الأربعاء، 16 مارس 2016

المثقفون نفسيّات بالفطرة


     لدي تصوّر عن شخصية المثقف، لا أظنه مغلوطا أو مبالغا فيه، وهو أنه بغيض، نعم بغيض ! بعبارة أكثر تفصيلا : شخص مهذار، ضعيف التواصل مع الناس، ذكاؤه الاجتماعي محدود أو معدوم، يعاني عجزا مزمنا عن كبح نرجسّيته وتطاوله الصبياني، ربما لاعتقاده أن ارتفاع نسبة الوقت الممنوح للقراءة من يومه يجعله بالضرورة الأكثر فهما ومعرفةً واضطلاعا بكل شيءٍ، وحصيلة الآخرين -هكذا يعتقد- مجرد مهارات وخبرات عمليّة، تظل محدودة إذا ما انفصلت عن بعدها النظري الذي يعتبر المثقف نفسه وصيّا عليه. طبعا لهذا الاعتقاد أساس صحيح، حيث حِرْفة المثقف ومجال نشاطه الأصلي هي العمل الذهني، لكني أتحدث عمّا يحتف بالصحيح من وهم وخطأ.

     هل نجاح المثقف في بناء عوالم ذهنيّة أكثر تطوّرا واتساقا بالمقارنة بغيره، عائدٌ في الأساس لكونه قد فشل في بناء عالمه الواقعي ؟ كثيرا ما يُردد هذا التساؤل بصيغٍ مختلفة، والحقيقة أنني سجّلته تنويها بتفاهته، لأن قصص نشوء المثقفين ليست متماثلة ليصح تنميطها في قالب جامد ونهائي، وإن كان المثقفون، بعد نشوئهم، يجمعهم ما يشبه الطبقة أو النمط، أي قالب أو نموذج. وعلى أيّة حال، القولبة ضرورة إجرائيّة هنا بغرض الحديث حديثا عاما، مثلما نتناول المتسوّلين أو حيوان الكنغر.

     لستُ بصدد الحديث عن وظيفة المثقف الاجتماعيّة ولا عن دوره السياسي ولا عن قدرته الفائقة في تأويل ذاته وتصديرها داخل الفضاءات المعنويّة التي يبتكرها، مرّةً كإله يستولي على الأقدار الذهنية ويقودها طوع إرادته، ومرّةً كنبي يبشّر بالخير ويبذل الصديقين والشهداء .. الخ، هل تعلم أنه قد بلغ من نرجسيّة المثقفين أن كتبوا كتبا اعتُبرت مقدّسة، أحلّوا فيها ذواتهم محل الآلهة، فشّرعوا الشرائع وكرّسوا قراءتهم الخاصّة للتاريخ ! المثقف دائما أبَوَي، يمارس الوصاية كلما حرّك لسانه أو قلمه، وما قد نختلف فيه هو أشكال الوصاية، عنيفةً أم سلميّة، صريحة أم ضمنية. لعل سقراط كان أول من أعلن خجله من هذا الاستعلاء المتعجرف، فقال : "الذي عرفته هو أنني لا أعرف شيئا"، ثم راح يبشّر بهذه "المعرفة الجديدة"، حتى لقي حتفه في سبيلها، لكن تجاوزه الزمن وانتصرت السفسطة باندثار المطلقات !

     سأحاول أن ألقي الضوء فقط على ما به يكون المثقف غثيثا، ثقيل الطينة، زقّا حقيقيّا. وهو في رأيي ناجم عن تضخّم حاسّة النقد لديه، الأمر الذي أتى على حساب ذاكرته. عقل الإنسان إما أن يمتلئ بالحكايات والطرائف، وهو ما به تُعمر المجالس وتحلو، وتتوثّق العُرى والوشائج بين الناس، وهذا دأب من يصمهم المثقف بـ "العامّة" على سبيل الزراية، وإما أن يمتلئ العقل بالقضايا والبراهين والأدلة، وهو ما به تغدو أحاديث المثقف عبارة عن حلقات متواصلة من الجدل والمخاصمة وتسجيل المواقف، فتستوحش منه النفوس وتسود النُفرة وتتفاقم التصنيفات، وهو دأب المثقفين.

     المثقف عادةًَ محمّل بالقضايا، فيما العامي مفعم بالسوالف. القضايا تخلق المعارضين، والسوالف تجذب المستمعين. قد يحضى المثقف بلقب "ذكي" وهو وصف أقل حميميّة اجتماعيّا ويوجب التحفّظ إذا ما قارنّاه بلقبٍ من قبيل "ونيس"، الذي يُتبع دائما بدعاء لطيف. وهي نتيجةٌ متوقّعة لمن امتنع عن مجالسة من ينفقون أوقاتهم في تبادل المسلّي وغير الدقيق، وهو ما يدفع المثقف للإنزواء خلف الأرفف واحتضان الكتب أكثر، حيث الحقائق أكثر شحوبا وضآلة، المنطق الصرف والشكوك المتجبّرة والنقد المستهتر بكل شيء. الانسجام الفكري كشرط للعلائق بين البشر، هذه مجرد خرافة وحدهم المثقّفون من يروّجها، لكن يتكشّف عند إجراء أية معاينة، تتمتّع بالحد الأدنى من الموضوعيّة، أن المنفعة هي أساس الترابط بين الناس، أيّا كان شكلها، حيث هي جسرٌ يعبر الأفراد من فوقه أعراقَهم ومذاهبهم وأديانهم.

     ما من اجتماعٍ بشري إلا ويقوم على شيءٍ من الخرافات والأضاليل، على كل من يرغب العيش داخله أن يقلّل من اصطحابه للنقد إلا مزموما بقيد، كما لو أنه كلبٌ يحاذر صاحبه أن لا يروّع جيرانه أو يعض من يمشي بينهم برفقته. وإذا ما اعتبرنا أن مهمّة المثقف هي النقد، فليكن مطمئنا من أن له دورا لا يقل في أبدّيته عن دور الزبّال، حيث لن تتوقف المجتمعات عن انتاج الضلالات والأخطاء والنفايات. إن داخل كل مثقف يوجد عامّي لطيف المعشر، هو ما يجعله مقبولا اجتماعيّا. موت ذلك العامي سيقوده لحالة نيتشه عندما أعلن موت الإله، فمات منبوذا.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق