل أننا نعرفه)، حتى لا نسقط في لا أدرية سلبية. وفي خضم هذه الميتافيزيقا يتعين إبقاء القيم فوق الواقع، كي لا يسقط على نفسه وعلينا. لكن أية قيم؛ التعايش أم الحرية ؟ هذا حديث آخر.