الثلاثاء، 13 ديسمبر 2016

الواقع كاحتمال لغوي


     لا يمكن وصف الواقع بغير الكلمات، وبدونها يظل الواقع شيئا مبهما وغير مفهوم، هذا إن لم نقل أن الواقع نفسه أحد مبتكرات الكلمة/اللغة. قبل اختراعها -أو اكتشافها- لا يمكن الحديث عن الإنسان كما يتبدّى لنا اليوم. وعيُه مدين للغة بشكل كامل، ومن غير الوعي يعود الإنسان عضوا في مملكة الحيوان، لا يتمتّع بأي امتياز نوعي فارق. اللغة ليست وسيلة نقل وتواصل، بل أيضا تفكير وتأمّل، آليّة لخلق المعاني. والتفكير هي العمليّة التي يتخلّق بواسطتها الوعي. هل يمكن تخيّل الوعي بالأشياء دون معانيها ؟ الأِشياء هي معانيها، بالنسبة لوعينا. ولذا تقف اللغة بيننا وبين الأشياء خارج وعينا (وحتى داخله). ومع توالي التجارب يتكوّن جهاز مفاهيمي، هو أحد أهم مفردات الحضارة وأدواتها الخارقة في تدجين الإنسان، ليكون كما تريده حضارته أن يكون.

     يُولد الإنسان ممتثلا، يفكّر داخل الجهاز المفاهيمي الذي نشأ في أحضانه، معتقدا أن ذلك الجهاز هو العقل، الذي يراه أدق موازينه الخاصة في قياس الأشياء. وقد يتطّور مستوى تفكيره ليضع هذا الجهاز/ الميزان، غير المنظور، محل تساؤل. وهؤلاء هم من نسمّيهم "مفكرين" أو "فلاسفة". ما الذي قدّموه للبشريّة ؟ لعل من أهمّه الكشفُ عن العلاقة بين الكلمات والأشياء، وأثرها على تصورات الإنسان وما يستتبعه ذلك من مشاعر. وبعبارةٍ أكثر جنونا : إن جهازنا النفسي وليد جهازنا المفاهيمي !

     الحَرَج مثلا، مرارة الإثم، تأنيب الضمير، الاحتقار المخزي، الخ، كلها مشاعر متحدّرة أساسا من تصوّر، من فهم معيّن، أي طريقة تفكير. ولو تغيّرت لتغيّر، تبعا لها، ذلك الشعور، بل ربما امّحى تماما، أو حلّ مكانه شعور مضاد. فقد يكون سلوكٌ ما، في مجتمعٍ ما، مثيرا للخجل، لكن قد يكون، في مجتمعٍ آخر، مدعاةً للفخر ! ما الذي تغيّر ؟ ليست الأشياء، بل التصورات، طريقة التفكير، أي أسلوب استخدام اللغة في خلع المعاني على الأشياء، وبالتالي الموقف منها. يقول نيتشه في سياق تحرير الإنسان من وخز ضميره الضال : "إنني لا أعتبر الألم النفسي واقعا، مجرد تفسير، تأويل تبعا للسبب، للوقائع التي لم نتمكن بعد من صياغتها بدقة". إن كلماتنا مشبّعة بقناعات، أحكام قيمة، أي أمور نسبية جدا، وهو ما يجعلها معبّرةً عن ذواتنا، لا الأشياء كما هي عليه في الخارج، بل لعلها مجرد تأويلات لواقع دائم الصيرورة والتغيّر، فكلما نضجنا قليلا بانَ لنا بشكلٍ مختلف، ما سينعكس في طريقة استخدامنا للكلمات، وفي ردود أفعالنا حيالها. لتفكّر بشكل جيد، حاول أن تستخدم كلمات موضوعيّة أكثر، أي مضمونها القيمي أقل.

الخميس، 8 ديسمبر 2016

مَنْ أنا ؟


     إن إجابة سؤال من قبيل "من أنت ؟" تختلف جذريا عن إجابة سؤال من قبيل "من أنا ؟"، ربما لأن الأول تساؤل آخرين عن هويّة شخصٍ ما، فيما الثاني غامض، يطرحه شخصٌ على ذاته. الأسباب التي تدفعهم للسؤال عنك كثيرة وسهلة إذا ما قُورنت بالأسباب التي تدفعك للتساؤل عنك، فما الذي جدَّ حتى رحت تتفقّدك مُسَائلا ذاتك عن حقيقتها !

     سؤالهم بسيط ومباشر، بضع كلمات كافيةٌ لإشباع فضوله، اسمك الثلاثي مثلا قد يفي بالغرض، ويعفيك من الإسهاب. كما أنه -أي سؤالهم- مغلق، وحيد الاتّجاه، يكفَّ عن المعاودة إذا ما أُعطي الكلمات التي تميّزك عن غيرك. عندها يتوقف. أي أنه نوعٌ من التعريف البسيط والنحدد،  لكن سؤالك عنك ليس بذات البساطة والوضوح، ربما لأنه مفتوح ومتعدّد الاتجاهات، ما يعني أن الشتات جزء من الإجابة، الأمر الذي يجعل من معاودة طرحه شيئا متوقّعا، وربما مطلوبا أيضا. لأن الجواب متجدد، يتواصل نموه وتغيّره، كلما نما وعيُك وتغيّرت قناعاتك، خصوصا القصوى والأساسيّة، المتصلة بالوجود، وجودك كشخص، كحيوان يُعتقد أنه مختلف، يُقال عنه "إنسان". إنها لأشياءٌ تستعصي على التعريف. هل لأنك تخوض عملية اكتشاف للمُعَرّف (ذاتك) أم لأنك تعاني من بلورتها مرّة بعد أخرى، مع كل تمرّدٍ وانشقاق يحدث داخل عقلك، فتقاسي البحث عن الكلمات المناسبة للغموض الذي يكتنف موضوعَها !

     متى ما طُرح سؤالٌ من هذا النوع الارتدادي المستبطن، فإنه سيتكرر ويلحّ. كل الإجابات المرشّحة مؤقتة الصحّة. وكل إجابة ستكون محصّلة تجربة، نهاية أقدام رحلة، إما ركوب بحر أو نزول يابسة. لهذا السؤال استفهامٌ كرأس الدريل، يخترق الجدران المزمنة حول الذات حتى يصل للجزء الصلب، عندها يغيّر ريشته ويكون "ما أنا ؟"، فيثقب الحاجز الأخير، لتكون مستباحا في العراء.

     يُقال إن هويّة الإنسان مرتبطة على نحوٍ عضوي بذاكرته، هذا ما يجعله في حكم المجنون عندما يفقدها بالكامل. لأنها تتوقف دائما على أرشيف. لكن تبدأ ذاته بالالتئام مع كل جزء يسترده من ذاكرته، حتى يعود كما كان. والذاكرة مجموعة أفكار وتصورات تنتمي للماضي، ذات طابع سردي، يحتل الإنسان مركزها، أي مركز كونه الخاص، الذي يعتقد أنه الكون بأسره. هذا الكون الخاص مؤسسٌ في الحقيقة على مجموعة من المعتقدات، متى ما طالها عطبٌ أو اختلال، فإن الكون -كونه- تصيبه هزّة، وقد ينهار ويفقد الإنسان تبعا لذلك موقعه المركزي في الكون، فينقض عليه سؤال "من أنا ؟"، الذي قد تؤدي فظاعة الانهيار، ليصبح أكثر نكارة "ما أنا ؟".

     ألا يبدو الكون والذات شيئا واحدا هنا، "أنت العالم" كما يقول شوبنهاور. والشروع في ترميم أو بناء أحدهما يعني ترميم أو بناء الآخر ! إن كان هذا صحيحا، فإن سؤال "من أنا ؟/ ما أنا ؟" علامةٌ على ارتقاء الإنسان من طور العبد لطور الإله، ذاك الذي يصبُّ القوالب، بعد أن كان يتجمّد داخلها. هل من المستحيل على التمثال أن يكون يوما ما .. نحّاتا !