الثلاثاء، 13 ديسمبر 2016

الواقع كاحتمال لغوي


     لا يمكن وصف الواقع بغير الكلمات، وبدونها يظل الواقع شيئا مبهما وغير مفهوم، هذا إن لم نقل أن الواقع نفسه أحد مبتكرات الكلمة/اللغة. قبل اختراعها -أو اكتشافها- لا يمكن الحديث عن الإنسان كما يتبدّى لنا اليوم. وعيُه مدين للغة بشكل كامل، ومن غير الوعي يعود الإنسان عضوا في مملكة الحيوان، لا يتمتّع بأي امتياز نوعي فارق. اللغة ليست وسيلة نقل وتواصل، بل أيضا تفكير وتأمّل، آليّة لخلق المعاني. والتفكير هي العمليّة التي يتخلّق بواسطتها الوعي. هل يمكن تخيّل الوعي بالأشياء دون معانيها ؟ الأِشياء هي معانيها، بالنسبة لوعينا. ولذا تقف اللغة بيننا وبين الأشياء خارج وعينا (وحتى داخله). ومع توالي التجارب يتكوّن جهاز مفاهيمي، هو أحد أهم مفردات الحضارة وأدواتها الخارقة في تدجين الإنسان، ليكون كما تريده حضارته أن يكون.

     يُولد الإنسان ممتثلا، يفكّر داخل الجهاز المفاهيمي الذي نشأ في أحضانه، معتقدا أن ذلك الجهاز هو العقل، الذي يراه أدق موازينه الخاصة في قياس الأشياء. وقد يتطّور مستوى تفكيره ليضع هذا الجهاز/ الميزان، غير المنظور، محل تساؤل. وهؤلاء هم من نسمّيهم "مفكرين" أو "فلاسفة". ما الذي قدّموه للبشريّة ؟ لعل من أهمّه الكشفُ عن العلاقة بين الكلمات والأشياء، وأثرها على تصورات الإنسان وما يستتبعه ذلك من مشاعر. وبعبارةٍ أكثر جنونا : إن جهازنا النفسي وليد جهازنا المفاهيمي !

     الحَرَج مثلا، مرارة الإثم، تأنيب الضمير، الاحتقار المخزي، الخ، كلها مشاعر متحدّرة أساسا من تصوّر، من فهم معيّن، أي طريقة تفكير. ولو تغيّرت لتغيّر، تبعا لها، ذلك الشعور، بل ربما امّحى تماما، أو حلّ مكانه شعور مضاد. فقد يكون سلوكٌ ما، في مجتمعٍ ما، مثيرا للخجل، لكن قد يكون، في مجتمعٍ آخر، مدعاةً للفخر ! ما الذي تغيّر ؟ ليست الأشياء، بل التصورات، طريقة التفكير، أي أسلوب استخدام اللغة في خلع المعاني على الأشياء، وبالتالي الموقف منها. يقول نيتشه في سياق تحرير الإنسان من وخز ضميره الضال : "إنني لا أعتبر الألم النفسي واقعا، مجرد تفسير، تأويل تبعا للسبب، للوقائع التي لم نتمكن بعد من صياغتها بدقة". إن كلماتنا مشبّعة بقناعات، أحكام قيمة، أي أمور نسبية جدا، وهو ما يجعلها معبّرةً عن ذواتنا، لا الأشياء كما هي عليه في الخارج، بل لعلها مجرد تأويلات لواقع دائم الصيرورة والتغيّر، فكلما نضجنا قليلا بانَ لنا بشكلٍ مختلف، ما سينعكس في طريقة استخدامنا للكلمات، وفي ردود أفعالنا حيالها. لتفكّر بشكل جيد، حاول أن تستخدم كلمات موضوعيّة أكثر، أي مضمونها القيمي أقل.

الخميس، 8 ديسمبر 2016

مَنْ أنا ؟


     إن إجابة سؤال من قبيل "من أنت ؟" تختلف جذريا عن إجابة سؤال من قبيل "من أنا ؟"، ربما لأن الأول تساؤل آخرين عن هويّة شخصٍ ما، فيما الثاني غامض، يطرحه شخصٌ على ذاته. الأسباب التي تدفعهم للسؤال عنك كثيرة وسهلة إذا ما قُورنت بالأسباب التي تدفعك للتساؤل عنك، فما الذي جدَّ حتى رحت تتفقّدك مُسَائلا ذاتك عن حقيقتها !

     سؤالهم بسيط ومباشر، بضع كلمات كافيةٌ لإشباع فضوله، اسمك الثلاثي مثلا قد يفي بالغرض، ويعفيك من الإسهاب. كما أنه -أي سؤالهم- مغلق، وحيد الاتّجاه، يكفَّ عن المعاودة إذا ما أُعطي الكلمات التي تميّزك عن غيرك. عندها يتوقف. أي أنه نوعٌ من التعريف البسيط والنحدد،  لكن سؤالك عنك ليس بذات البساطة والوضوح، ربما لأنه مفتوح ومتعدّد الاتجاهات، ما يعني أن الشتات جزء من الإجابة، الأمر الذي يجعل من معاودة طرحه شيئا متوقّعا، وربما مطلوبا أيضا. لأن الجواب متجدد، يتواصل نموه وتغيّره، كلما نما وعيُك وتغيّرت قناعاتك، خصوصا القصوى والأساسيّة، المتصلة بالوجود، وجودك كشخص، كحيوان يُعتقد أنه مختلف، يُقال عنه "إنسان". إنها لأشياءٌ تستعصي على التعريف. هل لأنك تخوض عملية اكتشاف للمُعَرّف (ذاتك) أم لأنك تعاني من بلورتها مرّة بعد أخرى، مع كل تمرّدٍ وانشقاق يحدث داخل عقلك، فتقاسي البحث عن الكلمات المناسبة للغموض الذي يكتنف موضوعَها !

     متى ما طُرح سؤالٌ من هذا النوع الارتدادي المستبطن، فإنه سيتكرر ويلحّ. كل الإجابات المرشّحة مؤقتة الصحّة. وكل إجابة ستكون محصّلة تجربة، نهاية أقدام رحلة، إما ركوب بحر أو نزول يابسة. لهذا السؤال استفهامٌ كرأس الدريل، يخترق الجدران المزمنة حول الذات حتى يصل للجزء الصلب، عندها يغيّر ريشته ويكون "ما أنا ؟"، فيثقب الحاجز الأخير، لتكون مستباحا في العراء.

     يُقال إن هويّة الإنسان مرتبطة على نحوٍ عضوي بذاكرته، هذا ما يجعله في حكم المجنون عندما يفقدها بالكامل. لأنها تتوقف دائما على أرشيف. لكن تبدأ ذاته بالالتئام مع كل جزء يسترده من ذاكرته، حتى يعود كما كان. والذاكرة مجموعة أفكار وتصورات تنتمي للماضي، ذات طابع سردي، يحتل الإنسان مركزها، أي مركز كونه الخاص، الذي يعتقد أنه الكون بأسره. هذا الكون الخاص مؤسسٌ في الحقيقة على مجموعة من المعتقدات، متى ما طالها عطبٌ أو اختلال، فإن الكون -كونه- تصيبه هزّة، وقد ينهار ويفقد الإنسان تبعا لذلك موقعه المركزي في الكون، فينقض عليه سؤال "من أنا ؟"، الذي قد تؤدي فظاعة الانهيار، ليصبح أكثر نكارة "ما أنا ؟".

     ألا يبدو الكون والذات شيئا واحدا هنا، "أنت العالم" كما يقول شوبنهاور. والشروع في ترميم أو بناء أحدهما يعني ترميم أو بناء الآخر ! إن كان هذا صحيحا، فإن سؤال "من أنا ؟/ ما أنا ؟" علامةٌ على ارتقاء الإنسان من طور العبد لطور الإله، ذاك الذي يصبُّ القوالب، بعد أن كان يتجمّد داخلها. هل من المستحيل على التمثال أن يكون يوما ما .. نحّاتا !

الأحد، 27 نوفمبر 2016

يوميات عائد إلى الخلف

منذ نحو خمس سنوات ابتدأتُ أسجّل يوميّاتي وأنا لا أدري لماذا بالضبط. واظبتُ عليها سنةً، ونصف سنة أخرى، ثم أهملتها، والمؤسف أن ذلك لا يعود لكوني قد قرّرت أن أعيش حياتي بدلا من التفكير فيها !

     كانت "يوميّات" على سبيل المجاز، إذ لم أكن أكتب سوى ثلاث إلى أربع مرّات في الأسبوع. هذا في المتوسّط. لا أدوّن الأحداث إلا قليلا، لأنها تتواتر بلا انقطاع. أركّزُ فقط على تدوين انعكاساتها في وجداني وعقلي، ومعلومٌ أنه ليس كل حدثٍ في حياة الإنسان يترك أثرا في النفس، أثرا يبقى طويلا. أسجل ما يستحق الذكرى، ما أريد ألا يُنسى.

     كنت في اليوميّات أوثّق بعدسة الحرف صورةَ اهتزازات وجداني وعقلي أمام الأحداث. ارتجاجاتها، حسب الإيقاع، لأعودَ إليها بعد مدّةٍ وأجد الصفحة ساخنةً كما هي، وأحيانا مبلولةً بدمعٍ أو عرَق. لم أكن أشغل نفسي بكيف ولماذا. لا أحلّل ولا أستنتج، فقط أنكبُّ على تسجيل انطباعاتي وهي طازجة، ثم أتأمّلها لاحقا، إذا هدأت وبردت مشاعري وعادت أجزاء كياني لمواضعها الطبيعية. لكن مشكلة الصياغة والتوقيت تظل منغّصةً دائما، وهي عنصر مهم عندي. فما كل حدثٍ يجري يكون دفتر اليوميّات تحت يدي. هذا الفاصل الزمني، بين الحدث وتسجيله، كثيرا ما يسمح بتسرّب تحليلاتٍ واستنتاجات في تضاعيف ما كنت أحسبُها لغةً وصفيّة بيضاء، محايدة قدر الإمكان. ولذلك أتخلّى عن كتابة اليوميّة إذا طال العهد بالحدث، إذ تتسلط عليَّ نزعةُ الانتقاء والتحليل والاستنتاج، وليس هذا غرضي من كتابة اليوميّات. أريدني فيها شاهدَ عيانٍ فقط، لكن على نفسي. ربما كي أتربى وأنضج ذاتيا.

     مسترخيا مع الشاي أقرأ تاريخ مشاعري، أقلّبُ الصفحات وأراقب عن كثبٍ تفاعلاتي مع المواقف، أو بالأحرى : تذبذبي واختلاجاتي في خضمها. وكم تكشّف لي مدى عجزي عن تصحيح المسار وضبط ردود الأفعال بالطريقة التي ترضي كبريائي مثلا ! خُلقت هكذا، وهي الحقيقة التي عليَّ أن أحترمها بعد اليوم، بكل نضج أتقبلها. ومهما فهمت كيف يحدث الجوع، فلن يشبعك ذلك !

     يبدو أننا نعيش تفاصيل يومنا بربع أو ثلث عقل. الفطن منّا يملك نصف عقله ربما. والعبقري أكثر من ذلك. لا تعمل عقولنا بكل طاقتها، ولا تحضر معارفنا كلها، إلا بعد انفصالنا عن المواقف بمددٍ يختلف طولها من شخصٍ لآخر. بدليل أننا لو رجعنا للخلف، لغيّرنا الكثير والكثير من مواقفنا وكلامنا، واستبدلناه (درجة هذا التغيير والاستبدال تختلف -كما أشرتُ- من شخصٍ لآخر). كما أن الانفصال والتباعد الزماني عن حدثٍ ما، كالانفصال والتباعد المكاني عن موقعٍ ما، حيث تتصاغر الأشياء وتتضح الرؤية وتأخذ طابعا شموليّا أكثر، مما يمنحنا شعورا بالسيطرة المعرفيّة والنفسية على المشهد. لكن ماذا أُعطيت قدرة إعادة الزمن خمس دقائق، سأتمكن من تفادي العقبات والمآزق، لكن سأخسر عفويتي، وربما أكثر. حتما سأكون شخصا آخر. لا أدري إن هذا أفضل أم أسوء !

     ما الذي نريده من وراء تسجيل اليوميّات، ثم وضعها على الرفوف ؟ أظنه لا يقل أهمّيةً عن الذي نريده من وراء التقاط الصور، ثم وضعها في الألبومات. لعل اليوميّة والصورة لا تعدو أن تكون محاولات للاحتفاظ بقطعةٍ من الماضي واستبقائها في الحاضر والمستقبل. كلاهما وسيلة لتدعيم انتقائية الذاكرة بطريقة مناسبة أكثر. كلاهما طريقة للالتفاف على الزمن ومقاومته. ذلك أن رصد المواقف والأحداث في الماضي يزيد الإنسان شعورا بالزمن، وأن كل شيءٍ عابر ومؤقّت. وهذا بدوره يقلّل من انغماسه في المواقف والأحداث أكثر مما يجب، كما لو أنها باقيّةٌ أبدا. وبهذا يكون تقييد الماضي وسيلةً للتحرّر منه، وأسلوبا للسباحة فوق الحاضر.

الخميس، 17 نوفمبر 2016

دعِ الكوارث تعمل .. دعها تمرّ



     منطقتنا أحوج ما تكون للاستقرار، لكن من المؤسف القول إنه ليس في متناول اليد، الكثير من الحطب مركومٌ للآن. هل نستحق ما يجري لنا ؟ هل اضطراب المنطقة محصّلة طبيعية للوضع الذي يعيشه أهلها، اقتصادا وفكرا وسياسة ؟ تختلف الإجابات، لكن أعتقد أن مقارنة وضعنا بوضع الكثير من الأمم يؤكد أن لمشكلاتنا حيثيات نحن منها محل الرأس والقلب، اقتصادا وفكرا وسياسة. نحن المسؤولون عنها أصالةً. في المجمل، المجتمعات تساوي اقتصادها وفكرها وسياستها، تردّيها في هذه الأمور لا يعني سوى فشلها. كل شخص يعادل منجزاته، هذه هي العدالة. لم يُمنحوا فرصتهم كاملة، هاه ؟ وهل النجاح شيءٌ غير خَلْق الفرص أو انتزاعها ! المستكينون لظروفهم مكانهم الذيل، هذه هي العدالة مرّة أخرى.

     المقارنة بين التجارب لا تستوجب البصق في وجه أحد، كل ما هنالك أننا ندخل المدرسة التي تخرّجت منها مجتمعات أخرى. الكارثة فصل تربوي، لا أكثر. والتسخّط على الأقدار ناجمٌ عن الجهل بها، هذا ما يقوله هيجل على الأقل، إذ الصياح على الطماطم الخضراء لن يدفعها للاحمرار قبل الأوان، وتكسير السياط على ظهر الحَمَل لن تجعل منه خروفا في ساعة. أكثر من يموت اليوم، هم أناس فشلوا أن يعيشوا. يتساقطون ضحايا من لم يحالفهم التوفيق ويكونوا الجناة أو المتآمرين. إذن، دعِ الكارثة تمر، دعها تعمل. الطبيعة تسلك دربها بسلاسة.

    فهم الأمور بهذا الشكل مريح نفسيا، كما أنه مفيد عمليّا. هدر الوقت في اللّغط المتشائم واستهلاك الأعصاب لن يغيّر شيئا على المستوى العام. سيكلّ المتخاصمون وتنكسر قطعياتهم ويركنون راغمين إلى ما سيكون "العيش المشترك"، بعد أن تغرق حواضنهم الاجتماعية في الوحل. إذا عجز اليقين عن تحويل الواقع، انقلبَ عليه الواقع وأحاله شكّا يعلو صوته حتى يجلجل فوق المنابر، وصرفَ الناس عنه لشيءٍ آخر : المصلحة، العقل، العلم، اللّهو، الخ. المهم ألا تخضع الحقيقة الماثلة (العيش) لمقتضيات شيءٍ غائب (الإيمان). وعوض الانكباب على تحليل ما يحدث، على المثقف تدبير قارب نجاة تحسّبا لفشل الناس في تحديد صوت الهدير القادم من بعيد، إذا ما كان فيضانا مغرقا أم رعدا قاصفا !

الجمعة، 7 أكتوبر 2016

تقشّفوا تصحّوا


     لندرك قيمة الأشياء حقّا، فإن عليها أن تُصاب بالندرة، حتى لا نتمكن من الحصول عليها بذات السهولة. بكلمة : أن نشعر أن ثمّة ما يمهّد لاختفائها !

     عندما تشعر أن صحتك تتآكل، تهرع للرياضة وتجدول وجباتك الغذائية وتزيد من اخضرارها، موطّنا نفسك على استدامة هذا الوضع الصحي، لأن فرص بقائك على ما يُرام باتت أقل .. وعندما ترى دخلك يتناقص، تبدأ بمراجعة مشترياتك ناظرا بعينٍ ناقدة أكثر لنمط الاستهلاك المتّبع في حياتك، وربما تتفاجئ أن نسبةً ليست بقليلة مما تنفق فيه أموالك لا يعود بالنفع الذي كان متوقعا منه، وأحيانا لا يعود بأي نفع مطلقا، مما يسهل عليك قياس نسبة الهدر، عندها ستخلع الكماليات قناع الضروريات التي كانت تتنكّر به ! وهكذا، كما لو أن الفاقة تبعث بالنذر وتحضّر النفوس قبل أن تأتي.

     أعتقد أننا نميل لتقليص نفقاتنا أكثر من ميلنا لزيادة مداخيلنا لتغطّية عجز الموازنة الشخصي، والسبب في رأيي أن فوضوية الإنفاق عادة ملازمة للكسالى، شحيحي الخيال والعزيمة. لذا نفضّل أسهل الطريقين، وهو التخلّي عن بعض الكماليّات اكتفاءً بالبعض، فبدلا من القيام عن الكرسي الآيل للسقوط بنا نرفع شطيّة، متكئين على الأخرى. لكن إذا استمر وضعنا المالي في الانحدار، فإن شعبا آخر سيُولد، أكثر قدرةً على التكيّف مع الوضع الجديد، الأقل رفاه، الدافع للعمل والحركة والابتكار. ما يعد بانقلابات هائلة، ليس في الاقتصاد وحسب.

     رفاهنا مستعار، وهو يختلف في تشكيله للثقافة والمجتمع، عن الرفاه الناجم عن انتاجٍ وصناعة. ولذلك، فإن تراجع الأخير قد يخرج حكومات عن موقع السلطة، ليضعها على مقاعد المعارضة في البرلمان. لكن ما يجري لنا، قد يسقط دولا بأكملها، ما لم يُتدارك بإصلاحات كبيرة وعميقة، وهذا مشروط بإرادة سياسية لا أدري أن كان طبيعة النظام تسمح بها، إلا أن أكثر الاحتجاجات على قرارات التقشف تستند لفكرة "العدالة الاجتماعيّة"، كيف للحكومة أن تقضم راتبي دون أن تمس دخول كبار القوم .. ذلك ما يجعلني أعتقد (أو آمل) أن العوز سيغيّر من علاقات القوّة داخل مؤسسة الحكم، تغيّرا للأفضل، لأن الحاجة أم الاختراع. نحن بأمسِّ الحاجة للحاجة التي تفجّر طاقاتنا المغمورة بالنفط. ومن لم لا يتكيّف، يبيد، شعبا كان أم حكومة.

الأربعاء، 31 أغسطس 2016

المرأة .. حقائق العلوم الإنسانية ومورايث الفقه الديني



     ‎
في موروثنا تُحاط المرأة بجملةٍ من الأحكام والتقاليد المتعسّفة، حيث يُفرض عليها أن تحتجب، وأن تبتعد عن الرجل حتى لا يرى فيها -أو يشمُّ !- ما يفتنه. وإن تزوجته كانت له خادما. وإن مات عنها أبوها أخذت نصف نصيب أخيها، تماما كشهادتها التي لا تساوي -في معظم الأحيان- إلا نصف شهادة رجل. وإن مات عنها زوجها هجرت الزينة أربعة أشهر وعشرا. كما لا يجوز أن تسافر إلا مع ذي محرم، وهي مستنثاة من تسنّم المناصب العليا والقيادية، الخ. من الواضح أن المرأة في موروثنا تعاني بشكلٍ دائم ما يسميّه القانونيّون "نقص الأهليّة". هذا إن أردنا أن نتكلّم بصراحة. طبعا لا شك أن الإسلام قد حسّنَ من وضع المرأة مقارنةً بالجاهليّة، وسيّج كيانها بسلسلةٍ من التشريعات الشائكة، التي وإن حمتها بعض الوقت، إلا أنها سجنتها طوال الوقت. نعم، تقدّمت تلك التشريعات بواقع المرأة خطوات، لكنها وقفت عندها، منذ قرون.

‎     أظن أن مشكلة هذه الأحكام والتقاليد والأخلاقيّات أنها كانت حلولا سطحيّةً ووقتيّة جدّا، تعالجُ المظاهر والأعراض وحسب، ولا تنفذُ لعمق المشكلات وأسبابها الكامنة في واقع المرأة، لتقضي عليها قضاءً مبرما، ومن الأساس كما يُفترض. ربما لأنها -أي تلك الأحكام والتقاليد والأخلاقيّات- تنطلق من مسلّمة، وهي أن هشاشة وضْع المرأة وضعف مركزها -أي كونها مرشّحةً دائما أن تكون ضحيّة !- شيءٌ متفق عليه كواقعٍ يتمتع بمكانة الوضع الطبيعي، حالة مستقرة لا تجب مناقشتها، فيما إذا كانت لها أسبابٌ مفهومة، يمكن العمل على تغيير شروطها، أم لا. كما لو أنها أحكام خاصّة شُرعت لمصابٍ بعاهة لا يُرجى شفاؤه منها. وبينما توصّل الطب لعلاجٍ له، فقد بقيت الأحكام الخاصّة به كما هي، بلا أدنى تغيير، يمتثلها هذا المتشافي ببركة العلم، وكأنه ما زال بعاهته  !

     ‎كان الشغل الشاغل لأولئك المتشرّعين هو "كيف نحمي المرأة ونحوطها برعايتنا؟"، وليس "كيف نجعلها في وضعٍ لا تحتاج فيه لحمايتنا واحتياطاتنا؟". طبعا الطريقة الأولى قائمةٌ على إطلاق أحكام قيمة، كالحلال والحرام، الإباحة والحظْر، يجوز ولا يجوز، بوصفها الأدوات الرئيسيّة للمعالجة، إذ المعوّلُ في إحداث التغيير المنشود كان على الفقه وأحكامه، الشرع الإلهي، ولأنها كذلك -أي تعاليم وأحكام ووصايا-، فهي لا تحاول أن تغيّر في الواقع، إنما تحاول أن تتعامل معه كما هو، حيث تذهب للفرد لتملي عليه ما يجب فعله، ليتلافى الضرر مثلا. بينما الطريقة الثانية قائمةٌ على تحليل الواقع، ورصْد علاقاته، وفهم أسبابه، على اعتبار أن الحلول الناجعة متوقّفةٌ على التوصّل إلى التفسير الموضوعي للمشاكل أو الأضرار، إذ المعوّل على التغيير هنا، هو العلم ومناهجه، لا غير. والهدف هو تغيير الواقع بواسطة فهم قوانينه، لا الاستسلام له كما لو أنه قدر لا يُدفع، أو قدسية لا تقبل بغير الرضوخ. بعبارة أخرى : القضاء على الضرر نفسه، الذي عرفنا بالعلم كيف نشأ وتكوّن، وليس بالتوجّه إلى المتضرّر بالنصح والإرشاد الوعظي.

     تاريخيّا، هذا واضح ومفهوم، ذلك أن ميكانزمات الاجتماع البشري، ودوافع النفس الإنسانيّة، وعلاقة الثقافة بالشخصيّة، وأثر التربيّة والاقتصاد والسياسة على العلاقات الاجتماعيّة، الخ، أي جميع ما يدخل في نطاق بحوث وتحاليل العلوم الإنسانيّة، حيث إن هذا كله لم يُكتشف إلا من وقتٍ قريب، بعد استقرار تلك الأحكام والتقاليد والأخلاقيّات في وعي الناس ووجدانهم بوقتٍ طويل.

     لم يكن معروفا إلا مؤخّرا، أن انحطاط مكانة المرأة، كان نتيجةً لأنماط وأساليب في التربيّة والتثقيف، كثيرا ما انعكست علاقاتُها الجدليّة في الاقتصاد الاجتماعي. بمعنى أن لوضع المرأة مجرد نتيجة لمقدمات. وأنه بالإمكان الارتقاءُ به وتحسينه، بواسطة إجراء تغييراتٍ جذريّة في عمق تلك البنية. لقد اكتشف بعضُ الاقتصاديّين مثلا علاقةً طرديّة نوعا ما، بين ارتفاع مستوى التخضّم وارتفاع نسبة جرائم السرقة، تتمتّع بثبات نسبي، لا تكاد تتغيّر بين مجتمعٍ وآخر، كما اكتشف بعضُ الاجتماعيّين علاقةً ثابتةً نوعا ما، بين احتجاب الشمس الطويل شتاءً وارتفاع نسبة الانتحار، لا تكاد تتغيّر بين مجتمعٍ وآخر. السرقة والانتحار جنايات في حق النفس أو الغير، لكن لها أسباب كامنة يتعذّرُ التغلّب عليها بمجرد التحريم والوعظ أو حتى التجريم والحظر القانوني. بل بمحاولة التحكّم في آليات عمل الاقتصاد للحد من تأثير تقلباتها على محدودي الدخل، أو بالتوصّل لعِقَار يحمي الإنسان من هجمات الاكتئاب الحادّة. بطبيعة الحال، سنظل عاجزين عن عمل شيءٍ لظاهرةٍ ما، ما لم نعرف كيف نشأت واقعيّا. وسنستمر -في حال جهلنا الأسباب الواقعيّة- في إسداء النصائح أو إطلاق الأحكام.

     في ضوء ما مضى، ما الذي ننتظره من امرأةٍ تُربّى على أنها كالجارية التي لا تستطيع أن تعيش إلا في ظل رجل، ويُصاغ وعيُها منذ نعومة أظافرها على أن وظيفتها في الحياة هو الخدمة في بيت ذلك الرجل، بحيث تكون رسالتها في الحياة، هي حصْرا، تدبيرُه والقيام بشأنه ورعاية أطفاله منها، وأنها تقريبا لا تحتاج من العلوم والمعارف والمهارات سوى ما يعينها على أداء واجباتها تلك، الخ. كل هذا سيخرج لنا، في النهاية، امرأةً أقل من الرجل في كل شيءٍ مهم تقريبا، ومن الطبيعي أن تكون بحاجةٍ إليه، لأنها أصلا رُبّيت لتحتاجه وتعيش في ظلِّه، بحكم أنها -صارت- أضعف وأقل منه، تماما كما رُبّيَ ليكون أقوى وأرفع منها. ولأنه خُلقَ ليكون سيّدها، فقد خُلقت لتكون جاريته. هذا هو مؤدّى الثقافة التي تشرّبتها منذ عرفت نفسها ووعت ذاتها. لُقّنتها بوصفها "الفطرة" أو الوضع "الطبيعي"، ورُتّبت علاقاتها، وأُقرّت حقوقها وواجباتها وصِيغ وعيها للتتّسق معه. رُتّبَ الشرعي وأُقيم على الفطري (الطبيعي) المزعوم. ولهذا تجلّى الحيف والمحاباة في تفاصيل الأحكام بين الجنسين، لأنها مؤسّسة أصلا على وضع غير عادل. هذه المسالك والعادات إن أُعطيت مضمونا دينيا، فسيؤدي ذلك إلى حبس المرأة وتجميدها في قالبٍ معيّن، مغلْق، ناقص، يجعل من عدم المساواة حالةً دائمة، لا مرحلة عابرة. أي حكما مؤبّدا لا معالجةً ظرفيّة. ما يدفعنا للقول بأن تلك الأحكام والتشريعات والتقاليد تضعفُ المرأة، من حيث نظن أن تحميها. وتحصّن مركز الرجل، من حيث نظن أن توقفه عند حدِّه !

الثلاثاء، 5 يوليو 2016

ما وراء شيطنة عدنان إبراهيم

     
     ما طبيعة التهديد الذي يمكن لعدنان إبراهيم أن يمثّله للتيار الديني والمحافظ عندنا ؟ أظن الرجل خطرا يتهدد شيئين : أفكار ومصالح .. تبدو الأفكار الواقعة تحت مرماه معروفة وواضحة، إنها مجمل الطريقة التقليدية الامتثاليّة لفهم الدين وتطبيقه. وهي كل ما اشتُهر عدنان إبراهيم بالحديث حوله، بوصفه داعيةً يتأرجح بين الثوريّة والإصلاح. وعندما نتحدث عن التقاليد الراسخة في الفكر والسلوك، فنحن في الواقع نتحدث عن المجتمعات، حيث لا تقاليد مهيمنة بلا سلطة عدديّة تفرض الاتّباع. وبالنظر للتقسيمات التي أملتها استقطابات المرحلة، فنحن نتحدث عن الأغلبية المحافظة، القاعدة الشعبيّة الأهم للتيار الأصولي، التي توفر لرموزه قوّة ضغط كما تدرّ عليهم أرباحا طائلة. بمعنى أنها مصدر نفوذهم وقوّتهم.

     على أرض الواقع، الفكرة الأقوى هي الأكثر قدرةً على كسب الأنصار والمؤيدين، مهما كانت واهيةً من الناحية المنطقيّة أو العلميّة. ويظل أصحابها أقوياء وذوو تأثير في السياسات العامة، ما داموا قادرين على الاحتفاظ بقواعدهم الشعبيّة وافرة العدد، إذ القوّة هنا في العدد. تكمن خطورة عدنان إبراهيم، وكل مصلح ديني حقيقي، في أنه يعمل، بشكلٍ غير مباشر، على حرمان هؤلاء من مصادر قوّتهم، صارفا وجوه الناس عنهم. لأنه يروّج لطريقةٍ لفهم الدين يقع هؤلاء خارجها تماما، طريقة أقرب للعصر وقضاياه وفلسفته، بحيث لو كُتب لها النجاح وانتشرت، لفقدوا جُل أو كل ما يتمتّعون به من سلطة واعتبار وقيمة تتجاوزهم كأشخاص، ويبطل بالنتيجة سحرهم.

     ليس من فراغٍ إذن تلك الحملات المسعورة ضده، والتي ينخرط فيها عددٌ متزايد من الشخصيات والموسسات الدينيّة الرسميّة، تحت عناوين وشعارات مختلفة، ترمي لغرضٍ واحد، هو ضرورة القضاء على المنافس الجديد. وليس التبديع والتكفير سوى أدوات لضبط سوق الفتاوى الدينيّة على مقاسهم، يمارسه المحتكرون ليظلوا متمتّعين بمزايا الاحتكار، أطول وقتٍ ممكن قبل أن تتحطّم سفنهم بأمواج الواقع العاتية، فيما الريح تنفخ في أشرعة عدنان إبراهيم. هل هذا يعني، في التحليل النهائي، أن الوضع عبارة عن مصالح مسيّجة بمقدّسات ؟ ربما. الواقع أن ضحايا كل تغيّر يحدث اليوم، هم جناة الأمس.

الأحد، 26 يونيو 2016

الكوميديان بوصفه رسولا


     في خضم الحديث عن مرامي وغايات الأعمال الكوميديّة التي تهل مع كل رمضان أتساءل إذا ما كانت الكوميديا تفقد معناها خارج الضحك ؟

     الفن للفن والكوميديا للضحك، هكذا وحسب. تمسّح الكوميديا، المبالغ فيه، بشرعية النقد الاجتماعي أصبح ممجوجا، فهي لا تقدّم معلومة ولا ترفع جهلا، فقط تبتكر مفارقات يُفترض بها إثارة الضحك على نطاق واسع، لأنها في النهاية أعمال تتكبّدها مؤسّسة ربحيّة، عينها على جيب المشاهد قبل عقله. وموضوعها قد يكون اجتماعيّا وقد لا يكون. ومؤدّوها -الكوميديّون- قد يكونون مثقفين وقد لا يكونون. لهذا فإنها لا تتكفّل بأي مهمّة معرفيّة/نقديّة، إن اعتبارنا رسالة المثقف معرفيّة/نقديّة.

     البحث عن معنى وغاية وراء الضحك في الكوميديا ينطوي على احتقار للضحك، الضحك لمجرد الضحك، إذ "الضحك من دون سبب -وجيه!- من قلّة الأدب"، ما أوجب البحث عن أسبابٍ أخرى له، فليكنْ إذن في سبيل الإصلاح الاجتماعي، أو بحثا عن الحكمة التي بلغ من عمقها أن سخرت بالحياة، أو غير ذلك.

    نحن نضحك على مشاكلنا بعد أن شخّصها الكوميدي، حيث تهتز الحقائق المتعارف عليها كلما قهقه الناس أكثر. هل هذا صحيح ؟ أعتقد لا. إما لتعدد التأويلات، حيث تغمض على كثيرين "الرسالة" المراد إيصالها. وفي حال وصلت الرسالة، فإن أكثر الضحك منصبٌ على الطريقة التي حُوكي بها الواقع، وليس بالضرورة اقتناعا بأنها مثّلته بأمانة واقتدار.

     يتشارك الجميع تقريبا، منتجين ومستهلكين، لعبة الترفّع عن الضحك المجرّد. فيجري تكريس الكوميدي بوصفه مثقّفا وصاحب رأي، كما يجري تصوير المشاهدين بوصفهم مهتمّين بقضايا الشأن العام، أي مثقفين أيضا، بالتالي لا أحد يضحك من فراغ، سوى السخفاء والجهلة !

     الكوميديا تختزل الواقع، تكثّفه، تعيد تركيبه وبناء علاقاته، ثم تخرجه بشكلٍ مختلف، بحيث يكون مضحكا. ليست أكثر من "نكتة" مجسّدة في عمل مؤسسي. وتضمينها معاني أبعد، أو تزويدها برسالة سامية، أو تحميلها مسؤولية إصلاحٍ ما، ليس أكثر من نزعة يساريّة يُفترض أنها دُفنت في مقبرة السرديّات الكبرى. مجرد إيديولوجيا ترى الأشياء أجزاءً من كل، هو المشروع الذي ينتظم الدولة والمجتمع. وفقا لذلك المنظور الجميع مثقف عضوي، لأنه يحمل رسالة، ويسعى لتحقيق هدف يتعدّى ذاته.

الأربعاء، 18 مايو 2016

اللّعمة !


     يضعفنا الترف وعاداته الرخيّة، ويحدُّ من قدرتنا على البقاء، لأنه يسلبنا القدرة على الصراع من أجله، وهو كما نعرف شرطُ استمرار النوع وتطوّره. إن العيش في ظل الوفرة يقتل منابع القوّة في الإنسان، ويحول دون نمو استعداداته ومواهبه، فتفسد بذوره في تربتها. لا شيء كالتحدّي يدفع الإنسان ليكون أفضل مما هو عليه، فسعيه منفردا وراء متطلبات حياته يعوّده حمل المسؤولية، ويخرجه من حيّز الإمكان لحيّز الوجود.

     لتوينبي نظريةٌ شهيرة، تفسّر نشوء الحضارات بوصفها استجاباتٍ لتحدي، ومتى ما عُدم التحدّي عُدمت الحضارة وامتنع التمدّن. وظلًّ ولعُ الأسر الحاكمة برحلات الصيد مشبوبا منذ القدم لِمَا فيها من مشاقٍّ تصلبُ العود وتطرد عن البدن الرخاوة التي لا تناسب المتأهبين للجلوس على العرش وتقلّد المسؤوليات الجسام، سيما والواحد منهم يطفو فوق بحيرة نعيم توشك أن تبتلع قواه، فتكف مطامحه عن أن تكون علُيا. كما لعله -أي الترف- علّة العلل في كون المجتمعات الخليجيّة هي الأقل انتاجا في كل شيء، إذ الحاجة أم الاختراع.

     الدعة شَرَك قاتل، يعوق الإنسان عن اكتساب ما يحتاجه لمواجهة نقائض الرفاه، وهي كثيرة بقدر ما هي محتملة، ما لعلّه يكشف الوجه الإيجابي للبؤس، حيث آلام الحياة ومتاعبها أمصالٌ لأوبئتها ونكباتها. أقلنا وجعا هو أكثرنا شكايةً إذا أُصيب، ربما لأنه لم يعتدها، أي طارئة، ألهذا يبدو العزاء في القصور أكثر كآبةً واسودادا منه في الأكواخ ؟ لستُ أدري، لكن صرت أخاف من انزعاجي من همود المكيّف لانقطاع الكهرباء أكثر من خوفي أن يطول انقطاعها، وأخاف من تأخر الضربة التي تقويتي مترقّبا التي ستقتلني.

     التعب مدرسة، نظلُّ مسكونين بأميّةٍ ما إذا لم نستكمل فصولها ونأخذ نصيبنا غير منقوص. النعمة هي الوجه الآخر للعنة، فـ "اخشوشنوا، فإن النعمة لا تدوم".

السبت، 14 مايو 2016

أرقام العمر


     للزمان وحدات قياسية متعارف عليها عالميّا (ثانية، دقيقة، ساعة، يوم، الخ) مثلما للمكان وحدات قياسية متعارف عليها عالميّا (ملم، سم، م، كلم، الخ)، مربعا للأسطح، مكعبا للأحجام، وهكذا، حتى تتداخل الأشياء وتتعقّد بالتالي طرائق قياسها، كما إذا تداخل الزمان والمكان والحركة، فلقياسها نحتاج إجراء معادلات، حيث المسافة هي حاصل ضرب السرعة في الزمن، والسرعة هي نتيجة قسمة المسافة على الزمن، وهكذا، في المعادلات الأكثر تعقيدا لقياس أشياء أكثر تعقيدا، ربما حتى يضمحل تفكيرنا في غياهب الوجود.

     أظن أن عمر الإنسان من تلك الأشياء المعقّدة، التي لا بد لقياسها من إجراء معادلةٍ ما. لكن قبل ذلك من الضروري التساؤل عمّا ينبغي قياسه، إذا ما كان -مثلا- المدّة الزمنيّة التي يقضيها الإنسان وهو لا يزال على قيد الحياة، وعليه يكون العمر قياسا للزمن، أم أنه قياس لمدى صلاحيّته للبقاء على ما يُرام، وعليه يكون العمر قياسا للجسد، ذلك أن موضوع الصلاحية من عدمها، هو الجسد حصرا، ولأن الشيخوخة وصف عام لتراجع الصحة.

     بعبارة أخرى، إذا كان العمر تأريخا، فلأي شيء بالضبط، أهو منصبٌّ على الماضي (مدّة بقاء جسد حتى الآن) أم هو استشراف للمستقبل (المدّة المتوقّعة لبقاء جسد) ؟ إذ للعمر دلالة باتجاهين : ماضٍ ومستقبل. لأن سؤال (كم أمضيت في الحياة ؟) ينطوي على توقع استشرافي (كم سيبقى لك فيها ؟)، كلاهما وجهان لعملةٍ واحدة : العمر. يتمحور الإشكال إذن حول الجسد، وهو ما يجب أن يكون المسطرة الأكثر دقة لقياس العمر

     في واقع الحياة، كم وجدنا عشرينيّا على هيئة ثلاثيني، وثلاثينيّا على هيئة أربعيني، الخ، والعكس أيضا، ليس شكلا وحسب، بل وعقلا. الجهاز النفسي برمّته. وهي ظواهر معروفة، تُفسّر عادةً بالعوامل المتحّكمة بالمعيشة (جغرافيا، اقتصاد، اجتماع، الخ)، فتعجّل أو تبطّىء من نضج الشخص أو احتراقه، ما سيجعل من اعتماد الزمن وحده معيارا لقياس العمر إشكالية، حيث الفروق الفرديّة ظاهرة للعيان، تفسيرها بالجينات والمحيط.

     وما دام أن مفعول الزمن في الأجساد يختلف من شخصٍ لآخر، أي من تجربة لأخرى، فيجب مراجعة هذا المعيار الظالم بمساواته بين المختلفين، خصوصا وقد أصبحت محافظة الإنسان على شبابه داخلةً في نطاق الإرادة البشريّة، مع تطوّر الطب وتقنيات الرياضة الصحيّة ومتعلقاتها؛ من أنظمةٍ غذائيّة وأساليب عيش ونحو ذلك. بمعنى أن عمر الإنسان أصبح اليوم ثمرة كدٍ وتعب، فمن الإجحاف تعميم الجميع برقمٍ واحد.

الثلاثاء، 10 مايو 2016

شاركنا هبالتك


     مع تطور التقنية وتناسل برامج التواصل الاجتماعي، بنسخها المتعدّدة، أصبحت الحياة الخاصة مهدّدة من الداخل، أي بأيدي أصحابها. وأخذت الحساسيّة ضد التطفّل والمتطفّلين تتبلّد كلما اتّسعت المساحات الشخصيّة المباحة بشكلٍ طوعي لتطبيقات التصوير بأنواعها، عندما تحوّل اليومي إلى موضوعٍ للحفظ والتوثيق والأرشفة كما لو أنه حدثٌ لا يتكّرر ! واستتبع التساهل في التصوير تساهلا في التصريح والثرثرة، فأدمن البعض الظهور حدَّ التعرّي، وأدمن آخرون الفُرْجة حدَّ الخرس.

     إن انتشار موضة "شارك الآخرين لحظتك" جعل الفضولي المتلصص كائنا مهدّدا بالانقراض حقيقةً. ليعيش، يحتاج الفضولي غابةً من الخصوصيات، ذلك هو وسطُهُ الحيوي وبيئته الطبيعيّة. لكن بعد أن هوى جدار الخصوصيّة الشخصيّة تحت كاميرات ومايكات تلك البرامج والتطبيقات (آخرها السنابشات، الأكثر فهاوةً وعبطا)، تبعه -في التداعي والسقوط- هرمُ العلاقات الشخصيّة وطابعها الطبقي، الذي تتحدّد ،بناءً عليه، أنواع وأصناف من الموضوعات والأحاديث، تتناسب وكل طبقة. من يخلط بين الطبقات، فيغرف للجميع، غرباءً وأصدقاء، من ذات الإناء والملعقة، ويحدّثهم بذات الطرائف والقصص والأساليب كما لو أنهم، جميعا، خلصاء أصحابه، مسقطا علّة كل أشكال الارتباط الحميمي بين البشر : التمييز. فنحن إذن بإزاء مرضٍ نفسي لم يُكتشف حتى الآن ! بل وأجروء على القول بأن أكثر -إن لم يكن كل- مشاهير هذه البرامج مرضى نفسيّين.

     أسوأ ما تزرعه فينا تلك البرامج ليس الرياء والتصنّع والمباهاة، بل إنه الولعُ بتتبع الآخرين وإدمان تفاهاتهم، وحرماننا حتى من حقنا في ارتكاب التفاهة، حيث استُعيض بمشاهدتها عن ممارستها فعليّا. ومتى ما بلغ الإنسان هذه الدرجة، فهو خارج الحياة حقيقةً، بكل ما تعنيه الحياة من حسٍّ وحركة وتذوّق.

السبت، 2 أبريل 2016

ماجد برمنده (إني أتّهم !)


     من المؤسف أن ما جرى لماجد برمنده ليس سابقة من نوعها، فكما حصل مرارا مع آخرين، لقي الرجل حتفه على يد رجال أمن. جدير بالذكر أنه -باعتراف الناطق الرسمي لشرطة مكّة- لم يكن مسلّحا.

     أعتقد أن التقيّد بنصوص نظام الإجراءات الجزائيّة في التعامل مع هكذا حوادث لا يمكن أن يفضي للوفاة المقبوض عليه، أين الخلل إذن ؟

     مهما يكن الاختلاف في تفاصيل القصة، هنالك حالة وفاة تستدعي، أقل ما تستدعي، إجراء تحقيق نزيه وعاجل قبل أن تتسمّم الأجواء أكثر، حيث هنالك اشتباه قوي بوقوع جريمة قتل. لا نماري في خطأ ماجد في تدخّله في عمل رجال الأمن، لكن من الصعب اعتبار سقوطه قتيلا بعد عراك بالأيدي معهم حادثا عرضيّا. ولقد وثّقت الصور عصيّا كهربائيّة بيد عناصر الأمن المحدقين بالجثّة، بعد أن أوسعوه ضربا. كما وثّقت الصور أيضا ماجد محاطا بعدد من رجال الأمن وقد أطبق أحدهم يديه على رقبة ماجد، وهذا ما يجب التوقّف عنده مليّا.

     بعد أن اختارت شرطة مكّة الوقوف خلف منسوبيها وتبنّي روايتهم بالكامل، لا أعرف إن كان ملف القضية سيُغلق أم لا، لكن لون بشرة القتيل وانتماء الجناة لجهاز محصّن ضد النقد يجعلني أتشاءم.

     استوقفتني كثيرا سلبيّة المثقّفين والكتّاب وكأن الموضوع أقل من أن يعلّق عليه ولو بتساؤل بريء عن ملابسات موت إنسان، هل ضحايا الهيئة هم وحدهم من يستحقون المساندة ؟ هل التشكيك في رواية شرطة مكّة ستضعهم في مواجهة مع الدولة مثلا ؟ من المفارقة أن ولادة المثقفّين كطبقة أو شريحة كان بسبب قضية من هذا النوع، هي قضية درايفوس، عام 1894 عندما نهض زولا، في بيانه الشهير "إني أتّهم"، لحمل تلك القضيّة على عاتقه كما لو أنها قضيّته شخصيّا. بذلك تصدّعت الأبراج العاجيّة عن المثقّفين، ليسلكوا الطريق الذي افتتحه زولا بابتكاره ما اصطُلح على تسميته "قضيّة رأي عام"، وهي مظالم خاصّة لم يجد ضحاياها لهم نصيرا سوى الضمير الحي، الذي يتولّى المثقّفون بأقلامهم وخزه وإيقاظه في نفوس عموم الناس، وبقوّتهم مجتمعين يُعدل الميزان الذي أماله المتنفّذون في الدولة، أيّة دولة.

     يجب أن يُنظر للمستضعفين كثقوب وفجوات في المعمار الاجتماعي، كثرتها تهدد البناء بالسقوط على رؤوس الجميع، الكبيرة والصغيرة.

     على أيّة حال، أفهم دوافع أمريكا في رفضها التصديق على المعاهدات الدوليّة التي قد تفضي لوقوع جنودها تحت طائلة القانون الدولي، إذ من شأن هذا أن يحد من نشاطاتها العسكريّة العابرة للقارات. لتكون حركتها سلسة، يجب أن يظل جنودها محميّين قانونيّا ومحقونين إيديولوجيّا، لكن هل لاستحضار الهواجس الأمريكيّة علاقة بحادثة ماجد برمنده ؟ أترك ذلك لاجتهاد القاريء، فقط أشير إلى أنه من المعروف أن أجهزة الأمن أقوى ما تكون في الأنظمة البوليسيّة المغلقة.

الأربعاء، 16 مارس 2016

المثقفون نفسيّات بالفطرة


     لدي تصوّر عن شخصية المثقف، لا أظنه مغلوطا أو مبالغا فيه، وهو أنه بغيض، نعم بغيض ! بعبارة أكثر تفصيلا : شخص مهذار، ضعيف التواصل مع الناس، ذكاؤه الاجتماعي محدود أو معدوم، يعاني عجزا مزمنا عن كبح نرجسّيته وتطاوله الصبياني، ربما لاعتقاده أن ارتفاع نسبة الوقت الممنوح للقراءة من يومه يجعله بالضرورة الأكثر فهما ومعرفةً واضطلاعا بكل شيءٍ، وحصيلة الآخرين -هكذا يعتقد- مجرد مهارات وخبرات عمليّة، تظل محدودة إذا ما انفصلت عن بعدها النظري الذي يعتبر المثقف نفسه وصيّا عليه. طبعا لهذا الاعتقاد أساس صحيح، حيث حِرْفة المثقف ومجال نشاطه الأصلي هي العمل الذهني، لكني أتحدث عمّا يحتف بالصحيح من وهم وخطأ.

     هل نجاح المثقف في بناء عوالم ذهنيّة أكثر تطوّرا واتساقا بالمقارنة بغيره، عائدٌ في الأساس لكونه قد فشل في بناء عالمه الواقعي ؟ كثيرا ما يُردد هذا التساؤل بصيغٍ مختلفة، والحقيقة أنني سجّلته تنويها بتفاهته، لأن قصص نشوء المثقفين ليست متماثلة ليصح تنميطها في قالب جامد ونهائي، وإن كان المثقفون، بعد نشوئهم، يجمعهم ما يشبه الطبقة أو النمط، أي قالب أو نموذج. وعلى أيّة حال، القولبة ضرورة إجرائيّة هنا بغرض الحديث حديثا عاما، مثلما نتناول المتسوّلين أو حيوان الكنغر.

     لستُ بصدد الحديث عن وظيفة المثقف الاجتماعيّة ولا عن دوره السياسي ولا عن قدرته الفائقة في تأويل ذاته وتصديرها داخل الفضاءات المعنويّة التي يبتكرها، مرّةً كإله يستولي على الأقدار الذهنية ويقودها طوع إرادته، ومرّةً كنبي يبشّر بالخير ويبذل الصديقين والشهداء .. الخ، هل تعلم أنه قد بلغ من نرجسيّة المثقفين أن كتبوا كتبا اعتُبرت مقدّسة، أحلّوا فيها ذواتهم محل الآلهة، فشّرعوا الشرائع وكرّسوا قراءتهم الخاصّة للتاريخ ! المثقف دائما أبَوَي، يمارس الوصاية كلما حرّك لسانه أو قلمه، وما قد نختلف فيه هو أشكال الوصاية، عنيفةً أم سلميّة، صريحة أم ضمنية. لعل سقراط كان أول من أعلن خجله من هذا الاستعلاء المتعجرف، فقال : "الذي عرفته هو أنني لا أعرف شيئا"، ثم راح يبشّر بهذه "المعرفة الجديدة"، حتى لقي حتفه في سبيلها، لكن تجاوزه الزمن وانتصرت السفسطة باندثار المطلقات !

     سأحاول أن ألقي الضوء فقط على ما به يكون المثقف غثيثا، ثقيل الطينة، زقّا حقيقيّا. وهو في رأيي ناجم عن تضخّم حاسّة النقد لديه، الأمر الذي أتى على حساب ذاكرته. عقل الإنسان إما أن يمتلئ بالحكايات والطرائف، وهو ما به تُعمر المجالس وتحلو، وتتوثّق العُرى والوشائج بين الناس، وهذا دأب من يصمهم المثقف بـ "العامّة" على سبيل الزراية، وإما أن يمتلئ العقل بالقضايا والبراهين والأدلة، وهو ما به تغدو أحاديث المثقف عبارة عن حلقات متواصلة من الجدل والمخاصمة وتسجيل المواقف، فتستوحش منه النفوس وتسود النُفرة وتتفاقم التصنيفات، وهو دأب المثقفين.

     المثقف عادةًَ محمّل بالقضايا، فيما العامي مفعم بالسوالف. القضايا تخلق المعارضين، والسوالف تجذب المستمعين. قد يحضى المثقف بلقب "ذكي" وهو وصف أقل حميميّة اجتماعيّا ويوجب التحفّظ إذا ما قارنّاه بلقبٍ من قبيل "ونيس"، الذي يُتبع دائما بدعاء لطيف. وهي نتيجةٌ متوقّعة لمن امتنع عن مجالسة من ينفقون أوقاتهم في تبادل المسلّي وغير الدقيق، وهو ما يدفع المثقف للإنزواء خلف الأرفف واحتضان الكتب أكثر، حيث الحقائق أكثر شحوبا وضآلة، المنطق الصرف والشكوك المتجبّرة والنقد المستهتر بكل شيء. الانسجام الفكري كشرط للعلائق بين البشر، هذه مجرد خرافة وحدهم المثقّفون من يروّجها، لكن يتكشّف عند إجراء أية معاينة، تتمتّع بالحد الأدنى من الموضوعيّة، أن المنفعة هي أساس الترابط بين الناس، أيّا كان شكلها، حيث هي جسرٌ يعبر الأفراد من فوقه أعراقَهم ومذاهبهم وأديانهم.

     ما من اجتماعٍ بشري إلا ويقوم على شيءٍ من الخرافات والأضاليل، على كل من يرغب العيش داخله أن يقلّل من اصطحابه للنقد إلا مزموما بقيد، كما لو أنه كلبٌ يحاذر صاحبه أن لا يروّع جيرانه أو يعض من يمشي بينهم برفقته. وإذا ما اعتبرنا أن مهمّة المثقف هي النقد، فليكن مطمئنا من أن له دورا لا يقل في أبدّيته عن دور الزبّال، حيث لن تتوقف المجتمعات عن انتاج الضلالات والأخطاء والنفايات. إن داخل كل مثقف يوجد عامّي لطيف المعشر، هو ما يجعله مقبولا اجتماعيّا. موت ذلك العامي سيقوده لحالة نيتشه عندما أعلن موت الإله، فمات منبوذا.



الأربعاء، 2 مارس 2016

الإرهاب : اليقين والشك



     هنالك علاقة سببيّة بين التسامح والشك أو لنقل بين احترام الاختلاف وانعدام الحقائق الكليّة، يسمح هذا الربط بالادّعاء بأن زرع الشكوك ودحر الحقائق الكليّة يقود في النهاية لجعل النفوس أكثر قبولا بالاختلاف، أي أكثر تسامحا. قد يُقال إن الحقائق الكليّة تمنحنا، على الصعيد الفردي، من السكينة والأمل الممتد، ما لا نجده مع الشكوك المفتّتة للحقيقة في مناخل النسبيّة، لكنها، كما قد يُقال في المقابل، قد تجعل حياتنا، على الصعيد الجماعي، صراعاتٍ مدمرة، وغير قبلة للتأجيل.

     أعتقد أن هذا التعارض يوجب وزن كلٍ منهما ومقايسته بالآخر : الحياة الآمنة في الخارج (الجماعات) بإزاء السكينة القلبيّة في الداخل (الأفراد). مؤسفٌ أن الجمع بين هاتين السعادتين أصبح متعذّرا في ظل توالد الحقائق المطلقّة واستشرائها في المجتمعات، مجتمعاتنا بالتحديد. ملل ونحل ومذاهب. حوافُّها من نار، يحيق بها التعصّب من كل جانب. علينا إذن أن نختار آخذين لحظتنا التاريخيّة ومشكلاتنا الآنيّة بالحسبان. التطلّع لشيءٍ من الروحانيّة الفرديّة على قاعدة اجتماعيّة متشككة، ترفٌ يُفترض ألا يساور أفرادا متورّطين بالعيش في مجتمعاتٍ ما تزال عالقةً في خناقاتها القديمة حول تقسيم التركة التي ورّثها اليقين.

     إن العقول البسيطة هي، باستمرار، المدرَج المعدّ تربويا لهبوط القطعيات والحقائق المطلقة، وما يستتبعها من آحاديّة وتعصّب وغلو، الخ. وتحصينها ضد غزوات المطلق يُفترض أن يبدأ بالقضاء على عنصر البساطة فيها بجعلها مركّبة ونسبية ومتعدّدة، كيف ؟ باختصار، بجعلها متشكّكة. بتعريضها للآراء الأخرى وحقائقها وأدلتها. بعبارة أخرى : العمل على كل ما من شأنه تصعيد "الشبهات" وإعطائها الفرصة الكاملة لاعتلاء المنبر. وهذا عمل معرفي قبل أن يكون تربويّا. سيما وأن تلقين نصف الحقيقة، في الدين والتاريخ، والاكتفاء بها وحدها، ليس في الواقع إلا تعبئةً ضد آخرين، يحتكرون النصف الآخر. دعونا ننسى، مؤقتا على الأقل، أن الحقيقة ليس في متناول أحد، ولنفكّر في كيفية ردم مستنقع البساطة التي يُولد بها الإنسان، الجاذب بطبيعته الرخوة لكل أصناف العفن والجراثيم والحشرات.

     العقيدة الواحدة والرأي الواحد تشحذ عواطف الإنسان، وتسنُّ وعيه حتى يكون مدبّبا كالشوك، فتُحيل كيانَه آلةً حادّةً قابلة للسلِّ والإشهار في وجه أيّا كان، ولو كانوا قرباه وذوي رحمه، ناهيك بمجتمعه أو بلده. إن هذا اليوم لهو وباءٌ تجب محاصرته بأسرع وقت ممكن، حيث العقول كالهشيم المهيأ لأي نار يشعلها متنبّئ أو زنديق.

     لو فهم عوام الشيعة أدلة السنة على دحض الإمامة، هل كانوا سيسارعون للانخراط في الحشد الشعبي المندفع بغضب صوبَ مناطق السنة ؟ لو استوعب المسلمون أدلة المسيحيّين وحججهم على تكوّن الإله من ثلاثة أقانيم مقدّسة، هل كانوا سيستسهلون اتهامهم بالإساءة البالغة لله ؟ لو وعى أتباع الديانات الإبراهيميّة جوهرية الأخلاق وأصالتها في البوذية، هل كانوا سيتحمّسون للتبشير والدعوة في ديارها ؟ الخ.

     عندما يكون دافعك لقتل الآخر وتصفية وجوده، هو يقينك بصوابك وخطئه، فإنك ستمتنع فورا عن ذلك بمجرد شكّك في كونه على خطأ وكونك على صواب. كل عمل معرفي لمكافحة الإرهاب يبدأ بهذه الفكرة البسيطة : التشكيك وهزُّ اليقينات المتراكمة في عقل الإرهابي، وبالفصل بين المبتدع والكافر وبين الشرير. الشك هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الجهة الأخرى من الحقيقة. إجمالا، ومهما قيل، إن إثارةُ الشكوك خير، لأنها تهدم أسس الشر القابعة في العقول والقلوب. الشكوك كالزلازل التي تضرب العقل، الأفكار لمتسّقة المتماسكة ستبقى والهشّة المهلهلة تتداعى. والله أعلم.


الاثنين، 1 فبراير 2016

الليبرالية كأسلوب عيش


     لا يوجد دين أو مذهب أو إيديولوجيا إلا وهو يدعو إلى إطلاق حرّية الناس، لكن في إطار أفكاره. أي تحرير أتباعه والمؤمنين به، ثم منحهم الحقَّ في تحديد حرّيات الآخرين. وحدَها الليبراليّة تدعو إلى تحرير الفرد، أيّا كان دينه أو مذهبه أو إيديولوجيّته. تحريرُه مِنْ كل ما يحول دون تمثّل قناعاته والعيش بمقتضاها بسلام. ربما لأن الليبراليّة -كما يقول العروي- نتجت من معاناة الحدود. ولذا كانت ضد كل قيدٍ على الفرد لا ينبع من ذاته. أنت -في الليبراليّة- حرٌّ في اختيار قيودك التي تشاء. لا أجد في الليبراليّة مضمونا فكريّا آخر، عدا هذا. ولذا لم تكن إيديولوجيا، أي نظاما من المعتقدات النهائيّة الباتّة، بل كانت دعوةً للتعايش واحترام الاختلافات. أو كأسلوب حياة متسامحة. تكاد الليبراليّة ألا تُعنى بالفلسفات والأفكار الكليّة، فهي غير مهمّة تقريبا، المهم هو الفرد. أي حرّيته وحقُّه الطبيعي في اعتناق أيٍّ منها. وضوحُها وبساطتُها هذه هي سرُّ قوّتها ونفوذها العظيم في الأديان والمذاهب والإيديولوجيّات، لأنها لا تقدّم نفسها بديلا عن شيءٍ منها. هي فقط مجال اجتماعي، يمكنها -أي الأديان والمذاهب والإيديولوجيّات- أن توجد فيه بدون صراع، حتى اعتقد بعضُ منظّريها أنها نهاية التاريخ وذروة التطوّر الاجتماعي، لأنها وضعت حدا للصراع المسيّر لحركة التاريخ.

     منذ القِدم تأسست المجتمعات متجانسةً، تحكمها تصورات موحّدة تقريبا، في المعتقدات والأخلاق والسلوك. وكانت باستمرار تنفي غير المتّفق معها، وتنبذه نبذا لا هوادة فيه، وتعتبره انحرافا يجب التخلّص منه. ذلك أن عدم الاتّفاق معها كان بمثابة خروج عليها ! وبمرور الوقت تحوّلت المجتمعات، بفعل عوامل الدمج والمجانسة، إلى كتلٍ بشريّة ضخمة، مكوّنة من أفرادٍ مكرّرين، مجرد نسخ متطابقة، هي السواد الأعظم. كان المختلف شاذَّا إذن، حيث يبدو نتوءا مؤذيّا عن الصف الصقيل، الأمر الذي جعل أول متطلّبات اللباقة الاجتماعيّة هي مطابقة الجميع والتماهي معهم. مع بزوغ الليبراليّة انتهى كلُّ هذا، فحلَّ التعدد محلَّ الآحادية، وتلوّنت المجتمعات، وصار أول متطلّبات اللباقة الاجتماعيّة هو التسامح .. الذي اختلَف هو الموقف من المختلِف، فلم يعد أحدٌ وصيّا على مثله. ومن يرى أن لديه فكرةً عظيمة مثلا أو ضروريةً للبشر بأي معنى كان، فليس له سوى أن يُقنعهم بها. الأفكار العظيمة ليست بحاجة سيف أو مدفع، ولّى عصر الإرغام والقسْر، بالعكس، الفكرة المسلّحة بغير الحجّة والبرهان، باتت مثار شك.

     أوجدت الليبراليّة مجتمعا ضعيفَ الدولة، قويَ المؤسسات. القانون فيه ليس لفرض الحرّية، إنما لحمايتها، لأن الحرّية لا يمكن اختزالها في نمطٍ سلوكي واحد، معيّن، حتى يُعمّم ويُفرض على الجميع. كلٌّ منا يريد أن يكون حرَّا ليعمل ما يريده، وما نريده يختلفُ من شخصٍ لآخر، بطبيعة الحال، إذ الحرّية تُبرر بغاياتها، وغاياتها تختلف بحسب الأفراد. لعل هذا أن يقودنا إلى التفكير في شعار "لا حرّية لأعداء الحرّية"، الذي تبنّاه بعضُ زعامات الثورة الفرنسيّة. وبعيدا عن المجازر والفظاعات التي ارتُكبت تحت رايته، فإن المستهدف ينبغي أن يكون في تناقضٍ وجودي مع الحريّة، حرّية مجتمعه، بحيث لا يجد المجتمع مناصا من الاختيار بين أن يعيش أفرادُه أحرارا كما يريدون، أو أن يتركوا للمستبد وأعوانه حرّية تحديد نطاق حرّيتهم، كما يريدون.

     من الواضح إذن أنهم كانوا في موقع المدافع عن حرّيته المستلبة، التي اضطُر -حتى يستردَّها- إلى إهدار حرّية المهاجم، بل وتصفيته ماديّا. لا يوجد خيار ثالث. كان صراعا إذن لاستعادة الحرّية ممن صادرها، وليس لفرضها على أحد. والواقع أنه لا يُتصور فرض الحرّية على أحد، اللهم إجبار امرأةٍ على خلع نقابها مثلا، لكن أيُّ حرّية فُرضت هنا ؟! إنها وصاية، تستبطن نفس منطق فارضي القيود، إذ من يتولّى الفرض في كليهما -القيد والحرّية- يعتقد أنه يملك الحق في تحديد نطاق حرّية غيره، باعتبارهم -ما لم يكونوا مثله- قاصرين، وبالتالي، فهو يحتكر الحرّية، معطيا نفسَه حقَّ منحها أو منعها من يشاء (ممن ليسوا بالضرورة خطرا عليها !). أليس هؤلاء أعداءً للحرّية ؟! أليس الإرغام نقيضا للحريّة، تماما كالقيد ؟! يقول جون استيورات مِلْ: "إن الغاية الوحيدة التي تسوّغ للناس أن يتدخّلوا -منفردين أو مجتمعين- في حرّية الفرد في تصرّفاته، هي حماية أنفسهم منه. والغرض الوحيد الذي يبرّر، بحق، استخدام القوّة مع أي فردٍ يعيش في جماعة متمدّنة، وبرغم من إرادته، هو منعه من إيذاء غيره. أما اعتبار مصلحته -مادّيةً كانت أو أدبيّة-، فلا يكفي مسوغّا لهذا التدخّل، إذ لا يجوز إكراهه على إتيان فعلٍ أو الإمساك عنه، بحجّة أنه الأفضل له، أو بدعوى أن هذا يجعله أسعد حالا .. قد تكون هذه أسباب وجيهة لتبرير الاحتجاج على تصرّفه، أو مناقشته والتباحث معه، أو محاولة إقناعه بخطأ تصرّفه، ولكنها لا تبرّر إكراهه أو إلحاق ضرر به، إذا أصرَّ على أن يتصرّف بخلاف ذلك". هذه -لمن سأل- زبدةُ الليبراليّة.