الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

أحيييه (تأملات في الجنس)


     لا يستطيع الإنسان العيش بدون أكل أو شرب، لكنه يستطيع العيش بدون جنس، بمعنى أنه ليس ضرورة تتوقّف عليها حياته. والحقيقة أن هذه مسألة غير ثابتة، فقد يتحوّل الجنس، بفعل الثقافة ومؤثّراتها، لشيء فقْدُه يؤدّي لمشكلات نفسيّة وعضويّة حقيقيّة. بمعنى أنه يصبح، كالأكل والشرب، شيئا قريبا من الضروري إن لم يكن ضروريّا فعلا.

     في المرحلة المشاعيّة من الوجود الاجتماعي للإنسان، عندما كان يلتقط قوت يومه من الأرض، ويشرب من الأنهار والمستنقعات كما تشرب السوائم، قبل اكتشاف النار والزراعة واستئناس الحيوان، لم يكن متصوّرا، في تلك البدائيّة السحيقة، تناولُ الطعام أو ممارسة الجنس بلذّةٍ كالتي نعرفها اليوم في الجنس والطعام، أي بحيث يُتناول للمتعة، لا للإنجاب أو سد الجوع. بحيث يكون غايةً بحد ذاته، لا وسيلةً لشيء آخر. ولعل اكتشاف اللّذة في تلك الأشياء كان وراء نزعة التملّك التي استولت على الإنسان، فأنتجت السلطة التي غيّرت كل شيء في حياته. يظل تخمينا معقولا في سياق تناول تأمّلي لموضوع كهذا. أفسحوا للثرثرة مجالا.

     فقط أتساءل هل تطوّر الطعام وأنواعه وتقنيّاته وفنونه يتساوق مع التطّور الذي طرأ على الجنس، نوعا وتقنيات فنون ؟ أرى أن الجنس ما زال محتفظا بفطريّته الأصليّة، ربما لأنه كعمليّة الأكل، الذي يبقى هو هو، رغم تغيّر المأكول : متمحورا -أي الجنس- حول الإيلاج والقذف مثلما يتمحور الأكل حول المضغ والبلع. إذن ما الذي استجدَّ في الجنس ؟ ربما ضروب مباعثه ومحفّزاته، أي أشياء ثقافية، حيث تطوّرت فنون الإثارة وتقنياتها، ما خلق -بدلا من الإشباع- حالةً من الظمأ الجنسي المستمر. ولعلها مفارقة الجنس دونا عن غيره من أنواع الملاذ والمشتهيات.

     يُخيّل إليَّ أن كسر مركزيّة العضو التناسلي في العمليّة الجنسية من خلال التوسيع المتزايد لنطاق الانتشاء واللذّة، وتوزيعها في كافّة أنحاء الجسد (الشفاه، النهود، الأردف، المص، اللّحس، العض، الخلفي، أشكال الاحتضان، تنوّع الوضعيات، الخ) كانت محاولةً يائسة لاحتواء التوق المتفجّر للطرف الآخر، حيث إنه من الحُسْن أو الظرف أو الملاحة ما لم يعد معه العضو التناسلي كافيا للارتواء منه، وأصبحت هنالك حاجة لأكثر من حاسّة للمشاركة في تناوله. هل هي محاولة لاستخدام الجسد من أجل إطفاء رغبة ليست من طبيعة جسديّة أصلا، كالتعلّق العاطفي أو الحب مثلا ؟ أظن أن التأمّل في عيني ضجيعتك التي تحبها يبرهن لك، أكثر من أي شيءٍ آخر، أنك ما تزال -رغم كل تجذيفك- على سواحلها، بعيدا عن الأعماق. لا أعرف إن كان ذلك مما يدل على أننا نسيء فهم أسباب افتتاننا بالأشخاص، حيث نسارع بتحويلهم إلى كتلٍ من اللّحم الطري، ونلجأ للجنس حتى نشبع منهم، لتخف سطوة الافتنان، ونتحرّر ! السؤال بعبارة أوقح : هل كس المرأة هو آخر ما في قنينتها، الذي إذا بلغه الرجل فقد شربَها ؟

الأربعاء، 9 ديسمبر 2015

ممشى (خاطرة في البرد)

     منذ مارست المشي كهوايةٍ أستمتعُ بها يوميّا، اكشفت أن أكثر ما أعانيه كان مجرد عادات سيئة. حصّة المشي الصباحي مما أثبت لي أن استحالة التحرّر منها كان وهما، كما اتّضح لي أن خمولي المزمن حالةٌ مزاجيّة في الأساس، شيء ينبع من الذهن ويفيض على الجسد ويثْقله، لا العكس. وحتى أطرده عن عقلي كان عليَّ أن أنهض ! عندما خرجت بالأمس قبل الشروق بنحو ساعة، كانت الشوارع خالية تماما، حتى من القطط ! وبعد أن قمت بالتسخين ووضعت سمّاعات الأذن وشرعت في المشي بخطى متسارعة، انتابني شعورٌ أنني من العظماء المعدودين على هذا الكوكب، وبدا لي البرْد شبحا لا يخيف سوى القابعين تحت بطاطينهم السميكة أو المتحلّقين حول نيرانهم. تشبّعت بهذه الطاقة التي أورثتني إياها الحركة، فقرّرت أن تكون الرياضة أولا، وقبل كل شيء. الحركة مولّد طاقة وأمل وثقة، للنفس وللجسد على حدٍّ سواء. 

الأربعاء، 25 نوفمبر 2015

مقتطفات (٢)


     إذن المرأة المسلمة شخصيّة غير منطقيّة (إذ كيف تقبل بهذه التناقضات) وغير سويّة نفسيّا (إذ كيف ترضى بهذه الإهانات)، مما ترتّب على ذلك أنه لا يحق لها المطالبة بأي حقوق إنسانيّة طالما رضيت لنفسها هذه الوضعيّة المهينة، وانجرّ هذا الرأي إلى تقبّل قمع المسلمين واضطهادهم في أوروبا والعالم، وهي عنصريّة حقيرة، لكن لماذا ؟ لأنه يوجد في موروث هذه الأمة ما لا يمكن القبول به اليوم. لكن هل يوجد موروث منسجم مع عالم اليوم، بما في ذلك موروث عصر النهضة والتنوير نفسه، الذي نفترض أنه أنتج عالم اليوم ؟ قطعا لا. مثلا، مونتسيكو وفوليتر وجون لوك كانوا يعتبرون الاسترقاق نتاجا قانونيا مشروعا للحرب. وآراؤهم في دونيّة المرة معروفة، بل لا تختلف مع ما نقرؤه عند الإمام مالك أو ابن تيميّة. قد يُقال وهل من الإنصاف محاكمة الحداثة بكل ما في موروثها ؟ طبعا لا يجوز كما لا يجوز محاكمة المسلمين بكل ما في موروثهم. ومن الشائع اليوم أن نرى مسلمين لا يقولون بقتل المرتد ولا بحرمة تولّي المرأة للمناصب العليا ولا بشرعية إعلان الجهاد على غير المسلمين لأنهم غير مسلمين .. إلخ. في تونس والمغرب وتركيا وماليزيا وغيرها، تزداد هذه الشريحة على حساب الأصوليّة التي تأخذ بحرفيّة النصوص والآثار (ومؤشرات اتجاهات الرأي العام تؤكد هذا الاستنتاج)، ذلك لأن الأديان ظواهر اجتماعيّة في النهاية، تتطوّر بتطوّر البشر، خصوصا جوانب التشريع فيها. ومن تضييع الوقت السعيُ لنقض ديانة من خلال تطبيقاتها التشريعيّة المتغيّرة بطبيعتها، وليست مفارقة أن أدلّة أكثر تلك التشريعات (كأحكام المواريث والشهادات والولاية وغيرها) ظنّية أساسا، ولهذا كانت محل خلاف فقهي، إذ لو توفّر الدليل القاطع ثبوتا ودلالة لحسم النزاع وانتهى الفقه، مما يثبت أنها كانت معالجات لواقع تاريخي معيّن. لهذا كنت أتساءل دائما : هل تلك الأحكام تقرر العدالة مطلقا أم العدالة تلك الأزمان ؟ وكان هذا ينقلني لتساؤل آخر : ما المطلق والنسبي في الشريعة ؟ لأجد نفسي تائها في تساؤل، أكثر تجريدا : كيف لنا أن نتصوّر عدالةً مطلقة أصلا والإنسان نفسه كائن نسبي ومتحوّل بيولوجيّا !

     على أيّة حال، من الواضح أنه بمرور الوقت تتضاءل المطلقات في الشرائع كلها، حيث يغدو الحجاب -مثلا، في الشريعة الإسلاميّة- نسبيّا والعفّة مطلقا. لكن ألم يكن الله يعلم بكل ما سيجري في التاريخ البشري من تطوّرات ؟ لا يبدو تساؤلا ساذجا جدا، لكن أظن أن كل جيل سيقرأ النص الإلهي في ضوء حاجاته. لكن هل المؤمن ينصاع لتشريعات ديانته لأنها فقط الأنسب له دنيويّا ؟ في الواقع لا، بل لأنها تصله بالحقيقة العليا للكون، وتمنحه معنى لوجوده. لهذا عندما ينقدح الشك في قلب مؤمن لا تعتريه فرحة التحرّر من القيود، بل يتزلزل كيانه ويشعر بالضياع المطلق وتعلوه كآبة. لعل هذا سبب تشبّت المؤمن بربّه، فهو على استعداد أن يتنازل عن كثير في سبيل حصوله على معنى يفسّر وجوده.

     نقطة أخيرة أحب تسجيلها، وهي أن مشكلة هذا الطروحات المتطرّفة أنها تنطلق من مبدأ أن تنوير الناس يبدأ من ضرورة تخليّهم عن أديانهم جملة، أي مطالبة المجتمعات المسلمة بما لم تصل إليه بعد المجتمعات الغربيّة.

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2015

ماذا بقي من الثورة السوريّة ؟ (الحق والحقيقة)


     الدولة السوريّة لم يبقَ منها سوى أطلالٍ يمكن حملها في حقيبة سفر، بيد رجلٍ متسلّل تحت جنح الليل على متن طائرة روسيّة، يقدّمه فلاديمير بوتن للعالم على أنه رئيس كامل الشرعيّة. أما الشعب، فشذر مذر، تتقاسمه الجبهات والمنافي، الأحقاد والحيرة .. توزيع المسؤولية إما على النظام أو المعارضة يبدو قولا مستهلكا، كما أنه مؤسسٌ -وهنا المغالطة- على استمراريّة بقائهما -النظام ومعارضته- كيانين متماسكين. المعارضة مشرذمة لأسبابٍ كثيرة منها : تضارب مصالح داعميها. والنظام تفسّخ، وهو اليوم كرجلٍ فقد إحدى عينيه وأذنيه ويديه ورجليه، يحاول متابعة السير على حبلٍ معلّق بين يأسين. وكان التدخّل العسكري الروسي خاتمةً كوميديّة لادّعاءاته، التي لم تتوقّف منذ اندلاع الثورة، بأنه ممسك بزمام المبادرة في حربه على "الإرهابيين"، وأنه ما انفك يتقدّم في معاركه ضدهم.

     لو استقبل السوريّون من أمرهم ما استدبروه، هل كانوا سيطلقونها ثورةً على بشّار ونظامه ؟ قطعا لا. وهذا لا يعني طبعا أنهم بصدد تقديم تنازلات، بعد كل ما حدث. ربما المشكلة في "التنازلات" الواجبة على كل طرف، حتى يتمكّنوا من الخروج جميعا من النفق الذي دخلوه واحدا تلو الآخر، والذي لا أعرف يقينا إذا ما هم قد بلغوا النقطة الأكثر ضيقا وقتامةً فيه أم لا، لكني آمل أن الأسوأ لم يحدث بعد، وأن الأمل في تلافيه ما زال قائما.

     عندما تصاعد العنف أخذت القضيّة مناحٍ عقائديّة، وصار النزاع يدور حول "الحقيقة"، بعد أن كانت ثورةً لنيل "الحق" (في العمل، التعليم، الصحة، الانتخاب، .. إلخ)، الأمر الذي جعل الحلول السياسيّة مجرد نزعات طوباويّة. بمعنى أن النزاع حول الحق الدنيوي تطوّر، لأسبابٍ غامضة، إلى اقتتالٍ حول الحقيقة غير الدنيويّة. هل كان تحوّلا مخطّطا له مسبقا، لأغراضٍ سياسيّة، تتعلّق بإدارة الصراع ؟ أميلُ لاعتقاد ذلك، والشواهد عليه متضافرة.

     أعتقد أن سوريا قليلة الموارد، إلا أنها أبدا لم تصل درجةً تدفع السوريّين -كأفراد- للصراع من أجل البقاء، بحيث يكون بقاء أحدهم مشروطا بعدم بقاء الآخر. لكن سوريا -كدولة- واحدة فقط، ومن المستحيل أن تسع السوريّين -كطوائف- تتصارع على السلطة والحكم. الحقيقة مصدرُها الطائفة الطامحة للهيمنة، والحق مصدره الإنسان السوري الطامح للحياة. وحتى يستعيد السوريّون بلدهم، يجب أن يقضوا على الطائفة كفكرة سياسيّة، قبل أن تبيدهم كمواطنين أفرادا. على الطائفة -المذهبيّة أو الملليّة- أن تظل تنظيما أهليّا خارج أبنية السلطة، يقوم بوظائف غير سياسيّة، وإلا فإنها ستجنّد بعضهم ضد بعض وتجتاح -بحقائقها- حقوقهم.

الأحد، 4 أكتوبر 2015

الصداقة والصديق (خاطرة)


     "من يعيش وحيدا لا يعرف حتى معنى أن يروي" .. سارتر

     حتى مدمني العُزلة والانفراد يحتاجون صديقا يساعدهم على الخروج منها كي لا يملّوها. على المستوى الشخصي، لاحظت أن حماستي للتواصل مع الأصدقاء كانت في كثيرٍ من الأحيان محاولةً لإثبات وجودي اجتماعيّا، وأنني كائن صالح للتداول في سوق العلاقات الإنسانيّة. بل ولاحظت أن الإنسانيّة مفهوم يصعب إدراكه من قبل الأشخاص المتقوقعين على ذواتهم. من العجيب أن قراءاتي حبّبتني في الإنسانيّة كفكرة، وكرّهتني في الآخرين كأشخاص، حيث خلتهم قيودا وموانع وإكراهات لا تُطاق !

     كنت مغترّا بتعريف أرسطو للصديق عندما قال: "إنه أنت، لكنه في الشخص غيرك". كان يرفع من قيمة التشابه بين الأصدقاء، على اعتبار أن المشتركات هي من يصنع العلائق والصداقات. وهذا صحيح إلى حدٍ بعيد، لكن لفت نظري أن الصداقات قد تنشأ بين المتناقضين، فتدفعهم إلى تحييد اختلافاتهم من أجل المحافظة على ما بينهم من ودٍ وصداقة. بمعنى أن شجرة الصداقة نبتت بين الصخر والماء. ولولا الأصدقاء، لفقدنا القدرة على الكلام، وتعفّنا داخل الصمت. (Tom hanks - tchak) في فيلم (cast away)، اضطرّته معاناة العزلة لاختلاق صديق من كرة، أطلق عليها اسما بشريّا (wilson) وحشاها قشّا، كي لا تفترسه الوحدة في جزيرته الضائعة وسط المحيط الهادي. كان محتاجا لتصديق كذبته، حتى لا يفقد قدرته على الاتصال بنفسه أولا، قبل أي شخصٍ آخر.

    بالأصدقاء نتمرّن على ممارسة التواصل الاجتماعي مع الأقارب والمعارف وزملاء العمل، الخ. لا يمكن أن نتقن لغةً ما لم نخالط أصحابها، فكذلك العلاقات الاجتماعيّة، الأصدقاء عادةً هم المدرّبون الأكفاء على اكتساب كل أنواع المهارات التي يتطلّبها الاندماج الاجتماعي. الأصدقاء محضن تربوي كالأسرة، ضروريّون كالأهل.

السبت، 3 أكتوبر 2015

خاطرة سريريّة


     الاستمتاع الجنسي عمليّة مكوّنة من عدّة عناصر، القضيب واحد منها. ورأيي أن تضاءل أهمّيته أثناءها ترجع إما لعِنّة (عطب عضوي) أو لحب (الجنس لا يكفي لإطفاء الشغف). ربما الجنس كمفهوم يقبل أكثر من تعريف، يتّسع ويضيق، بالنظر للمساحة التي يحتلها الإيلاج في العمليّة. طبعا هنالك حالة وسطى، يأخذ فيها الإيلاج وضعا مركزيّا وأهمّيةً قصوى، وهي الحالة التي يُعرّف بها الجنس عادةً، حيث يأخذ "التدخيل" نصيب الأسد من مدّة اللقاء، بل ويتحدّد اللقاء به، بدايةً وانتهاءً.

     الاهتمام بالمقاسات والأحجام تسيطر عادةً على المكتهلين، رجالا ونساءً، فبالنسبة إليهم تجرّد الجنس من هالاته العاطفيّة وغدا لذّةً حسيّة مستقلّة، يُطلب محضا لذاته. بمعنى أن الجانب الشخصي فيه لم يعد مهما، المهم هو العضو التناسلي، الممارسة نفسها. الجنس في هذه الحال مجرد وجبة، والشبق عبارة عن جوع. عمليّة بيولوجيّة منزوعة المشاعر. وبمجرد أن تستشعر الثلاثينيّة فتور قضيب الزنجي المستأجر تطلب منه مغادرة الغرفة، وكذلك الأربعيني ينهض من فوق بنت الثامنة عشر بعد القذف مباشرةً، فيخرج وهو ينظر في ساعته، دون التفاته للوراء. كثيرا ما يُساء تفسير .

     أوضاع الممارسة الجنسيّة التي يُتعمّد فيها عدم تقابل الوجوه، تُعتبر علامةً على تقدّم الحس في العمليّة على المشاعر. أظن أن ممارسات من هذا القبيل طرفاها إما زوجان عتيقان أو "شورت تايم"، بيد أن تطوّر تقنيات الممارسة الجنسيّة اليوم، زاد من كمّية المتعة وقلّل ولا شك من الفروق الفرديّة، مما يحتم ضرورة التثقيف الجنسي، لحياة جنسيّة أسعد. 

الاثنين، 14 سبتمبر 2015

her (فضفضة سينمائيّة)

     
     استوقفني كثيرا هذا الفيلم، هزّني كثيرا، أحببته كثيرا. وفور انسحاب الكاميرا وتراجعها الختامي المترافق مع ارتفاع صوت الموسيقى للبدء في استعراض أسماء فريق العمل، أخذتُ نَفَسَا عميقا، وعقدتُ العزم على تكرار مشاهدته. كان عملا رائعا حقّا. تشرّبت كل ثانية فيه، وفهمته كما أفهم أشيائي الخاصّة، ووعيته مثلما أعي أسراري قبل أن أحيطها بالكتمان المتوتر.

     يمكن اختصار قصّته، متوخيّا ألا أحرقه على ما لم يشاهده للآن، حيث يروي قصّة أديبٍ اسمه ثيودور، يعيش فراغا عاطفيّا كئيبا، ربما بسبب انفصاله الحديث عن زوجته التي أحبها بصدق. ولأنه ما يزال يتابع إجراءات الطلاق الذي لم يُنجز بعد، كان الضغط الوجداني عليه شديد الوطأة. زاد حالته سوءا أن طبيعة عمله لا تساعده على التعافي والنهوض من سرير ذكرياته المحمومة، حيث يعمل محرّرا للرسائل الأدبية، خصوصا الرومانسيّة، مما يجعله في قبضة ماضيه العاطفي بشكلٍ دائم. يملء محبرته دمعا، يغمس قلمه في عمق الجرح ويكتب، "رسائلُه منازلُه يعمّرُها بلا سببِ ".

     ولأنه فيلم خيال علمي، كانت شبكة الترابط التقني المتطوّرة تغطّي كامل المسطّح الزمكاني لحياة ثيودور، متغلغلةً في تفاصيله اليوميّة، حتى متعه الجنسيّة صار إشباعها إليكترونيّا. وكل تلك الأنظمة يُتحكّم بها مركزيّا عن طريقة برنامج تشغيل، يتواصل معه ثيودور صوتيّا، بكلمة يراجع إيميله ويرد، بأخرى يحجز في القطار ويؤكّد، وهكذا ينجز سائر أشغاله المعتادة.

     في نظري، لكل فيلم لحظة بداية حقيقية تتأخر بعض الشيء، فيكون ما قبلها مجرد توطئة فقط، بمثابة الشرارة التي تشعل السيناريو، فتدلهمُ الخطوب وتتواتر الأحداث. كانت لحظة البداية هنا عندما اقتنى ثيودور برنامج تشغيل جديد، أكثر تطوّرا وتعقيدا، يتميّز عمّا قبله بالقدرة على التطوّر والنمو ذاتيّا (ذكاء اصطناعي). يشبه من هذه الناحية الذكاء البشري، المكتَسب من خبراتهم وتجاربهم ومعارفهم المتراكمة، طبعا حاصل هذه الأمور هو ما نحن عليه كأفراد، كذوات مستقلّة، إذ الإنسان -كما يقول سارتر- دائما مشروع قيد التشكّل. لذا بدا برنامج التشغيل الجديد وكأنه إنسان تتكامل شخصيّته وتتبلور ذاته كل لحظة، لكنه يفتقد الجسد. حرص المخرج أن يضع هذه الحقيقة أمام المشاهد منذ الدقائق الأولى من لقاء ثيودور بنظام التشغيّل العجيب، وذلك كي يستوعب -أي المشاهد- حيثيات ورطة ثيودور مع "سامانثا"، وهو الاسم الذي اختاره برنامج التشغيل لنفسه، بعد أن اختار ثيودور تأنيثه.

     يُدهش ثيودور بإمكانيات سامانثا الفوق بشريّة، تخطف قلبه بأحاديثها الممتعة والطريفة وابتكاراتها الفذّة : أفكار، رسومات، معزوفات، ألعاب، اقتراحات .. شيئا فشيئا يجد نفسه قد أحبها ! لم يكن واقع ثيودور ثريّا بالعلاقات الإنسانيّة، كان جاهزا للاستلاب في الفضاء الافتراضي المرتقب. باختصار، كان نتيجةً تنتظر سببها لتقع ! ينجرف ثيودور مع عشيقته الافتراضيّة سامانثا التي تزداد أنثويّةً كلما أُولع بها أكثر، فتتمنّى -وهي تخترق شغاف قلبه- أنها تملك جسدا وتضمّه لصدرها، فيذوب ثيودور لسماع ذلك.

     يكتشف بعضُ المقرّبين منه الأمر فيرثون لحاله، الرجل واقع في غرام صوتٍ أنثوي يصدرُه نظام تشغيل. إنسان يفيض أخص مشاعره وأكثرها حميمية على آلة ! يغرق الرجل في لجّة سامانثا، تلوّح له قوارب النجاة، لكنه يغوص مغتبطا، ليصطدم بقعر الهاردسك الصلب، فتتكشّف حبيبته أنها لا شيء، ويدرك متأخرا أنه مفتونٌ بلا أحد، شيء لا حقيقة له، لكن استنفد منه أشياء حقيقيّة، حُشاشة قلبه ولباب روحه. وهنا تكمن مفارقة الفيلم. بدا لي وهو منكبٌ على سامانتا كمن يصنع مشنقته، يركّبها خشبةً فوق أخرى، يصعد درجاتها ويلف الحبل على عنقه، ثم يقفز معوّلا على الحظ وحده، علَّ سامانثا امرأةً حقّا، فتتلقّفه قبل أن يسقط ميّتا !

     معرفتي أن قام بدور سامانتا صوتيّا هي حسناء حقيقيّة، سكارليت جوهانسون، جعلتني أقفُ كمشاهد على أرضٍ صلبة، مطمئنا لسببٍ لا أعرفه، مشفقا على ثيودور وأنا أراه يمشي تحت الشمس على آخر بحيرة متجمّدة، تركها الشتاء قبل أن يغادر. هل كان الفيلم احتجاجا إنسانيّا على توغّل التكنولوجيا ؟ مجرد احتمال. أكثر فكرة ألحّت علي بعد الفيلم، هي : هل أعظم ما في الإنسان هو ذكاؤه أم مشاعره ؟! 

الأربعاء، 9 سبتمبر 2015

فكّني عليه ! (تأملات في المطاقّ)


     افتقاد الفرد لكثيرٍ من المهارات القتاليّة صار اليوم ظاهرة، وإذا ما نشب عراك بين اثنين تغلّبت عليهم أثناءَه العشوائيّة والانفعال والتشتت، بحيث تكون الضربات المجدية مجرد صدف نادرة وعمياء. لم يعد هنالك من فرقٍ كبير بين اشتباك الأطفال واشتباك الكبار، اللهم في استعمال الأسلحة الناريّة والآلات الحادّة. ما جعل العراك معادلا موضوعيّا للفوضويّة والارتباك والتخبّط، مفارقا -بالضرورة- كل ما يمت للفن والمهارة والعقلانيّة بصلة. ولعله من أسباب انقراض المقاتل البارع. بعبارةٍ أخرى : صار العراك حالةً من الخروج الكامل عن الفعل والممارسة المنتظمة.

     لنشوء الدولة الحديثة علاقة جليّة بالموضوع، بحكم تكفّلها بحفظ أمن الأفراد، وفرضها مسارات معيّنا لمعالجة كل ما ينجم عن سوء تفاهم طارىء، عبر الشرطة والقضاء والسجن. وذلك للحيلولة دون اندلاع أي اشتباك محتمل، وهذا طبعا بعد تجريم الاشتباك نفسه، لأنه تمرّد على سلطة من يُفترض أنها تحتكر العنف، أعني الدولة. كما للتطوّر التقني علاقة بالموضوع أيضا، حيث ابتُكرت أجهزة قلّلت من اعتماد الإنسان على عضلاته، كالمسدسات، والعصيِّ الكهربائيّة، وبخّاخات الفلفل، الخ. هنالك قاعدة تقول إن كل عضو أو مهارة لا تُستخدم، فإنها تصبح عرضةً للضمور والتلاشي. وهذا بطبيعة الحال ينطبق على القتال ومهاراته التي لا يمكن أن تُكتسب بشيءٍ سوى الممارسة على أرض الواقع. لكن ألا يعني كل هذا أن تخلّف الأفراد في إدارة العراك كان في الحقيقة نتيجةً لتقدّم المجتمعات، أنظمةً ومؤسسات !

     لم يعد امتلاك الفرد لمهارات القتال ميزةً ذات بال، فقد تراجعت اليوم أهمّية الفارس (البواردي، المبارز، الخ)، وما عادت ضمن متطلّبات الشرف والصعود للقمّة، حيث تحوّل مفهوم القوّة أصلا، مختزَلا في المال والثقافة والعلاقات، أي كل ما يُكسب نفوذا. هذه هي معايير التفوق حصرا، وبمقتضاها يحتل الفرد موقعه في التراتب الاجتماعي. إنسان اليوم أقل اعتمادا على قواه البدنيّة لإدارة صراعاته وحسم خلافاته، على العكس، صار اعتماده عليها دليلا على كونه ضعيفا، منحطَ المنزلة، نشازا عن القواعد المستجدّة للصراع الاجتماعي.

     ما دام للبشر، أفرادا ومجتمعات، مصالح من طبيعتها التعارض، فالصدام ليس مجرد توقّع. الصراع ثابت، لكن وسائلنا في خوضه وإدارته متغيّرة. إنسان اليوم يبدو مجبرا على ضبط انفعالاته وتكييفها لتتلاءم مع آليات الصراع في مجتمعات اليوم، النزّاعة أكثر فأكثر نحو المأسسة والتنظيم، أي ما يسمّيه فيبر "العقلنة"، عقلنة كل شيء، بما في ذلك العراك الشخصي. مما يعني أن العراك فعل غير عقلاني اليوم، وإن كان معقولا بالأمس. في ظل هذه التصورات والأفكار، كيف نفهم ظهور أندية تعليم فنون ومهارات الدفاع عن النفس ؟ هي معقولة في حدود كونها رياضة، تُقام لها بطولات عالميّة، يتطلّع بعض المنخرطين فيها لإحراز مجدٍ شخصي على منصات التتويج. عدا ذلك، فهي تبيع الأوهام، ولا يلتحق بها سوى مراهقين، سنّا أو عقلا.

الأحد، 30 أغسطس 2015

الموتى المهاجرون*


     يجتمع زعماء الاتحاد الأوروبي مرّة بعد مرّة لدعم البرامج والخطط والمنظّمات المعنيّة بحراسة حدودهم الشرقيّة والجنوبيّة، وتتسابق دوله للتبرّع بسفن وطائرات ومعدّات وخبراء، ربما خشيةً من أن يصيروا جميعا إيطاليا أخرى، تلك الصخرة التي وهت من تكسّر أمواج البائسين. ما يجري في حوض المتوسّط وعلى حدود أوروبا شرقا هي حرب حقيقيّة، شعواء ودمويّة، حاول السياسيّون الأروبيّون عبثا التستّر عليها، لكن تزايد أعداد الضحايا كشف متانة الاجراءات الهادفة لصد جحافل المغيرين، كما كشف تصدّع الشرق الأوسط. بعبارةٍ اخرى : أوروبا تحاول تدارك الآثار الناجمة عن ارتطام أسراب الطيور المهاجرة بسورها التي رفعته توّا، وعلى وجه السرعة، قبل أن تعشعش فوقه.

     سقوط القتلى من المهاجرين بالمئات سيغرق أوروبا في الشرق الأوسط ويورّطها في شؤونه الداخليّة أكثر فأكثر، حيث سيكون ضبطه سياسيا واجتماعيّا واقتصاديّا جزءا لا يتجزّأ من ضبط شؤونها -هي نفسها- سياسيّا واجتماعيّا واقتصاديّا. هذه هي الشروط الأوليّة لأي ضبط أمني يُرتجى، إذ القوّة في الدولة الحديثة مجرد عنصر مكمّل. ومن دون ذلك ستجد أوروبا نفسها في مواجهة حركة نزوح مهولة تستنزف ميزانيّاتها، سواءً قرّرت التصدّي لها أو استيعابها. على هذا النحو يتداخل العالم ويغدو الخارج داخلا، كما حدث في اليمن مثلا، عندما اكتشف الخليجيّون متأخرين أن أمنهم واستقرارهم مشروطٌ بأمنه واستقراره، فخاضوا الحرب الأخيرة دفاعا عن مصالحهم التي كانت لحسن الحظ تصب في مصلحته. تقاطع المصالح هذا أضفى على الحرب صفةً أخلاقيّة، على الأقل في نظر كثيرين (البقيّة يلوكون كلاما إيرانيّا سخيفا).

     من نافل القول إن الانهيارات التي أصابت النظام الرسمي العربي كانت وراء تصاعد معّدلات الهجرة صوب أوروبا، بحثا عن الأمن والخبز، وهي دوافع جد إنسانيّة. هل يتعيّن على أوروبا أن تعمّم نجاحاتها التاريخيّة حتى تنجو من تداعيات فشل الآخرين ؟ بمعنى : هل تقدّمها مرهونٌ بإصلاح أوضاعهم وفك اختناقاتهم ؟ أظنها نتيجةً حتميّة لصيرورة العالم قريّةً واحدة، حيث تغدو الحدود السياسيّة بين الدول حبرا على الخرائط. إن لم تتضافر جهود القوى المسيطرة على العالم لمساعدة هذه المنقطة المنكوبة، فإنها لن تتوقّف عن إنتاج الإرهابيّين والمهاجرين، وهؤلاء ما عادوا بعد اليوم مشكلةً إقليميّة.


______________
* العنوان مقتبس من اسم المسلسل الأمريكي الشهير "الموتى السائرون".


الخميس، 20 أغسطس 2015

حول "جئتكم بالذبح"

للناس في تناول هكذا مواضيع أساليب وطرائق، منها الإدانة وتسجيل النقاط، لكن أنا يستهويني التحليل .. لا شك أن الإسلام دين مسلّح، يخوض الحروب بشراسة، ولا يتردد في حصد رؤوس أعدائه ومصادرتهم حتى آخر شاه في القطيع. لكن لماذا يقوم بكل ذلك ؟ لأنه دين دولتي (نسبةً للدولة، وهو نفس مدلول العبارة المعروفة : الإسلام دين ودولة). الجزء العنيف والدموي من الإسلام هو الجزء المتعلّق بالدولة كشكل للاجتماع الإنساني. ومن المعروف أن السياسة كعلم وممارسة تقوم تحديدا على فصل هذا الجزء من الاجتماع الإنساني عن الأخلاق، على افتراضٍ -أُخذَ كمسلّمة- أن لهذه الظاهرة منطقا خاصّا، يوجب التعامل معها بطريقة مختلفة، وإلا سقطت الدولة واستُبيح مجتمعها. مع كل ما يُنسب إليه -عليه السلام- من خوارق ومعجزات، لم يستطع النبي، ولا غيره، أن يغيّروا من قوانين اللّعبة السياسيّة. لهذا تلطّخوا بالدم، سواءً كان ذلك عن رغبة أم كرها. ومن قراءتي للسيرة النبويّة أستطيع القول بثقة أن النبي لم يكن ميّالا للحروب، وأعتقد أنه من الزعماء الذين -لفرط أريحيّتهم- يُتوقّع منهم تقديم تنازلات ليس هنالك ما يضطرّهم إليها. مع كل ما يُروى عن حِلّمه وسماحته ورحمته -وهو حقيقي في رأيي-، لكن كان لديه عصابات لقطع الطرق التجاريّة، وفرق للاغتيال، وكتائب منظّمة، وفرسان متمرّسين، وخطط لمحاصرة القرى والبلدات قبل اجتياحها، كما -كأعدائه- لا يتورّع عن السبي والاسترقاق. للنبي محمد قلب عصفور، لكن حينما يسلَّ سيفه ترف فوق رأسه أجنحة الصقور. "جئتكم بالذبح" كان وعيدا موجّها لكيانات سياسيّة، يطلقه زعيم سياسي من موقع قوّة. الحرب عضو غير غريب في جسد السياسة، بل هي سياسة لكن بأدوات أخرى، كما يقول كلاوزيفتيز. العنف السياسي ما كان ابتداعا محمّديا. حسنا، أظننا عثرنا على أصل العنف في الإسلام، عرفنا سبب وجود السيف في صندوق الوحي المحمّدي، فهل يمكن تجريد الإسلام من سلاحه في الوقت الحاضر، باعتباره عقيدةً أولا وقبل كل شيء ؟ أتكلّم على المستوى النظري، أي النصوص والمعتقدات. الحقيقة أن هذا معترك كبير، وأظن أن التاريخانيّة أداة منهجيّة مفيدة لمن يرغب في التفكير في تلك المسألة التي يمكن اختزالها في سؤالٍ إشكالي، هو : إن كانت الدولة النبوية ضرورة لحماية الدعوة في عصر البربريّة، فما الحاجة إليها في عصر الميثاق العالمي لحقوق الإنسان (التي منها حقه في الاعتقاد) ؟ بمعنى هل يمكن قراءة العنف النبوي باعتبارها ضرورات تاريخيّة، لم تعد موجودة اليوم ؟ في ضوء ذلك، بعض المفكّرين العرب شرع يفرز مضامين الوحي تحت عنوانين اثنين : مقاصد خالدة، وسائل بائدة. والله أعلم.

الاثنين، 17 أغسطس 2015

وادي السباع (خاطرة حول التوقيف)

     
     لا أظن أنه توجد مؤسسة كالشرطة تجسّد سلطة الدولة على الأفراد بشكل مباشر، بعض من كتب في أنثروبولوجيا السياسة يقول إن ضبط الأمن هو المهمة الأولى التي تفرّعت عنها سائر المهام الحكوميّة، التي لم تكن سوى أشكال أخرى من الضبط والتقنين والمأسسة، تزداد سيطرتها رهافةً مع تقدّمت المجتمعات البشريّة، كتنظيم الاقتراع الشعبي، وفسح الكتب والمنشورات، وتشجير الشوارع، ومتابعة الفحوص الطبّية للعاهرات، وحظر صيد الحيوانات المهدّدة بالانقراض، إلخ. ولعل خشونة هذا الجهاز نابعةً من كونه ينهض بأكثر الأدوار السلطويّة بدائيّةً، حيث الزجر والضرب والتكبيل والحبس. وانتهت الحداثة إلى حصر حق ممارسة العنف في الحكومة، وهي السمة المميّزة لمجتمع ما بعد الدولة عمّا قبلها.

     لأن الحياة فقدت بساطتها، صار ضبط الأمن منوطا بحزمةٍ متشابكة من الشروط والمتطلّبات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، وطبعا السياسيّة. لذا امتد سلطان الدولة ليشمل كل مناحي الحياة تقريبا، عبر التنظيم والمأسسة والإشراف الذي قد يُفوّض أحيانا للشعب، بحسب الأعراف والقوانين. لكن الشرطة بقيت محتفظةً بوضعها الخشن المدبّب والمتوارث منذ القدم، لماذا ؟ ربما لأنها أكثر المؤسسات صراحةً في ممارسة القسْر والإكراه، الذي يأخذ معها شكلا محسوسا جدا، حيث يقع تحت طائلتها بدنيّا جميع من تمكّنوا من النفاذ من قبضة الأطر التنظيميّة الأخرى، ولم تجدِ معهم ضغوطاتها الناعمة. طبعا يندرج في هؤلاء الأصناف كلها، من الإرهابيّين وحتى سرّاق اسطوانات الغاز.

     في التوقيف يتساوى الحضور رغم تباين أسباب وجودهم، يتماثلون في الضَعَة، هناك حيث يفقد المرء جزءا كبيرا من اعتباره الشخصي بطريقةٍ غير متدرّجة (تشبه ما يجري لتجّار الأسهم، حينما ينهار السوق فجأة ويتحوّلون، في دقائق، من دائنين تُلتمس منهم المسامحة والتساهل لمدينين يُهدّدون بالسجن !) خطوة واحدة وحسب، أي مسافة مكانيّة بين الردهة وغرفة التوقيف، تفصل ما بين المواطن الصالح والطالح. بمقتضاها تُعاد جدولة مشاعر الجميع، موقوفين وعسكريين، حيث يتبادل الأوّلون التعاطف، فيما يتواطئ الآخرون على الازدراء. يحدث كل هذا بشكلٍ لا شعوري تقريبا. هل لاحظت كيف تتغيّر مشاعر رجال الشرطة عند دخولك كموقوف وعند دخولك كزائر ؟

     أسلوب الخطاب يختصر الكثير، حيث يستخدم الموقوف لهجةً خاضعة يغشاها التوسّل، لأنه لم يعد يتمتّع بندّيته الطبيعيّة والقانونيّة، فصار كعبدٍ يتجاذبه سادتُه. شعوره بالمهانة دفعه للتخلي عن كثيرٍ من مظاهر كبريائه المعتاد، وصار يتقبّل الأمر بالسكوت والوقوف ونحوه. ذلك الانحدار المفاجئ في مركزه، أخلَّ بموازين القوى، ليكتشف أنه أضعف من حَمَلٍ تائه في وادي ذئاب مسعورة، مصدوما ربما من سقوط القناع الإنساني عن وجه المجتمع الحيواني، حيث الاحترام مرتهن بموازين القوّة وحسب، أي شريعة غاب مغلّفة بغطاء مدني. ما يعني أن الشرطة مؤسّسة تتكفّل بحفظ أمننا ونسبنا البربري من الضياع في "الأزمنة الحديثة" !

الأربعاء، 5 أغسطس 2015

أفول اللؤلؤ (بين قيامتين)


     لقرونٍ مديدة، عاش سكّان الخليج على البحر، صيدا وتجارةً وتنقّلا. وفي العقود الأخيرة، قبل اكتشاف النفط، احتل اللؤلؤ صدارة منتوج البحر كله، فكثُر المنقّبون عنه في أعماق الخليج، وكثُرت السُفن المخصّصة لهذا الغرض، حتى لم يبقَ بيتٌ على سواحل الخليج آنذاك لم يدخله شيءٌ من حصاد الحبوب اللؤلؤيّة.

     يذهب بعض من أرّخوا لمنطقتنا إلى أن الحواضر الكبرى المطلّة على بحر الخليج نشأت، في الأساس، كمحل إقامة دائم لبحارّةٍ يحترفون الصيد والغوص، هذا قبل أن تتحوّل لمدن كوزموبولويتيّة عظيمة، في حقبة ما بعد النفط.

     كانت هذه الكرات الصغيرة اللامعة أساس الاقتصاد وعماده. يزدهر وتدور عجلته إذا توفّرت، وينكمش وتتعثّر العجلة إذا شح وجودها. تماما كالنفط يومنا هذا، المصدر الرئيسي للدخل القومي في الخليج، حيث نتساءل بكثيرٍ من الوجل عن مصيرنا فيما لو نضب النفط أو سقط سعره لسببٍ أو آخر ؟ لعلنا سنواجه المصير الذي واجهه أجدادُنا عندما ظهر اللؤلؤ الصناعي. مما أدّى -مع الحرب العالميّة الأولى والكساد الذي صاحبها- لانهيار تلك التجارة الخليجيّة في غضون أيام، فهام البحّارة على وجوههم في البريّة، تاركين مراكبهم تطفو كالجثث على ضفاف الخليج !

     كان ذلك في ثلاثينات القرن الماضي. هل سأسرد ما جرى بالتفصيّل ؟ لا. القصّة معروفة جدا، وقد تناولها المؤّرخون والمتخصّصون في الاجتماع الاقتصادي والسياسي بالتحليل والتفصيل الملّل. كانت العلاقات بين الأحداث وما ترتّبت عنها من نتائج، على كافّة الصُعد، من الوضوح الذي يغني أحيانا عن الاستنتاج المنطقي. سأشير إلى شيءٍ آخر، استوقفني وأنا أتأمّل ما جرى.

     لقد ذُهلت من دور التقنيّة الباهر في تبديل العوالم، بحيث كانت أنظمة الفكر والاعتقاد والسياسة والاجتماع والاقتصاد مجرد "أبنيّة فوقيّة" (إذا ما استعارنا اصطلاحات ماركسيّة)، أي نتائج وآثار، لذلك التغيير التقني البحت، الذي كان "البناء التحتي"، أي بمثابة المقدّمة والسبب. لم يكن اللؤلؤ مجرد حجرٍ رومانسي كريم يدر الأرباح وتعتاش عليه بطون، كان بمنزلة الروح الساري في أجساد دولٍ ومجتمعات وتقاليد ومقدّسات ومحرّمات وخيال ومغامرات وسرديات وعواطف وآمال، لم يبقَ منها اليوم إلا رفات فلوكلوري، يستثير دمعة وأشجان من لم يدركه الخرف من المعمّرين. كل ذلك العالم انتهى بابتكار رجلٍ ياباني فضولي، اسمه ميكيموتو. فكرة واحدة فقط أطاحت بكل شيء !

     كان ابتكار اللؤلؤ الصناعي مفصلا تاريخيّا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. لم يعد الخليج بعده كما كان قبله. مثلما كان ازدهار تجارة اللؤلؤ عاملا تغييريّا كبيرا، إلا أنه كان متدرّجا لا يكاد يحس به سوى المؤرّخ، فيما سقوطه لم يكن متدرّجا، ولذا احتفظت الذاكرة الشعبيّة بوقع الصدمة، التي خفّف منها اكتشافُ النفط، الذي انتشل المجتمعات الخليجيّة من الوقوع في براثن الفقر.

الاثنين، 3 أغسطس 2015

قصّة قصيرة وحقيقيّة جدا (الفقيد المجهول)


     أيام المتوسط كان طريق رجوعي من المدرسة يمر ببقالة صغيرة، يجلس فيها شيخ هرم، نائم طوال الوقت. أدخل وأفتح الثلاجة وآخذ علبة ببسي ثم أضع الريال على الطاولة وأخرج. أقوم بكل تلك الأعمال بشكلٍ طقسي مطبق الصمت. أشهر على هذا الحال، يتكرر الحدث ظهيرة كل يوم مدرسي تقريبا. ذات أربعاء مشمس دخلتُ البقالة، كالعادة، فوجدت ولدا يمنيا يكبرني قليلا، يجلس على كرسي الشيخ الهرم، استغربت، شعرت أن حلوله في مكان الشيخ شيءٌ لا ينبغي، وقاحة لا أعرف سببها. وبعد أن قمت بطقسي اليومي : الصمت، فتح الثلاجة، آخذ علبة ببسي، وضع الريال على الطاولة .. فتحت فمي وسألت الولد : وين الشيبة اللي كان هنا ؟ رد بسرعة صفعة مباغتة : مات !

     اجتاحتني موجة بكاء لم أتوقعها أبدا، خشيت من قوتها المفاجئة أن أتقيأ أمامه، فسقط الببسي من يدي على الطاولة وركضت للخارج تداركا لانهيارٍ بدا وشيكا وفاضحا. ولليوم وأنا حائر في سر صدمتي العنيفة وحزني العميق على غياب شخصٍ لم يجمعني به سوى صمت متبادل !

الأحد، 26 يوليو 2015

الكلمات والأشياء (قانون التحرّش)


     وسط ضوضاء المتقاذفين التهم حول قانون التحرّش انتابني شعورٌ بالضياع، وأنني ما عدتُ أدري ما القصّة، قد تداخلت الأمور في عقلي ولم أعد أفهم ! منهجيّا، وقبل الشروع في التحليل والانتقاد وإبداء الرأي، لا بد من وضع الحقائق على الطاولة أولا. فلنبدأْ على بركة الله : القانون محل النزاع واضح، يقوم على تعريف التحرّش وتحديد العقوبة المترتّبة عليه، والتي من المتوّقع أن تكون رادعة. هذه الحقيقة الأولى. الحقيقة الثانية أن التبرّج والتحرّش محرّمان في الشريعة تحريما قطعيّا، وكلاهما يعرّض مرتكبها للتعزير. الحقيقة الثالثة أن المحاكم السعوديّة قضت بالعقوبة المغلّظة، سجنا وجلدا، في قضايا تحرّش، ربما أشهرها قضية نفق النهضة. الحقيقة الرابعة أن الممانعين من سن القانون لا يعارضون عقوبة المتحرّش من حيث المبدأ. الحقيقة الخامسة أن هنالك إشكالا بيروقراطيّا في سن القانون، حيث يُقترح دمجه في قانون أشمل، هو (قانون الحماية من الإيذاء)، وعادةً يأخذ مثل الجدل والأخذ والرد، وقتا طويلا بين الأروقة الرسميّة، في حركةٍ أفقيّة دائريّة تفتقد البُعد الرأسي الحاسم، ما يقودنا للحقيقة الخامسة، وهي أن السلطة هي الحاضر الغائب في القضيّة، رغم فوران الرأي العام !

     في ضوء هذه الحقائق المتّفق عليها، دعونا نستطلع مواقف النخب ثم نعرّج على ما نستشفّه من رأي الشارع. كما هو الشأن في كل ما يخصُّ المرأة، تحوّلت القضيّة لساحة مواجهة شرسة بين التيارات، حيث نُظر لمؤيّدي القانون كتغريبيين (علمانيين، ليبراليين، .. إلخ)، وتبعا لمنطق صراع الأضداد، فقد تحدّدت هويّة الفكريّة للطرف الآخر : محافظون (إسلاميّون، تقليديّون، .. إلخ). أعتقد أنه يوجد طرف ثالث مغيّب، من السهل رؤيته إذا نقشع الغبار. لكن هل من المعقول أن تلك المعارك تدور في فراغ لفظي، لا معنى تحته ؟ أظن أن المعترك في نهاية المطاف، هو : حركة المرأة في الفضاءات العامّة. سن القانون سيفتح لها المجال واسعا، لما هو أكثر من الخروج للسوق، فيما ترك الأمور بلا ضبط قانوني صارم وواضح، سيتيح للمتحرّشين دفعها للتفكير مليّا، قبل أن تخرج من البيت، خصوصا مع توالي مقاطع توثّق حوادث تحرّش مفزعة بقدر ما هي مهينة. التحرّش الآن أضحى وسيلةً غير مشروعة، لتحقيق غاية مشروع يراها بعض مناهضي القانون أهم (هنالك تسميات برّاقة لهذا "الأهم" : عفّة المجتمع، فضيلته، أخلاقه، .. إلخ)، على قاعدة ارتكاب أدنى المفسدين درءا لأعلاهما، فلا بأس من مفسدة التحرّش المحدود درءا لمفسدة التحرّر والانعتاق العام. هذا التكييف الفقهي الغريب هو أساس تحرّك بعض المحافظين الذين أبدوا تعاطفا منحطّا مع المتحرّشين. لكن ليس جميع المعترضين على القانون يصدرون عن هذه الرؤية المؤصّلة فقهيا، وهذا ما يجب التأكيد عليه.

     بطبيعة الحال، لمناصري القانون مقاصد شتّى، بعيدة وقريبة، إصلاحيّة وثوريّة. ربما أكثرهم انفتاحا يرى أنها محاولة لترسيخ فكرة القانون في الذهنية العامّة بدلا من الشرع البالي، كما أنه سيعزّز من عمليّة تحرير المرأة عبر تمكينها من كسر احتكار الرجل لموارد القوّة والتحكّم، فيما أكثرهم محافظةً يرى في القانون يدا حديديّة لقمع المتطاولين على أعراض المسلمين. وفي كلٍ خير. القضيّة -في جانبٍ منها- صراع تصورات عن العالم والإنسان والحياة، حيث يقبع تحت سطحها القانوني فلسفةٌ أشمل، تنتظم مناحي الحياة. وفي جانبٍ آخر، لا تعدو أن تكون مسألة تنظيم جزئي فقط، في حدود المتعارف عليه، وهو ما عليه أكثر الناس الذي لا يعرفون الكثير عمّا يجول في عقول النخب. توالي حوادث التحرّش الموثّقة بالصوت والصورة قد ترهب المرأة، لكنها ستدفع المجتمع لتأييد القانون، وسيلوذ المعترضون بالصمت. وستمضي الأيام ويدرك الناس أن القانون لم يغيّر كثيرا، وأن أرداف النساء ما زالت معرّضة للمس، إلا أن المرأة ستحرز من وراء وهم الحمايّة ذاك مكاسب كبيرة.

الخميس، 23 يوليو 2015

الإرهابي الطيّب



     كان ذلك عنوانا لرواية دوريس لسينج، المنشورة عام 1984، حيث تُشير ببساطة ساخرة إلى كمّية براءة غير متوقعّة تقبع داخل الوحش الإرهابي. من جهتي، أظن أن مشكلة الإرهابي لا تتمثّل في كونه مصابا بنزوعٍ إجرامي متأصّل في نفسه، يغريه حتى بشرب الدم، بقدر ما تتمثّل في تماهيه المتطّرف مع مبادئه المثاليّة، واستعداده الانتحاري لاستنزالها على أرض الواقع مهما كلّف الأمر، واعتقاده أنها مهدّدة وجوديّا وبالمطلق من قبل "أشرار"، هم من سيكونون ضحاياه. لقد أثبتت الدراسات الإحصائيّة أن أكثريّة الإرهابيين ليس لهم تاريخ عنيف أو دموي قبل الانخراط في الإرهاب. كانوا أناسا عاديين جدا، مثلنا، ربما ينكمش وجه أحدهم ألما إذا داس، وهو يقود سيارته، قطّةً بالخطأ !

     الإرهابيّون ليسوا أشرارا بالضرورة، على العكس، كثيرا ما نُصدم بطيبتهم الساذجة، التي حوّلتهم -من غير أن يقصدوا ذلك- لمجرمين عتاة. سنكتشف هذه الحقيقة البسيطة لو تابعنا المقابلات التي تُجرى معهم بعد القبض عليهم، أو شاهدنا وصاياهم المسجلّة قبل أن يُقدموا على عملياتهم "الاستشهاديّة". من المحتمل أن يكون الإرهاب عبارةً عن رد فعل مفرط العنف على عنفٍ ربما لا يقل عنه ضراوةً وشمولا، وقد يكون الإرهابيّون ثوّارا في وجه طاغية، لم يلبثوا أن نافسوه في البطش والتنكيل، فغرقوا معه في مستنقع الأشلاء والدماء.

     لكن كيف نفسّر إقدام الإرهابيّين على جرائم شنيعة بحق مدنيين من الواضح أنهم فعلا أبرياء ؟ استوقف هذا السؤال تقريبا جميع من درسوا ظاهرة الإرهاب. إلا أن ذلك الوضوح التي يتبدّى لنا حول براءة الضحايا هو -أولا- غير موجود بتاتا في تصورات الإرهابيين، وبالتالي، فالضحايا كلهم مذنبون، ويستحقّون عن جدارةٍ ما جرى لهم. ثانيا، إن الظروف التي شرّعت للإرهابيين اقتراف الموبقات وخدّرت ضمائرهم، تشابه لحدٍّ بعيد الظروف التي تجعل جنود الجيوش النظاميّة، إذا نشبت الحروب، يفعلون كل ما يُعتبر في الأوضاع الطبيعيّة : جرائم. أعني تلك الفظائع والأهوال التي تُبرّر سياسيّا في دوائر الحكم بالمصلحة العليا للدولة وأمنها القومي، الخ، فيما تُروّج بين البسطاء دوافع أخرى تتناسب وتفكيرهم المبدئي عادةً، لتسهّل تعبئتهم وتجنيدهم.

     هل يعني ذلك في نهاية المطاف أن الإرهابي ليس إلا سياسيّا فاشلا، وأن السياسي ليس أكثر من إرهابي ناجح ؟! التفكير في هذه الإشكاليّة قاد بعض الباحثين إلى القول بأن الإرهاب مصطلح غير مفيد في التحليل. أي أنه مجرد تهمة يلصقها الأقوى بالأضعف ! على أيّة حال، للدول كما للمنظمات الإرهابيّة أجهزة دعاية تنمّط الأعداء وتعمّم عليهم صورةً تنزع عنهم كل ما يمت للإنسانيّة بصلة، فيتجّلون شرّا محضا، يجب القضاء عليه بكل الوسائل الممكنة. وإذا ضاقت الفجوة ما بين السياسي والإرهابي، فأعتقد أنه البحث يجب أن ينصبَّ في السياسات أكثر مما العقائد. هذا والله أعلم.

الخميس، 25 يونيو 2015

أرق


     بدأت تتسرّب لي عادة سيئة، أعرف أنها سيئة، هي الانتظار المضني للنوم، أي ما يُسمّى "الأرق". أظل لساعات ممدّدا على السرير على أمل أن يخجل النوم من تأخره المزمن عن الموعد. أغضب وأنا أرى وقتا فائضا يتبدّد من غير أن أنام فيه، ساعة أو اثنتين على الأقل. فأن يُكسب الماء البارد على الأرض أمام شخصٍ يحترق عطشا، لهو ضربٌ من التعذيب.

     ومع أن ذهني مُشْرع لكل فكرة، وحدها هموم الموت تساورني وتجثم علي، أتخيّل العدم والقبور والذهاب بلا رجعة، هل تسمعني ؟ أشعر بألمٍ الغياب، فأشتاقَني حقّا. أرفع يدي لأراها على الضوء الخافت المنبعث من النافذة، أقبّلها قبلة امتنانٍ مودّعة، ثم أضعها كما يُوضع المصحف، باحترام بالغ. أمسح وجهي متلمّسا جبيني وحاجبيَّ، ثم وبحنانٍ مقدّس أسحب كفّي على سائر الوجه مثلما نفعل بعد دعاءٍ ملحٍّ. أفعلها وكأنني أمسح وجه ميّت قبل أن أغطّيه بالكفن، للأبد.
                                 
    تبرد أطرافي، وتتجمّد عنقي، ويثقل رأسي فوق الوسادة، ثم تعلو وجهي كآبةٌ لا يراها أحد، ولا حتى أنا. أشعر بها فقط في صدري. كيف لها أن تُرى في غرفة مطفأة الأنوار، ليس فيها مرآة، مقفلةٌ على رجل يُعتقد أنه نائم ! ومع كل ساعة تمرُّ يقترب مني الموت أكثر، أحِس بحرارة أنفاسه على جسدي، مثل شعلةٍ متوهّجة توشك على التهام هشيمٍ، كان أنا.

     في انتظار النوم، فوجئتُ بالموت يداهمني، يبدو النوم مجرد تدريب وجودي على الفناء، ذلك الفيضان الماحق الذي نتواطأ على التكتّم عليه، رغم علمنا جميعا بأنه سيكتسحنا لا محالة.

     أين سأكون أنا ومن أحببتهم يوما؛ أمي وأبي وإخوتي وأخواتي وأصدقائي ومعارفي ! أمعقول أن كل تلك الكائنات اللّطيفة ستغدو ترابا أخرسا بعد سنين أقل من خرزات المسبحة. في أكثر تقدير، إن لم نقل أنه منهم على مسافة أشهرٍ أو أيام أو ساعات، تتلاحق كالدقائق والثواني.

     إن كان الإنسان قد أُعطي روحا لا تنفد في جسدٍ يتآكل، فأي عظمةٍ تنقصنا كبشر، ونحن نتعايش مع مصيرٍ كالموت ! وأي معجزةٍ حقّقناها أكبر من أن نحلم ونأمل ونخطّط لمستقبلٍ يقف الموت في آخره ! وأي غرائبيةٍ أعجب ممن يعمل كأنه سيعيش أبدا فيما هو سيموت غدا !


     ثم تطلع الشمس وأخرج من غرفتي أتثاءب، فأغسل وجهي وأنسى ..

الأحد، 21 يونيو 2015

أحن إلى كريم كرمل أمي

     
     من سنين لم أعد أحصيها اختفى الكريم كرمل من مائدتنا الرمضانيّة. من يذكر قوالبه المعدنيّة والسكّر المذاب في قعرها ؟

     لا زلت أحتفظ بذكرى دافئة مع هذه الحلوى الموسميّة. لا زالت طبقة السكر المذاب في أعلاها تسحرني حتى اليوم. آخر مرّة صادفتها أخذتُ كعادتي أكشط تلك الطبقة وآكلها وأمصُّ الملعقة، هذا قبل الشروع في التهام الكريما. في بدايات بلوغي، صرتُ أربط بين الكريم كرمل ونهىد العذارى. كان قوامهما متشابهين، ما أضفى عليها -أي الكريم كرمل- حلاوةً أكثر، بحيث أتناولها بشهوة ! لمّا كبرتُ عرفت أن النهد أقل نداوةً، لكنه أشهى. مثل الكريم كرمل، لدى النهد سكّره المذاب الذي يتجمّع حَلَمةً في ذروته. تختلف الأثداء باختلاف صاحباتها، ويبقى للكريم كرمل طعمٌ واحد، لا يختلف.

     محافظٌ أنا حيال الأطباق الثوريّة الجديدة، لا أمدُّ يدي إليها إلا متوجّسا يخاف لدغة ! أميل إلى أن الأجود والأطعم قد اكتُشف منذ دهور، وأن الجديد مجرد خلطات تلفيقيّة، بالتالي، باب الاجتهاد عمليّا مقفل. هل نريد دليلا أبلغ من بقاء الشواء، وهو طبق بدائي، متصدّرا منيو أفخر المطاعم العالميّة ! الأطباق الشهيرة في العالم عبارة عن أكلات قديمة قِدم نار الطهو. هل لأنها ارتبطت بالذاكرة البشريّة وغدا الزمن جزءا من مكوّناتها ؟ ربما.

     في رمضان، لا تزال السنبوسة تتوسّط المائدة بثقة الجدّة بين أفراد أسرتها، حتى إني أعتقد أن صنعها في غير رمضان عقوق بحقّها ! ومثلها الشوربة باللّحم والشعيريّة بالحليب .واللّقيمات الطافحة بالشيرة و"الشربيت"، إلخ. من يتناولها خارج رمضان كأنما يتحرّش بالإله خارج المعبد. هكذا تعوّدت وطُبعت نفسيّتي. وهي مشاعر في الحقيقة، لا وجهات نظر.

     تجمعني بهذه الأطباق عشرة عمر، وداد وألفة شعرتُ بها منذ اليوم الأول على مائدة الإفطار، لقد انبعثت من أبخرة الطعام ذكريات وسمعت فيها قهقهات وأدعية وحكي، وتفاصيل أخرى شجيّة. كم عبرت مائدتنا أطباق وألوان، لكن نُسيت بسرعة، وبقي الأصيل على كرِّ الرمضانات ثابتا لا يتزحّزح، إلا الكريم كرمل، غاب مثل فقيد لا يُنسى. غاب وترك مكانه فارغا تحاول المعجّنات السخيفة عبثا ملأه.


الثلاثاء، 2 يونيو 2015

في بيتنا شاحن !


     عندما يتوقّف الرسيفر أو المايكرويف أو الخلّاط عن العمل بعد يومٍ أو يومين من شرائه، عادةً لا يتقبّل الناس الأمر بوصفه قدرا لا يملكون سوى الصبر عليه، حيث ينطلقون بغضبٍ مكظوم إلى البائع مطالبين إما باستبداله أو إصلاحه على الأقل. وإن لمسوا منه التواءً أو تلكّأ، رفعوا الأمر للجهات المختصّة، بعد أن يوسعوه شتما في محله. لكنهم أبدا لا يسكتون.

     ردود الفعل هذه متوقعة ومنطقيّة جدا، وهي تنم عن وعي جيد بحقوقهم كمشترين، أي من الناحية القانونيّة. لكن تصيبني الحيرة وبعض الحنق من سلبيّتهم حيال مواقف أخرى مماثلة، بل هي أولى بالغضب والانفعال والتصعيد، مثلا عندما ينفجر الشاحن في وجه أحدهم، أو عندما تنتبه العائلة بمحض الصدفة أن توصيلة الكهرباء على وشك الذوبان من شدّة الحرارة. وفي مثل هذه الأوضاع، النجاةُ من الموت احتراقا أو اختناقا مجرد ضربة حظ، فكم طالعتنا الصحف بأخبار مأساويّة عن عددٍ من المتفحّمين من أسرةٍ واحدة، إن لم تكن الأسرة كلها. والسبب جهاز بلغ من الرداءة أن صار قنبلةً موقوتة !

     شاهدتُ مقطعا لرب أسرة يتجوّل بكاميرته وسط بيته المحترق، ربما ليوثّق فرحته التي لا تُوصف بنجاة أطفاله من موتٍ محقّق، بسبب "شاحن صيني"، اكتفى بتحذير الناس منه. ويبدو أن الأمر انتهى عند هذا الحد. كأنه -في غمرة امتنانه العظيم لله تعالى- نسي أن هنالك جناةً يجب أن يخضعوا للمحاسبة، بدايةً من الباعة مرورا بالمورّدين وانتهاءً بالوزارة. هذا الثلاثي هو المسؤول عن الكم الهائل من الألغام والقنابل الموقوتة التي زُرعت في بيوتنا جميعا، على شكل شواحن وتوصيلات وغيرها. ذلك أن كل ما ينجم عنها من كوارث سببُه رداءة الصناعة لا سوء الاستخدام.

     أكثر ما يسترعي انتباه الناس هو قيمة الجهاز المعطوب، حيث لا يتحمّلون خسارته بلا عوض، فيما هم يتحمّلون -ويا للمفارقة !- الكوارث الناجمة عن الأجهزة زهيدة القيمة كالشاحن والتوصيلة، والتي قد تطال الأرواح !

     أليست مفارقةً فعلا أن نرجع للبائع غاضبين لاكتشافنا أن الدفّاية أو المكنسة الكهربائيّة مقلّدة، إدراكا منا لمسؤوليته عن ذلك الخطأ، بينما لم يخطر ببال أحدنا الرجوع إليه بسبب التوصيلة التي كانت سببا في احتراق بيته، كما لو أن البائع ليس ضالعا فيما حدث، أو كما لو أن الخسارة إذا تضاعفت سقطت عن المتسبّب الحقيقي فيها !!  والذي يهمنا كمجتمع هو المحاسبة وليس التعويض، حيث الخطر محدق بما لا يمكن تعويضه : الأرواح.

الخميس، 14 مايو 2015

المعنى واللّحن في وهج الصورة (خاطرة في الكليبات)



     يبدو لي أن الفيديو كليب غيّر من طبيعة الأغنيّة، دخل في صميمها وأجرى عليها تفكيكا بدّدها بين مجالي السمع والبصر. وفاضت الصورة على الكلمة واللّحن، بفضل تقنيات الحاسوب وبرامجه المتطوّرة، وأساليب العرض القائمة على تكثيف الصور وتسارع اللّقطات. فغدت الأغنيّة -في مجملها- حدثا مرئيّا، حتى اختلط الأمر على المشاهد في غمرة الزحام على عينه وأذنه، لا يدري أيّهما يتبع الآخر، مَنْ يخدم مَنْ : الأغنيّة أم الصورة !

     ربما لأن الفيديو كليب عبارة عن دعاية تسويقيّة للأغنيّة، تشابهت أساليب وأجواء الكليبات والدعايات، حيث تُصوّر الأشياء بأجمل مما هي عليه في حقيقتها. لكن هل كانت الأغنية بحاجة لغير مكوّناتها الأساسيّة (الكلمة واللّحن) حتى تروج وتنتشر ؟ جودة المنتج غالبا ما تكفيه عناء الدعاية وتكاليفها. بأي حال، هو سؤالٌ ينطلق من فكرة التمييز الحدّي بين الفنون، وعلاقاتها فيما بينها إذا اجتمعت، وأيُّها وسيلةٌ للآخر. والحق أنه يمكننا تجاوزه بالقول إن الفيديو كليب فنٌ جديد، مستقل، يستخدم الأغنيّة والصورة معا، وتُعتبر مكوّناته مثلما كانت الكلمة واللّحن مكونات الأغنيّة. الفيديو كليب أكثر من أغنيّة. الأغنيّة -كلماتٍ وألحانا- مجرد خلفيّة صوتيّة فيه، كالخرير بالنسبة لنهر صوره المتدفّق بغزارة.

     كنت كلما أعجبتني أغنيّة في اليوتيوب أحوّلها لصيغة إم بي ثري، حتى أحفظها في الفلاش وأسمعها في السيارة. لمستُ تغيّرا في بعض الأغاني، ولم تكن مصادفةً أنها كانت -في غالبيّتها- كليبات، بهتتْ بعد اختفاء الجانب الصوري منها، ما يعني أن الإبداع لم يكن في الأغنيّة، إنما في الإخراج ! واكتشفت أنني كنت مشدودا للأغنيّة بسبب حركة الصورة وألقها، وعندما أغمضت عيني عنها في السيارة ظهرت وكأنها رقْصة من غير موسيقى، سامجة، أحيانا حدَّ البله !

الخميس، 7 مايو 2015

أسامينا


     نخرج للدنيا بأسماء لم نُستشر فيها. كالجلْد تلتصق بنا. كوجوهنا وقاماتنا، تغدو جزءا أصيلا من هويّتنا. معطى يصعب الانفكاك منه. الاسم وليد ثقافة الأهل، مثلما الجلد والوجه والقامة محصّلة تاريخ سلالي. وهذا لا يعني استبعاد الجغرافيا، فدروها أساسي في صبغ الجلد، ونحت القامة والوجه، وطبع الثقافة.

     لا شك الاسم علامة، تكشف الميول وتظهِر سطوة الإيديولوجيا، حيث يبدو المولود في كثيرٍ من الأحيان وكأنه لافتةٌ يرغب أهله أن يسجّلوا عليها باسمه موقفا مبدئيّا ما، من وحي عقيدتهم أو ثقافتهم ! الظاهرة أوضح من أن تحتاج لأمثله، كما من الواضح أيضا أن الميول والإيديولوجيات تتغيّر بينما تبقى الأسماء، أحيانا منبتّة الصلة مع واقع أصحابها، بل ربما ناقضته بشكلٍ يثير السخرية، وليس من النادر أن تصادف في مصر شيخا كثّ اللّحية يُنادى "أبا عبدالناصر"، وفي سوريا قد تعثر على متجر خاص، يجلس ابن مالكه البكْر "لينين" على كرسي المحاسب، ناهيك بملاحدة يحملون اسم "عبدالله" !

     الاسم ليس عَلَما على شخص بقدر ما يكون رمزا يشير لمنظومة كاملة من المفاهيم والقيم والأخلاقيات والأعراف، بحيث تصير تسمية المولود إعلانا عن الانتماء لها والرغبة في استدامتها.

     التسمية فعل ثقافي بامتياز، تسفر به الثقافة عن وجهها. فالثقافة المحافظة تولي موضوع الأسماء عنايةً لافتة، وتمنح الوالدين سلطات تربويّة واسعة على الأبناء والبنات، بحيث تكون التسميّة من مفردات العمليّة التربويّة التي تتمثّل أساسا في استنساخ الجيل القديم، وتمارس -عبر تعالميها فيما يخصُّ الاسم- الانتقاء، أي القبول المشروط. والهدف حماية ذاتها بمقاومة الانفصال عن الموروث ونماذجه، عبر محاولة بعثها وإحيائها، ولو رمزيّا. وأظن أنها طبيعة الثقافات جميعا. لتكريس وجودها تستخدم كل شيء : الحكم / السيف، التربيّة / العصا، المعرفة / القلم، الرموز / الأسماء .. إلخ.

     وكما لو أن الاسم ينفصل عن المسمّى، عن الإنسان المشار إليه، وينخفض لمستوى الوسيلة، يصير ككل الأشياء المستخدمة في الحياة، الضروري منها والكمالي، فيتحوّل لشيءٍ قابل للتداول والإهداء، كالعباءة والخاتم، مما يُقدّم شكرا على خدمة أو تقديرا لموقف !


السبت، 25 أبريل 2015

الحوثيّون إلى المجهول


     كما لو أنهم يتأهبون لعملٍ انتحاري يائس، خرج القيادي الحوثي، محمد البخيتي، الليلة الماضيّة على قناة الميادين معلّقا على البيان الذي أصدره الرئيس المخلوع علي صالح، وقال إنهم غير معنييّن به ! كما أعرب عن رفضه القاطع لقرار مجلس الأمن الذي دعاهم علي صالح إلى تنفيذ بنوده، حيث ينص على وجوب سحب الحوثيين " قوّاتهم من المؤسسات الحكومة، بما في ذلك المؤسسات الموجودة في العاصمة صنعاء، وتطبيع الحالة الأمنية في العاصمة والمحافظات الأخرى، والتخلي عن المؤسسات الحكومية والأمنية، والإفراج بأمان عن جميع الأشخاص الموضوعين رهن الإقامة الجبرية أو المحتجزين تعسفيا "، كما يدعو القرار " كلّ الأطراف اليمنيّة، ولا سيما الحوثيون، إلى الالتزام بمبادرة مجلس التعاون الخليجي وآلية تنفيذها، وبنتائج مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة "، وكان رأي البخيتي أنه قرار غير واقعي، وأشار إلى أن تركهم السلاح يجب أن يكون نتيجةً للحوار والمفاوضات، فيما القرار الدولي ينصُّ حرفيّا على خلاف ذلك.

     صالح تخلّى عن الحوثيّين، حتما هنالك أسباب كثيرة دفعته للانسحاب بلا صمت، كالانشقاقات في صفوف حزبه التي لاحتْ في الأفق، إضافةً لمعرفته كعسكري مخضرم أن الحرب -وإن طال أمدها- خاسرةٌ لا محالة، فليرفعْ الراية البيضاء قبل أن تصير كفنه. لكن الحوثيّين قرّروا المضي قدما في مشروعهم المسلّح للاستحواذ على اليمن، مع علمهم المسبق أن قرار مجلس الأمن جاء تحت البند السابع، ما يخوّل المجلس استعمال القوّة لفرضه، الأمر الذي يجعل من إصرارهم على النحو انتحارا محقّقا، إذ سدُّوا الطريق حتى على من يريد أن يمدَّ لهم يدَّ العون.

     كنتُ أرى أن ذلك القرار الدولي هو أقوى ضربة وُجّهت للحوثيّين وأنصارهم، وأظنه حسم المعركة مبكّرا، حيث ساهم -كما رأينا- في تفكيك الحلف بين صالح والحوثيّين، لينفد بجلده ويتركهم يواجهون العالم (لا السعوديّة وحلفائها فحسب) وليس معهم سوى حجّةٍ داحضة وعناد قروي. القرار الذي ضاعف من شرعيّة الحملة العسكريّة منع الحوثيّين منعا باتّا من ترجمت انتصاراتهم العسكريّة سياسيّا، حتى لو اجتاحوا عدن وغيرها. كم ضربةً يحتاجها الحوثيّون ليعلموا ألّا فائدة تُرجى من الموت بالقذائف السعوديّة، اللهم إن كان زيود اليمن يرغبون، وبروحٍ استشهاديّة، في دفع ثمن بقاء بشّار في الشام، وهيهات !


الخميس، 23 أبريل 2015

شيعيّان في وطن سنّي



     في الخليج أقلّيات شيعيّة، جعفريّة واسماعيليّة وغيرها. تعلن عن هوى إيراني سافر، وتتعاطف مع حراك طهران في المنطقة، وتستبشر بتوسّع نفوذها، وتعلّق عليه آمالا قد أفهمها من شيعي متديّن، يرى أن حقه مهضوم في ممارسة طقوس عاشوراء وغيرها، كما يرى أن قناعاته الدينيّة غير ممثلّة في السلطة بالشكل الذي يرضيه، ولعله يغبط إخوته الشيعة في العراق ولبنان، عندما يراهم يرفعون بكثيرٍ من الفخر صورا كبيرة لرموزهم ومراجعهم في الشوارع والطرقات، ويزيّنون حوائط ملتقياتهم العامّة بأقمشةٍ من قطيف نُقشت عليها أدعيّةٌ وأسماء مقدّسة، وفي حسينيّاتهم يمدّون الصوت عاليا باللعن والبراءة، بلا اعتراضٍ من أحد. البصرة وكربلاء تبدو -بالنسبة له- أبعد من حلم، حيث النقاء المذهبي التام.

     دلّت التجربة أن المتدّينين الطائفيّين، شيعةً وسنّة، لا يجدون حرجا في تمزيق مجتمعاتهم وتدمير بلدانهم، إن كان من شأن ذلك أن يوسّع من هامش حرّية يستوعب بعضا من ممارستهم الدينيّة، التي فرض عليهم منطق التعايش الديني والمذهبي أن لا يمارسوها. ولأنهم يعتقدون أنها أعمال صالحة تجلب رضوان الله، فإنه من المشروع دينيّا تقويض مجتمعاتهم وتفكيك دولهم، وذلك لأن تحقيق مرضاة الله مقدّمٌ على كل شيءٍ، ولو كان استقرار الدولة والمجتمع. بعبارةٍ أخرى : لأن المجتمع المتعدّد يفرض قيودا على بعض الممارسات الدينيّة، فإن كسر هذا القيد فريضةٌ دينيّة، يجب القيام بها !

     لكن هنالك شيعي آخر، يختلف عن الأول، لا يطالب بالمزيد من الحرّية الدينيّة، على العكس، ربما يشجّع حظر بعض الفعاليّات الدينيّة، لكونها تعكّر السلم الاجتماعيّة وتزرع الفتن بين الناس، اعتقاد منه أن عمران الآخرة لا يتطلّب تخريب الدنيا. وينشط في المطالبة بحقوقٍ من نوع آخر، ذات طابع مدني، لا تختلف بتاتا عمّا يطالب به مواطنوه في تلك البلدان : مساواة في الفرص والوظائف، تفعيل آليات الشفافيّة والمحاسبة، رفع الحظر عن تداول المعلومات وإطلاق حرّية الإعلام، إشراك الشعب في عمليّة اتخاذ القرار والرقابة على تنفيذه. بشكل عام، هو يريد دولة قانون ومؤسسات. وهي مطالبة لا يقدّمها بوصفه شيعيّا، بل بوصفه مواطنا.

     بحكم وعيه المتنامي، فهو يرصد -عن قرب- درجة التطوّر والانفتاح التي يمرُّ بها بلده ومجتمعه، ويتفاءل بالتغيّر الملحوظ، ويعوّل على الزمن. لقد خرج من غيتو الطائفة، وتخلّص من مشاعر الأقلّية الناقمة دوما على من تعتبرهم الأكثريّة، ببينما هم في الواقع خليطٌ غير تام الانسجام. استطاع أن يكتشف الأوهام المؤسِسة للأكثريّة في عقول الأقلّية، ووجدها من نفس نوع الأوهام المؤسِسة للأقلّية في عقول الأكثريّة، فعرف أن تحقيق الوطن كفكرة، يقوم -فيما يقوم- على تفنيد هذه الأوهام وتعريتها وإسقاطها.

     هذا الشيعي المستنير يدرك تماما أن إيران لم تقدّم للشيعة إلا المزيد من الحسين والبنادق، وأنها تعد بشييد حسينيّاتهم، لكن فوق ركام بلدانهم. ومشكلته أنه قد يُصاب بالخرس إذا احتمدت الأوضاع وتعالت طبول الحرب، بل وأحيانا تختلط عليه الأمور، فيهفوا قلبه لطهران وإن بقيَ عقله في عاصمة بلده ! ورأيي أن لا نبالغ في انتقادهم والتشهير بهم، فما هي إلا لوثة عاطفيّة تنتاب كل أحد، سُرعان ما يفيق منها ويعود لرشده. عرض عاطفي، لا طائفي. للنشأة الأولى ومألوفاتها أثرٌ في النفس لا يُمحى، من الطبيعي أن يطفو في لحظاتٍ ما، لكنه يعود إلى القاع، تاركا العقلَ وشأنه.


الثلاثاء، 21 أبريل 2015

المصالح والعقائد (محاولة لفضِّ الاشتباك)


     بنظرةٍ لا ينقصها من التشاؤم، يبدو الشرق الأوسط موشكا على التفكّك إلى وحداتٍ أصغر من دوله القائمة، إلى كيانات أو إمارات دينيّة ومذهبيّة وإثنيّة وقَبَليّة .. إلخ، فقد أصبحت الدولة الوطنيّة الجامعة اليوم أبعد منها بالأمس، بدليل ارتهان شرعيّتها لقوّة الجيوش وأجهزة الأمن. وباتت الشر الأخف، حيث استبدادها وفسادها، بكل المقاييس هو الأقل سوءا مما هو قادم.

     كان مفاجئا ذلك الانهيار والتشرذم المريع، ربما لأنه كشف عن موت الأمّة الكبيرة، أو لعلّها كانت وهما رومانسيّا ظلَّ يشدُّنا نحو حلم الوحدة، لنصحوا منه على حقيقة أننا أممٌ صغيرة (فِرق دينيّة وجماعات أهليّة)، تنزعُ كلُ واحدةٍ منها للاستقلال بنفسها، وممارسة قناعاتها الدينيّة الخاصّة، ولا تلبث أن تنقسم -هي الأخرى- على نفسها، وتستقل كلُ طائفة لتمارس قناعاتها الخاصّة أيضا. كلما تتجدّد في الدين مذهبٌ ووُلدت طائفة قُظمَ من جسد الأمة جزء، يصير كلّا لوحده بعد ذلك. هل هي طبيعة الأمّة الملّية ؟ ربما. لكنه -على أيّة حال- يلقي الضوء على علّة قمع الدول القديمة لأي بادرة انشقاق دينيّة، حيث كان استقرار الدولة نابعا من انسجامها عقائديّا. الغربيّون كسروا تلك القاعدة المتوارثة، عبر فك الارتباط بين المعتقد والدولة، فلم يعد انسجام معتقدات الشعب شرطا لاستقرار دولتهم.

     بينما العالم يراكم نجاحاته التاريخيّة، ويتقدّم إلى عصر ما بعد الدولة الوطنيّة، نحو الكيانات الأكبر، التكتّلات القائمة على المصالح، أي شؤون الحياة، ينزلق الشرقُ الأوسط لعصر ما قبل الدولة الوطنيّة، نحو الكيانات الأصغر، المتصارعة على عقائد، أي شؤون ما بعد الموت ! إنها تجارب ماثلة، آثارها محسوسة، وقابلة للإحصاء والمقارنة، فلا يجوز بتاتا إغفالها.

     في عالمنا العربي والإسلامي، هل مشكلتنا هي في مذاهبنا المتنابذة أم في مصالحنا المتضادّة، أم أن كل واحدةٍ كانت مجرد تعبير عن الأخرى، كلاهما ناجمٌ عن الآخر بصورة جدليّة، يختلط فيها السببُ بالنتيجة؟ سؤال يحتاج كثيرا من التأمّل، لكني أعتقد أن مشكلة المصالح المتضادّة، مهما كانت شائكة، فيمكن حلُّها على طاولة حوار. هنالك دائما منطقة وسطى، تُتبادل فيها التنازلات. أما مشكلة العقائد، فلا يمكن حلُّها بتلك السهولة، إذ يتعذّر تقديم تنازلات متبادلة، لأنها حقائق مطلقة، لا تسمح بوجود منقطة وسطى يُلقى فيها السلاح والحقد.

     إذن لا بد من محاولة فضِّ الاشتباك بين العقائد والمصالح، على الأقل من أجل الحد من العنف كي لا تتسع حرائقه في مجتمعاتنا. إن الصراع على المصالح أخف كثيرا وأطوع للمساومات وأقرب للحل، من الصراع على العقائد الذي قد لا ينتهي إلا بالتدمير المتبادل. كما أن فضَّ الاشتباك من شأنه قطع الطريق على كل ما يحاول تغطيّة صراع المصالح بصراع العقائد. فضُّ يبدأ بمستوى اللّغة والمفهوم، ذلك لأن الخلاف ليس على مَنْ مع الله ومَنْ ضدّه، لا، بل حول الدستور والحرّيات وبنية السلطة وأسس توزيع الثروة، وما إلى ذلك من شؤون الحياة. وبهذا تختفي الآيات والأحاديث من الخطب والبيانات، ما سيؤدي تلقائيّا لتلاشي ظاهرة الاستشهاد والتفاني المميت في الحرب. فلا يُتوقّع من شعبٍ يطمع في حياةٍ أفضل، أن يصغي لمن يدعونه للموت مجّانا. إن من يصرُّون على خلط العقائد بالمصالح، إنما يغطّون فشلَهم في التعايش بنزوعٍ لحرّية مدّعاة.

الجمعة، 17 أبريل 2015

روان


     روان فتاة تقف على رأس الثلاثين بتوجّس امرأةٍ لم تحسم أمرها بعد، في خضم الخيارات الآخذة بالارتقاء والتحسّن، وقد شرعت تترامى عليها كل يوم، على شكل شبابٍ مدلّلين، عوائلهم ثريّة ونافذة. كالفراش يقعون في وهج روان.

     شهادتها أشبعتها خبزا وكعكا. لكنها تاقت للتشيز كيك الفاخر والشوكولاه الإنجليزيّة، فجرّت الكحل ووسّعت فتحة النقاب وتخفّفت من تحرزها الموروث تجاه الجنس الآخر، ففوجئت بخواتم الماس الصغيرة وصناديق الآيفون المغلّفة وترقية وظيفيّة انتشلتها من القاع. أصابها ذهول من اكتشف صدفةً بئر نفط وسط فناء بيته الشعبي، الآيل للسقوط !

     هل تسلّم نفسها للنزوات وتستمر في فتح أزرار قمصانها الحريريّة، أم تلملم شعرها وتفكّر في المستقبل بجدّية المهموم بغده ؟ وبعد حيّرة وتردّد، توصّلت إلى أنه لا تعارض، فافترّ قميصها عن ابتسامة.

     وجهها متناسق ومليح، وقوامها فوق المتوسّط. صحيح أن مؤخرتها كبيرة نسبيّا، لكنها تتوارى بسبب خصرها المنفرط، الذي يتهدّل من الجانبين عندما تشد الحزام. إذا داومت بالجينز، تغدو حديث زملائها الذكور حينما يتجمّعون بعيدا عن زميلاتهم، أثناء البريك. لمّا عرفتْ بذلك، انتظرتْ بفارغ الصبر نزول الراتب حتى تشتري مزيدا من الجينز والأحذية ذات الكعب العالي، ربما لتستولي على أحاديثهم خارج البريك أيضا. يفعل الإطراء بالأنثى ما تفعل الخمرة في العقول، وأكثر. ولذا تنفق في شرائه الكثير. لا تدّخر شيئا من أجل أن تقطف ثمراته من الأفواه والعيون.

     كبنات جنسها، تعتقد روان أن وقْع الكعب على الأرض يخرق صدر الرجل. وإن هبَّ عطرها، فقد يُصاب بالنزيف قبل أن يتبيّن هويّة من سدّد الطعنة !

     تعرف روان أنها جذّابة، لكنها لا تعرف أن أكثر جاذبيّتها مدفون تحت لسانها وذائبٌ في ملامحها. لا يُرى، لأنه لا يُدرك بالحواس الخمس أصلا، فقط يشعر به المغرم بها. وإلى حدٍّ بعيد، تجهل روان أن الإنسان قد يحب لأسبابٍ متعدّدة، ليس منها بالضرورة جمال الصورة أو امتلاء الجيب.

     طريقتها في الحديث مثيرة حقّا، يهفو إليها قلب الغريب، تجتذبه، فيدنو كما لو أن بينهما عِشْرة طيّبة. كم تجيد روان جلب الانتباه بابتسامتها التي تعرف -بفطرتها كأنثى- متى ترسلها، ولمن؟ ولماذا؟ كل ذلك تختزلُه في انفراجة شِفه، ربع ضحكة بالضبط.

     بشيءٍ من التجريد، ألا تبدو هذه الإشارات المتبادلة بين الجنسين تتطوّر مع الوقت، أي مسألة خاضعة للتقدّم الثقافي، لكننا نلتقطها -ذكورا وإناثا- بصورة بدائيّة جدّا، ربما لأن الذكورة والأنوثّة غريزةٌ سحيقة الوجود في أعماقنا كبشر، لا تخضع لمنطق التطّور والتقدّم ؟! رغبتك في المرأة هي نفس رغبة أبيك وجدّك آدم. وكذلك رغبتها فيك، هي نفس رغبة أمّها وجدّتها حواء. لا فرق نوعي. مشاعر القلب كانتفاض القضيب، أشياء خارج صيرورة التاريخ، أي التطّور. (حول هذه النقطة، انظر مقالتي "تأملات في الجنس").

     روان أجمل ما تكون المرأة الّلعوب الشقيّة، تعد بالكثير، فإذا علِقَ الضحيّة بشراكها، تفحّصته، ثم طرحته وذهبت بلا اكتراث. لم تقترب من رجلٍ فوجدته كما خُيّل لها. الانطباع الأوّل خدّاع، هكذا تقول دائما. تمارس الانتهازيّة أحيانا، لكن بلا غدر، أو بقليلٍ منه. للضرورات أحكام في النهاية ! لا تحب التعمّق في هذه الأمور حتى لا يصحو ضميرها المعذِّب، فيفسد عليها كل شيء. هي فقط تتفادى التورّط مع من تشعر أنها تقدر على اصطياد أفضل منه. ومشكلتها أن الأفضل مفقود دوما، يظل سابحا في غياهب خيالها كسرابٍ لاحَ لضمآن. تتخطّى الواحات وهي تلاحقه، إلى أن تغادر أراضيها المخصبة، وهي لا تدري !

     روان ليست شريرة، هي فقط امرأة اكتشفت أن أنوثتها ثروة طبيعيّة، فحاولت أن تستثمرها بطريقتها، خصوصا في مجتمع الندرة، المحافظ. وجدت أن الناس -بمعنى ما- درجاتٌ في سلّم، فصعدته. روان لا تقتل، ربما تخدش أو تجرح فقط. فيها من لطافة النشّالين، تسرق بخفّة، لكنها لا تأتي على كل ما لديك. تتركك غاضبا، لا متشحّطا في دمك، تلفظ أنفاسك الأخيرة.

الأحد، 12 أبريل 2015

عن الحوثيّين (شيءٌ من التاريخ)



الإمامة، الحلم الضائع :
أزالت ثورة 1962م الزيود عن عرش صنعاء، الذي اعتلوه منذ قرون مديدة، مكتسبين شرعيّتهم من المذهب المتمركّز حول النسب النبوي. وسلّم لهم الجنوب الشافعي، ورضخ لحكم الإمام الشيعي العلوي الفاطمي، الجالس بصنعاء، الذي منح شيوخ القبائل السنّية وإماراتها ما يشبه الحكم الذاتي، شرط أن يلتزموا بالنُصرة إن طُلبت، والإتاوة. والضمان كان رهينةً تُؤخذ من بيت شيخ القبيلة وتُسلّم لحضرة الإمام، بلا أغلال. هكذا كان يضمن ولاءهم ! لكن الثورة الجمهوريّة أنهت حكم الأسر المقدّسة ورسومه وتقاليده، ربما للأبد.

لم يعد الزيود بعد اليوم أتباع المذهب الحاكم المهيمن في دولة الإمام الإلهي، بل مواطنون كغيرهم من سواد اليمنيّين في دولة الرئيس المنتخب. وصار الحكم يُبنى على نصوصٍ دستوريّة تستبعد شرط المذهب والنسب في شخص الحاكم، إلا أن الحكم كان قائما في الواقع على جملةٍ من التحالفات والتوازنات يدّعي الزيود أنها بخستهم وهمّشتهم، فغمرهم الشعور بالظلم والقهر. لذا كان سقوط الإمامة بداية انحسار الزيود عن صنعاء وانكفائهم نحو القرى والأرياف، خصوصا صعدة، أقصى الشمال، ليُفاجؤوا هناك بالوهّابية وهي تضرب أطنابها على تخومهم، بعد أن أدارت رواق خيمتها على أكثر جزيرة العرب، وأودت بحكم الهاشميّين في الحجاز، واستولت على ضريح النبي وقبلة المسلمين، وشرعت تخترق الفضاء الزيدي في عُقْر داره !

هل الجاروديّة شذوذٌ عن المذهب أم مجرد اختلاف داخله ؟
في السنين الأولى من عمر الجمهوريّة، كان الضّغط على الزيود شديدا، حيث العهد بسقوط أئمّتهم قريب، وحيث إن من أصول مذهبهم إعلانُ الثورة من أجل "إعادة الحق إلى أهله"، أي السلالة العلويّة الفاطميّة. ولهذا صرّح بعضُ مراجعهم الكبار، كالشيخ علي العماد، بأن هذه المعتقدات ما زالت تخيف الحكّام، وأنه "يجب على علماء المذهب الزيدي في اليمن تمزيق الفصل الصغير الموجود بآخر كتاب فقه السير، وهو فصل شرط البطنين في الخلافة"، مشيرا إلى أن وقته قد انتهى، ولم يعد صالحا للتطبيق في هذا الزمن (في لقاءٍ مع صحيفة الوسط، الأربعاء، 8/3/2006).

لم ينفرد الشيخ علي العماد بهذا الرأي، بل شاركه مراجعُ آخرون من الزيديّة، كمجد الدين المؤيّدي وحمود عبّاس المؤيّد ومحمد المنصور وأحمد الشامي. لكن خالفهم مرجع شهير، يُدعى بدر الدين الحوثي، فأصرَّ على المرقوم في الكتب الصفراء العتيقة، من اشتراط البطنين في الحاكم الشرعي المعتبر. بمعنى أن يكون من سلالة الحسن والحسين حصْرا. وقد مثّل هذا الفقيه التيّار المتشدّد المنغلق داخل المذهب الزيدي، وكان في موقفه هذا محرجا للمذهب أمام السلطة والمجتمع، الأمر الذي جعله عُرْضةً للضغوط، فترك اليمن قاصدا إيران، وأقام في ضيافتها سنين زادتُه صلابةً في موقفه وأشربته أشياء من التشيّع الجعفري الإثني عشري. وربّما ولّدت فيه هوى سياسي ورّثه لذرّيته وأتباعه فيما بعد.

ولأن الخطاب الراديكالي يكسب في كل الاستقطابات الحادّة، فقد اكتسح المنزع الحوثي الشارع الزيدي، وسحب البساط من تحت المعتدلين. فسادت الجاروديّة، وهي فرقة زيديّة مغاليّة، قريبة الشبه في مقالاتها من الجعفريّة الإثني عشريّة، كما نصَّ شيءٍ من ذلك مراجعُ الزيود، في بيانهم الذي أعلنوه للتبرّوء من الحوثيين عندما اشتبكوا مع الجيش اليمني في سلسلة من المعارك، التي ابتدأت عام 2004، ولم تنتهِ بمصرع حسين الحوثي.

لعبة التحالفات :
حلَّ عام 1990 وقد انتصر شمال اليمن على جنوبه، فيما عُرف بـ "الوحدة" (بعبارةٍ أخرى : هزيمة مشروع الانفصال الجنوبي)، والذي استدعى بعض التغييرات في الدستور إثر التوصّل لاتفاقيّات شاملة، فاعتُرف بالتعدّدية وأُطلقت الحرّية لإقامة الأحزاب. فسارع الزيود بكافّة درجات تشيّعهم -فيمن سارع من اليمنيّين- لإنشاء أحزاب سياسيّة، كحزب الحق، واتّحاد القوى الشعبيّة، وحركة التوحيد والعمل الإسلامي. ولنأخذ حزب الحق مثالا، ولعلاقته بموضوعنا.

نشأ هذا الحزب مع رفع الحظر عن إقامة الأحزاب، والتف "السادة" الهاشميّون على مراكزه، حيث اختير أحد أكبر علماء الزيديّة في اليمن، وهو مجد الدين المؤيّدي، رئيسا له. كما اختير "السيّد" أحمد الشامي أمينا عاّما مساعدا. واحتلَّ رئاسة معظم الدوائر "سادة". وكان الحزب منضويا في الجبهة التي يقودها الحزب الاشتراكي الرامي لإضعاف سلطة صنعاء (سعيّا -وقد تعذّر الاستقلال- لإقامة نظامٍ لا مركزي)، باسم التكتّل الوطني للمعارضة، في وجه الجبهة التي يقودها المؤتمر الشعبي، الحزب الحاكم، بزعامة علي صالح. والتي ضمّت آنذاك الأحزاب الإسلاميّة السنّية، وعلى رأسها التجمّع الوطني للإصلاح، الواجهة السياسية للإخوان المسلمين.

كشفت تجربة الانتخابات البرلمانيّة عن حضور هزيل للحزب، إذ لم يفلح في أكثر من دورة في الوصول للبرلمان، سوى عام 1993، حيث وصل اثنان من مرشّحيه إلى البرلمان، أحدهما حسين، نجل المرجع الزيدي المتشدّد، بدر الدين الحوثي، فيما اكتسح المؤتمر الشعبي الحاكم وحلفاؤه البرلمان. وكان لحزب الحق صحيفة يوميّة سمّاها "الأمّة"، ظلّت على مدى سنين تروّجُ لإيران وإيديولوجيّاتها ورموزها السياسيّة والدينيّة.

التنافر والاضمحلال :
لأسبابٍ متعدّدة، أخذ حزب الحق يتفكّك، وخرج حسين بدر الدين الحوثي ومجموعة معه ليؤسّسوا تنظيما عُرف بـ "الشباب المؤمن". لعل تجربتهم السياسيّة الفاشلّة جعلتهم يعون أهمّية خلق قاعدة شعبية قبل البدء بأي نشاط سياسي مثمر. وطريقتهم لذلك هو العمل الثقافي المنظّم، الذي لم يكن يعني سوى إحياء المذهب والسعي إلى تأسيس المعاهد وإقامة الدروس في المساجد المتناثرة في المناطق الزيديّة.

لأنه حزبٌ عقائدي بحت، كان عليه أن يخلق قاعدته الشعبيّة بواسطة الدعاية الدينيّة والتبشير المذهبي. لم يكن لديه مشروع مدني بالمعنى الكامل للكلمة، يعمل على تأصيل التعدّدية في المجتمع، وبالتالي : تكريس الدولة الديمقراطيّة. بل دّلت الأحداث المتلاحقة على أنه كان يرمي لاسترداد دولة الإمامة، ويشحذ العقيدة في المجتمع الزيدي حتى لا ينسى أبناؤه وبناته هويّتهم المذهبيّة وإمامهم البائد !

وكما هي العادة، فقد دأبت السلطة عبر أجهزتها ومؤسساتها وحزبها الحاكم على محاولة اختراق أحزاب المعارضة وتشتيت صفوفها، وتشجيع الانشقاقات داخلها. وقد كان، إذ ثبت ضلوع السلطة في دعم حسين الحوثي لينشق عن الحزب. يشير بعضُ الباحثين إلى تضافر الدور الخارجي الإيراني مع الدور الداخلي للسلطة الحاكمة في تبلور الظاهرة الحوثيّة، هذا بالإضافة إلى الفشل الذاتي للحزب الذي خرجتْ من رحمه مولودا مشوّها.

من الضروري وضع الأحداث في سياقها التاريخي، حتى تُفهم بصورة صحيحة. لم يكن الحوثيّون آنذاك سوى مجموعة مغاليّة أيديولوجيّا، تعمل في فضاء زيدي بحت، ومصلحة السلطة في ظهورها تتلخّص في تمزيق المعارضة الزيديّة وإضعاف الهاشميّين، كما أن إيجاد معادل موضوعي للسلفيّة الجامحة في صعدة بات ملّحا، خصوصا بعد التوجّس منها إبّان أحداث سبتمبر 2001. على أيّة حال، لم يكن الحوثيّون يومها سوى قطٍ يعبث في قن دجاجٍ مزعج، هذا قبل أن يتحوّلوا -لعوامل كثيرة- إلى قطيعٍ هائل من الذئاب الضارية.

انقلاب السحر على الساحر :
مع تنامي دعاية حسين الحوثي ورفاقه اتّسع نطاق تأثيره وكثُر أتباعه ومناصروه، وشرع بالتدريج يتنمّر على السلطة ويستفزّها ويرفع شعاراتٍ تحرجها أمام أهم حلفائها في العالم، الولايات المتحدّى الأمريكيّة، كما في شعارهم الشهير "الموت لأمريكا .. الموت لإسرائيل .. إلخ". وبعد شدٍّ وجذب مع السلطة التي بلغها أن السلاح وصل لأيدي رجال حسين الحوثي، وبينما الرئيس اليمني عائد من الحج برّا، عام 2003، قرّر أن يصلي في أحد جوامع صعدة، ويرقتي المنبر ليخاطب أهالي المنطقة، ليفاجئ أن حسين الحوثي قد سبقه إليهم وغسل أدمغتهم، فهبّوا في وجهه وصرخوا بـ "الموت لأمريكا .. الموت لإسرائيل .. إلخ". ولا عجب، عقل العامّي -كما يقول البليهي- يحتلُه الأسبق إليه.

كانت هذه شرارة الحرب، حيث اعتُقل المئات وزُجّوا في السجون، واستُدعي "المحرّض" حسين الحوثي للتحقيق معه، وعندما رفض الحضور، أُرسل الجيش له في صعدة. لتُفتتح سلسلةٌ مع المعارك الشرسة. كلّفت اليمن عشرات الآلف من القتلى، ومليارات الدولارات. قُتل حسين مبكّرا في المواجهات، فتولّى زعامة الجماعة والده (بشكلٍ رمزي)، المرجع الديني الكبير، بدر الدين الحوثي، مما ساهم في مضاعفة الأنصار بين صفوف الزيود العاديّين، ربما ممن لم تكن له أيّة اهتماماتٍ سياسيّة. وضعت تلك الحروب أوزارها بهزيمة اليمن. وانكفَّ الحوثيّون في محافظتهم يلعقون جراحهم، ورجع الجيش إلى ثكناته يجرُّ آلياته المعطوبة.

في بحر السياسة لا بوصلة مبدئيّة :
كانت ثورة الشباب اليمني 2011 فاتحةً لعودة الحوثيّين مجددا، حيث أطاحت بخصمهم الألد، علي صالح. عميل أمريكا وإسرائيل واليهود، كما يقولون. أيّد الحوثيّون الثورة، وكانوا -على مضضٍ- ممن وقّع على المبادرة الخليجيّة، التي تنظّم عملية انتقال السلطة بشكلٍ سلمي، مع منح الرئيس السابق وعائلته حصانةً من المحاكمة، وهو ما رفضه الشباب الثوّار قاطبةً، لكن إرادة الخليجيّين مضتْ في نهاية، فقُطع حبل المشنقة عن عنق علي صالح، ليعود ويتحالف مع الحوثيّين ضد من خلّصوه من موتٍ محقّق. لماذا فعل ذلك وقد سقط بالإجماع الوطني كرئيس ؟ وكيف قَبِل عبدالملك الحوثي أن يضع يده بيد قاتل أخيه، وعميل أمريكا وإسرائيل واليهود ؟ وبأي وجهٍ يسوّق الحوثيّون حربهم هذه على أنها حربٌ على اليهود والنصارى وأوليائهم؟ إن ذهبت تفتح القرآن بحثا عن أجوبة، فلن تفهم شيئا. إذ لا علاقة بما جرى ويجري وسيجري بشيءٍ خارج إطار السلطة والثروة، أي الدنيا.