الأربعاء، 9 سبتمبر 2015

فكّني عليه ! (تأملات في المطاقّ)


     افتقاد الفرد لكثيرٍ من المهارات القتاليّة صار اليوم ظاهرة، وإذا ما نشب عراك بين اثنين تغلّبت عليهم أثناءَه العشوائيّة والانفعال والتشتت، بحيث تكون الضربات المجدية مجرد صدف نادرة وعمياء. لم يعد هنالك من فرقٍ كبير بين اشتباك الأطفال واشتباك الكبار، اللهم في استعمال الأسلحة الناريّة والآلات الحادّة. ما جعل العراك معادلا موضوعيّا للفوضويّة والارتباك والتخبّط، مفارقا -بالضرورة- كل ما يمت للفن والمهارة والعقلانيّة بصلة. ولعله من أسباب انقراض المقاتل البارع. بعبارةٍ أخرى : صار العراك حالةً من الخروج الكامل عن الفعل والممارسة المنتظمة.

     لنشوء الدولة الحديثة علاقة جليّة بالموضوع، بحكم تكفّلها بحفظ أمن الأفراد، وفرضها مسارات معيّنا لمعالجة كل ما ينجم عن سوء تفاهم طارىء، عبر الشرطة والقضاء والسجن. وذلك للحيلولة دون اندلاع أي اشتباك محتمل، وهذا طبعا بعد تجريم الاشتباك نفسه، لأنه تمرّد على سلطة من يُفترض أنها تحتكر العنف، أعني الدولة. كما للتطوّر التقني علاقة بالموضوع أيضا، حيث ابتُكرت أجهزة قلّلت من اعتماد الإنسان على عضلاته، كالمسدسات، والعصيِّ الكهربائيّة، وبخّاخات الفلفل، الخ. هنالك قاعدة تقول إن كل عضو أو مهارة لا تُستخدم، فإنها تصبح عرضةً للضمور والتلاشي. وهذا بطبيعة الحال ينطبق على القتال ومهاراته التي لا يمكن أن تُكتسب بشيءٍ سوى الممارسة على أرض الواقع. لكن ألا يعني كل هذا أن تخلّف الأفراد في إدارة العراك كان في الحقيقة نتيجةً لتقدّم المجتمعات، أنظمةً ومؤسسات !

     لم يعد امتلاك الفرد لمهارات القتال ميزةً ذات بال، فقد تراجعت اليوم أهمّية الفارس (البواردي، المبارز، الخ)، وما عادت ضمن متطلّبات الشرف والصعود للقمّة، حيث تحوّل مفهوم القوّة أصلا، مختزَلا في المال والثقافة والعلاقات، أي كل ما يُكسب نفوذا. هذه هي معايير التفوق حصرا، وبمقتضاها يحتل الفرد موقعه في التراتب الاجتماعي. إنسان اليوم أقل اعتمادا على قواه البدنيّة لإدارة صراعاته وحسم خلافاته، على العكس، صار اعتماده عليها دليلا على كونه ضعيفا، منحطَ المنزلة، نشازا عن القواعد المستجدّة للصراع الاجتماعي.

     ما دام للبشر، أفرادا ومجتمعات، مصالح من طبيعتها التعارض، فالصدام ليس مجرد توقّع. الصراع ثابت، لكن وسائلنا في خوضه وإدارته متغيّرة. إنسان اليوم يبدو مجبرا على ضبط انفعالاته وتكييفها لتتلاءم مع آليات الصراع في مجتمعات اليوم، النزّاعة أكثر فأكثر نحو المأسسة والتنظيم، أي ما يسمّيه فيبر "العقلنة"، عقلنة كل شيء، بما في ذلك العراك الشخصي. مما يعني أن العراك فعل غير عقلاني اليوم، وإن كان معقولا بالأمس. في ظل هذه التصورات والأفكار، كيف نفهم ظهور أندية تعليم فنون ومهارات الدفاع عن النفس ؟ هي معقولة في حدود كونها رياضة، تُقام لها بطولات عالميّة، يتطلّع بعض المنخرطين فيها لإحراز مجدٍ شخصي على منصات التتويج. عدا ذلك، فهي تبيع الأوهام، ولا يلتحق بها سوى مراهقين، سنّا أو عقلا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق