الأحد، 28 ديسمبر 2014

معك اشتراك؟ (تدوينة تحليليّة)

     

     هل جرّبت أن تتعطّل سياراتك في هجرة أو قرية؟ حتما ستلمس الفرق في تقديم يد المساعدة التي تتأخّر كثيرا في المدن. وأعتقد أنك ستبيت في الشارع لو كان السواد الأعظم من قاطني المدينة قد تشرّبوا قِيم الفرديّة، بمفهومها الحديث، الذي لا يعني شيئا سوى الأنانيّة، بإطارها التعاقدي النفعي المغلق، ذلك النوع من الارتباط الذي يحكم علاقات الافراد في المدن الكوزموبوليتية. لا يمكن لهذه الفرديّة أن تتحوّل لثقافة عامّة إلا بعد تفكّك الكيانات الاجتماعيّة التقليديّة (العائلة، القبيلة، الطائفة، الخ)، وانحلال روابطها القيميّة والأخلاقيّة الموروثة، والتي من ضمنها : المعاونة الطوعيّة (الفزعة مثلا)، أعني أساليب السلوك الذي تشدُّ الأفراد داخل تلك الكيانات، وتعزز تماسكها، وتمنحها السلطة عليهم، السلطة المعنويّة بالدرجة الأولى (أخلاقيات الجماعة التقليدية).

     لكون الفرد قد انصهر في المجموع، فإن حدود الذات وحدود الغير تبدو غامضة، غير واضحة المعالم. فاختلطت الحقوق بالواجبات، لتداخل الخاص والعام، حيث شؤون الفرد وشؤون الجماعة شيءٌ واحد، فمشكلتهم هي مشكلته، مثلما تغدو مشكلته مشكلةً يتداعون لها جميعا. ومن نتائج ذلك أن تكون المساعدة سلوك عفوي و"طبيعي"، ويومي أيضا.

     طالما استوقفتني نجدة أبناء القرى والبوادي، ومسارعتهم لتقديم العون، بل واعتذارهم "عن التقصير" فيما لو لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا في موقفٍ من المواقف. العمل الطوعي "واجب" في البيئات التقليديّة، بينما العمل الطوعي في المجتمع المتمدّن، الذي ترسّخت فيها الفردانيّة : يُعتبر "علاجا" لتداعياتها النفسيّة على الأفراد. وتنادي الناس إليها، ليس لفرط إحساسهم بمعاناة غيرهم، لا أعتقد ذلك، بل لأنهم ما عادوا يطيقون أنانيّتهم التي قذفت بهم في وحدةٍ سحيقة، لا تُحتمل. فصار العمل الطوعي بمثابة ضوءٍ يلوح لهم في آخر نفق الفردانيّة الخانق.

     أظن أن العمل الطوعي المعاصر مجرّد آلية يستعيد بها الفرد توازنه النفسي بالاندماج في الجماعة من جديد، الجماعة التي اكتسب فردانيّته بالانفصال عنها أصلا. هذا الانفصال أحدث أزمةً نفسيّة (قلق، اكتئاب، فراغ وجودي، وحدة كريهة، الخ)، ربما لأن الفرد تمرّد على غريزته، فثأرت الطبيعة منه وردّت اللطمة، إذ يظهر أن البشر وُجدوا قطعانا منذ القدم، كما يقول تاريخهم التطوري، بحيث تكون الفردانيّة -كقيم ومسلكيّات- عبارةً عن قضاءٍ مبرم على الجزء القطيعي في الإنسان. وهي كأي عمليّة جراحيّة تعقبها آلام ومضاعفات. ولذا كان العمل الطوعي المنظّم عملية استشفاء من آثار الانسلاخ من القطيع، أو من آثار حصر الحياة في حدود الذات. إنه بحث عن الدعم و"المساندة النفسيّة" : وهو مفهومٌ حديث يُشير إلى وضع أو حالة لا يمكن تصوّرها في القرية أو البادية، حالة مدينيّة بامتياز، نابعة من تفكّك البُنى الاجتماعيّة التقليديّة. لعلها متاعب الإنسان عندما قرّر "أن يقوم وحدَه" كما يقول هكسلي.

الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

أوهام الطموح (في نقد العزيمة والصبر)



     يُقال إن السعادة هي الغاية التي يتفق البشر في التطلع إليها، مهما اختلفت معتقداتهم وأفكارهم. تبقى غايتهم جميعا، وإن تعدّدت إليها طرقهم، وتباينت حولها تصوّراتهم الكلية. في بحثي عنها كأي إنسان، قرأتُ وسمعت الكثير. أمّلتُ ورجوت وحلمت وخطّطت وسعيت .. حالفني التوفيق أحيانا، وخالفني أحيانا أخرى. وما يزال دكّاني في سوق الحياة على مصراعيه مفتوحا. أجلس على بابه أساومُ الأيام وتساومني. والصفقات بيننا كرّات ودُوُل، لي وعلي. أمارس تجارتي اليوميّة، أبيع وأشتري، وفي رأسي الكثير من المشاريع التوّسعيّة في المستقبل. أخطّط أن أنوّع بضاعتي، وأستأجر المحل المجاور وأتمدّد فيه، شيئا فشيئا حتى أهيمنُ على دكاكين العمارة كلها، وهي الخطوة التي لن يليها سوى بسط النفوذ على أسواق المدينة، وربما البلد بأكمله. هكذا أحدّثُ نفسي وأنا أصبّرها على جفاف عتبة الدّكان التي أجلس عليها ! الحقيقة، لا ابتكار في الخطّة، فمن المعروف أن كثيرا من التجّار الكبار، بدؤوا بداياتٍ أقل بكثير من بداياتي. وعالي الهمّة أمامه الكثير من الكد والتعب، وقد قيل: " لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا ". أنا جاهز لتجرّع الصبر. أريد القبضَ على المجد حيّا، وبأي ثمن. أو أموت في الطريق إليه !

     وطّنت نفسي على تحقيق أحلامي الكبيرة، ويالها من أحلام ! وقرّرتُ -كأي شخص طَموح- أن أطوي فراش التراخي والكسل، فأصل عمل النهار بالليل، وأختصر الراحة مسهبا في التعب، كما لو أنني في سباقٍ مع الزمن على لحظةٍ خلود دائمة، أهزم بها الموت، فأضع حدّا لتناقص وجودي .. من شدّة استغراقي فيما أنشده وأتطلّع إليه : لم أعد أتعامل مع الحاضر إلا بوصفه ساعة عملٍ لا يمكن تأخيره، الراحة منه مؤجلّة لما بعد قطف الثمار وحصد المكاسب. هذه التي لا تأتي إلا آخرا، بعد أن يجف العرق وتُسترد الأنفاس. كما المرْجلُ رأسي، يغلي دائما بخيالات المجد والثراء والشهرة، فيشحذ عزيمتي لأستخفَ بالعقبات والمشاق .. لكن لحظة ! هل من المعقول أن نعيش حاضرنا ونحن أسرى مستقبلٍ قد يأتي كما نحب، وقد لا يأتي. فنرهنه كاملا دون ضمانة مؤكّدة !

     الماضي مجردُ ذكرى نختزنها. والحاضر هو ما نحياه الآن بوصفه حقيقةً معاشة تماما. والمستقبل ربما جاء ونحن غير موجودين على وجه الأرض .. الحاضر الذي نحياه ليس إلا تفاصيل يوميّة صغيرة عادةً. نتخيّل أنها الأجزاء المكوّنة لهيكل مستقبلنا حينما يكتمل. المفارقة، أن المستقبل المكتمل هذا وهْم خلّاب. لأنه إذا جاء كما خطّطنا ورتّبنا، فلن يكون سوى تفاصيل يوميّة بسيطة، لمستقبلٍ آخر أكثر اكتمالا. كل قمةٍ تبلغها تتحوّل فورا لسفْحٍ تحت قمّة أخرى أعلى. سرُّ السعادة ليس تحقيق الغايات النهائيّة والتربّع على القمم، إنما في عملية التحرّك للأعلى. أي مزاولة تلك التفاصيل اليوميّة البسيطة، عيشها بروحٍ غير مأخوذة بالنتائج والغايات أكثر مما ينبغي. إنها في الحد من طغيان ما سيكون (المستقبل) على ما هو كائن (الحاضر).

     لو تأمّلنا قليلا، لوجدنا أن أكثر سعادتنا مذخورةٌ في تفاصيل يوميّاتنا الصغيرة، التي ربما تقاسمناها مع الآخرين : فنجان قهوة، قطعة حلوى، دردشة دافئة، أغنيّة فيّاضة، مشوار مشيا على الأقدام، مغازلة أنيقة ، الخ. إن لم تعش حاضرك بكامل سعته من البهجة والسرور، فأنت إما أسير ماضٍ لن يعود، أو مستقبل ربما لن يأتي. مستَلبٌ لزمنٍ ما .. عِشْ لحظتك، الآن وحالا، ولا تؤجل بهجة اليوم للغد. وكنْ على يقين أن من يبتكر لحظته، ويتفنّن في صياغتها وتجميلها، أكثر ذكاءً وحكمة ممّن يستهلك حاضره وينفقه، في إحْكام الخطط واتّخاذ التدابير لاقتناص لحظةٍ ما تزالُ في ضمير الغيب. والعاقل لا يدعُ يقينا لظن.


السبت، 20 ديسمبر 2014

الرقص مع النياق



     كثيرون يتخوّفون من مظاهر انبعاث القبيلة ونهوضها، والتي يرونها متجلّيةً في : مهرجانات مزاين الإبل، وقنوات الشعر النبطي، وتناصر أفراد القبيلة في دفع ديات بعشرات ومئات الملايين، الخ. هل لنا أن نستدل على أن القبيلة تتأهب لاسترداد مواقعها التاريخيّة بشيءٍ غير تلك المظاهر والفعاليات التي لا نعرف أين ستنتهي؟ قبل محاولة الجواب يجب أن نسجّل أن كل تلك المظاهر والفعاليات لا شك تحيي النُعرة القَبَليّة وتعزّز تماسك أفراد القبائل وشعورهم بذاوتهم الجمعية، وتحقّق الشروط التاريخية لتكوّن القبيلة من الأساس، الذي يتمثّل في العصبيّة بالمفهوم الخلدوني المعروف سوسيوجيا (يقول في مقّدمته : العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه، وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل. ومن صلتها النُعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيمٌ أو تصيبهم هلكة. فإن القريب يجد في نفسه غضاضةً من ظلم قريبه أو العداء عليه، ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك).

     هي رابطةٌ أساسها النسب (الدم)، وليس الإيديولوجيا، أو العقيدة، أو المذهب، أو حتى المصلحة في صورتها التعاقدية العقلانيّة الحديثة، من أجل هذا أعتقد أن القبيلة إلى زوال حتما، وما يطفو على السطح من تلك الفعاليات والممارسات، لا تعبّر إلا عن حنين مشبّع بالرومانسيّة، مجرد أخيلة متطايرة حول الماضي، تداعب بعض الجهلة من كبار السن، يجاريهم عليها شبيبةٌ تعاني من فراغ أو تبطّل أو فشل. لعلها تشبه الروح التي تعمُّ أفراد أسرة وهم وقوفٌ على ضريح جدّهم، فتقرّبهم لبعضهم أكثر، لكنها لن تخرج الميّت حيّا من قبره.

     بعبارةٍ أخرى، إن تلك الفعاليات والممارسات قد تشيع بعض التعاطف بين أفراد القبيلة، شعور ما بهويّة وانتماء، لكنها تظل من قبيل الهويّات الفرعيّة المتفسخة، لا يذهب معظمهم في تصعيدها أكثر من ذلك، سيّما وقد جرّبوا العيش في ظل كيانٍ أكثر أمانا ورغدا وفائدة، أعني الدولة. هذا بالنسبة لجيل الأباء، أما جيل الأبناء، فهم من صُنْع الدولة وعمل يدها. لذلك تبدو تلك الفعاليات القَبَليّة وكأنها محاولة عابثيّة لاستعادة النشء، الجيل الجديد، من قبضة وسائل  تعليم وتربية الدولة وإعادة دمجهم في القبيلة.

     القبيلة التي نسمع عنها في القصص، المستقلّة سياسيا واقتصاديّا، والتي تتمتّع بقوّة عسكريّة : تُعتبر في الحقيقة شيئا بائدا، وقد ماتت مع الملك عبدالعزيز، وربما قبل وفاته بقليل. وتحّللت جثّتها مع اكتشاف النفط في أربعينيّات القرن الماضي، حيث انبثَّ أفرادها وانتشروا في الجهاز الإداري والعسكري للدولة، ودارت بهم دواليبها، وصار لهم فيها مصدر رزق، غير سيوف ورماح والآباء والأجداد. كان توقّف القبيلة عن الغزو إيذانا باضمحلالها. ولذا استوطنت الهجر والقُرى، وكفّت حتى عن الارتحال وتتبّع القطْر في الفيافي، وتحوّل شيخُها إلى زعيمٍ رمزي، لا حاكم بصلاحيات.

     هل للقبائل نفوذ في أجهزة الدولة عبر الموظفين الذين ينتمون لها هناك، وبالتالي، هل يُعتبر هذا اختراقنا للدولة من جهة القبائل؟ سؤال كثيرا ما يُطرح بقلق.

     الذي أراه أن هؤلاء الموظفّين سيتخفّفون من الولاء للقبيلة وزعمائها بقدر استفادتهم من الدولة، خصوصا الموظّفون الكبار وأصحاب المناصب المرموقة. بل أذهب للقول بأن الدولة تُضْعِف سلطة شيوخ القبائل، بالتالي القبائل ككيانات، من خلال توظيفها أبناء القبائل ودمجهم في أجهزتها ومؤسساتها، ومن ثمَّ، استتباعهم وكسب ولائهم. فالولاء يتبع الرزق في النهاية، والمكانة مناطة بالدور. وهذا ما كانت القبائل تحفظ به وجودها ووحدتها بواسطة التعاون على الغزو والرعي وسواها من وسائل عيش الجماعة. فمن يملك وسائل الانتاج في أي مجتمع، سيحدّد علاقات أفراده. أي نظام الولاء والمراتب والطبقات، وما إلى ذلك. وأغزر وسائل الانتاج، بل كل وسائل الانتاج، بيد الدولة اليوم، فما الذي بيد شيخ القبيلة ليغري به أفراد قبيلته ليتبعوه إذا طاول الدولة ؟ لا شيء. هو يعرف ذلك، وهم أيضا يعرفون ذلك.

     لا أجادل بأن القبائل في مهرجاناتها واحتفالاتها اليوم، ربما (أقول ربما يحصل هذا أحيانا) تُرسل رسائل غير مباشرة للسلطة المركزيّة في الدولة، مضمونها أننا نريد أن تعطونا أكثر، لكن ليس فيها معنى التحدّي، ناهيك بالتلويح بالرغبة في الاستقلال عن الدولة مثلا. وأظن أن شيوخ القبائل يدركون أن الاقتراب من شيءٍ كهذا، لن يضع القبيلة في وجه الدولة وشعبها، لا أبدا، فقط سيُطيح بذلك الزعيم القَبَلي باعتباره أحمقا يجب استعباده عن التصدّر في محافل القبيلة. وأول من سيتصدّى له هم أفرادُ القبيلة، قبيلته، لن يلتزموا حتى بالحياد، سينحازون لمصدر الرواتب والمنح والعطايا، الدولة !

     طبعا هذا بالإضافة إلى أن المجتمع المعاصر آخذٌ في التمدّن أكثر فأكثر، وجوهر التمدّن هي الحداثة، وهي مجموعة قيم وأفكار مميتةٌ للقبيلة ككيان اجتماعي. 


الاثنين، 8 ديسمبر 2014

العمالة كشعب !

     

     بلغ عدد العمالة الوافدة المسجّلة لدى الجهات الرسميّة حوالي ثمانية ملايين (وجودهم شرعي نظاما)، ويذكر بعض الباحثين أن غير المسجّلين حوالي أربعة ملايين منتشرين في طول البلاد وعرضها (وجودهم غير شرعي نظاما)، فالمجموع إذن اثنا عشر مليونا .. أميل شخصيّا إلى أنهم أكثر، لا أصدّق الأرقام الرسميّة، ولدي قناعة مستقّرة أن الأجانب تخطّوا -بالمجمل- حاجز الخمسين بالمائة من سكّان المملكة، وجولة واحدة في الأسواق الكبيرة والصغيرة والشوارع التجاريّة، في المدن كلها، تكشف بوضوح أن السعوديين يكادون أن يتحوّلوا إلى أقلّية في بلدهم وسط طوفان الأجانب الذي اكتسح القطاع الخاص وتجارة التجزئة والخدمات. والمثير للاستغراب أننا نعاني بطالة، حيث تزداد بشكل مضطرد سنويّا أعدادُ حملة الملفّات الخضراء (العلّاقيّة) الذين اعتادوا التشمّس والتدخين والثرثرة على أبواب الوزارات صباحا !
                
     كان غازي القصيبي يقول : "لدينا ستة ملايين وظيفة متاحة للسعوديّين، لكنها الآن مشغولة بأجانب". من الواضح أن الأمور ساءت أكثر، فازداد الأجانب من جهة والعاطلون من جهة أخرى، والضحيّة الاقتصاد الوطني، ما سينعكس على الحالة المعيشيّة للمواطن .. إنهم يقاسمونكم خيرات بلدكم من دون أن يضيفوا لرأسماله (الدخل القومي) شيئا. يمتصّون حتى المساعدات الحكوميّة التي تتدارك بها -بين فينة وأخرى- غضبتكم من أمرٍ ما. إذ الأجانب هم التّجار الذين تشترون منهم أصلا. وكلما أثرى منهم واحد، جلبَ أقاربه ومعارفه من جبال صنعاء أو عمق الصعيد الجوّاني، ونشرهم في فروعه الجديدة (التي يشتري منها العاطل ملفّه العلاقي، ويفطر فيها قبل الذهاب للوزارة!)

     لا جديد بأن ثقافة العمل لدينا معطوبة ويحتاج إصلاحُها لوقتٍ قد يطول، لكن ترك الأمور هكذا ليس هو الحل. وإن كنا سنتكلّم عن ثقافة، فأعتقد أن الحكومة هي من يملك وسائل التغيير الثقافي، وفي النظم الشموليّة (غير التعدّدية كنظامنا) الشعبُ مجرّد منتَج حكومي. لا أدري هل ألوم المواطن السعودي على إيمانه الخرافي الكسول بأن الحكومة هي مصدر الرزق الأوحد، أم ألوم الحكومة التي لا تريد أن تغيّر من طبيعة اقتصادها الريعي، الذي صِيغ في ظلّه وعيُ مواطنها وعليه تطبّع ! على كل حال، سيأتي اليوم الذي فيه تكتشف الحكومة أنها لم تعد قادرة على الإنفاق المباشر على أفراد شعبها، بواسطة توظيفهم في مؤسساتها (هي تعرف أنهم لا يقدّمون شيئا، لأن أكثريّتهم عبارة عن بطالة مقنّعة). حينها إما أن تُوجِد بنيةً تحتيّة لقطاع خاص وطني حقيقي (من ضمن ذلك العملُ على تصفية الوجود الأجنبي)، يستوعب أفواج الخريجين، وإلا فإن عليها أن توجد أجهزةً أمنيّة كبيرة متخصّصة لمكافحة الشغب، فالعاطلون هم وقود الثورات، الأمر الذين يعني أن نسبة الأجانب في بلدنا، ربما ستحدّد مستقبل نظامنا السياسي برمّته. ولذا كانت هذه المسألة وثيقة الصلة باستقرار بلدنا ووحدته، أي بالغة الخطورة جدّا.


الأربعاء، 3 ديسمبر 2014

مدنّسون وطاهرات (تأمّلات في الحب)


    في الحب، هل ما تريده المرأة من الرجل، هو نفسُه، ما يريده الرجل من المرأة ؟

     حينما يجتمع الحبيبان عادةً يكون الحب هو الموضوع الأثير بينهما، حيث يتبادلان الشكوى من اشتياقا ولهفةً، فيتراوح الحديث حول محورٍ واحد في النهاية، هو الانتظار المنهك حتى ساعة اللّقاء. كل الكلام تقريبا مجرد مقدّمات أو مبرّرات أو تفسيرات لتلك الحال. وغالبا يُحكى بأسلوبٍ شاعري آخّاذ. وكم يحلو للعشيقين أن يعلنا دائما، بمناسبة وبدونها، عجزهما عن التعبير عمّا يضطرم بين جوانحهم، من فرط التعلّق. وربما قال أحدهما للآخر في لحظةٍ غامرة : أتعرف هذا الذي تقول إن العبارة تضيق عن نقله كاملا كما تشعر به ؟ إنه لفي صدري نحوك، وإنني أقاسي العجز الذي تقاسيه عندما تعاني نقله لي. كأننا يا حبيبي نحاول اغتراف الفضاء بملعقة، اللغات قاصرة عن معاني القلوب ! 

     هل المضمون واحد عند كليهما، بدليل عجزهما سويّا عن التعبير عنه ؟

    كونهما ممتلآن مشاعر طاغيّة، هي حقيقة. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن مشاعر المرأة في الحب، هي نفس مشاعر الرجل في الحب. حتما هنالك قدرٌ مشترك بين حبه وحبها، مثلما هنالك اختلافاتٌ قلَّ أن ننتبه إليها، وربما نعثر عليها في أغراض الحب وغاياته. أقول ربما.

     عادةً يُولد الحب تائها أعمى، بلا مقاصد واضحة. أي بلا خارطة طريق محدّدة بدقة .. الحب يشبه المرض الذي لا تشعر بأعراضه بشكلٍ واضح إلا بعد أن يقطع شوطا في التمكّن منك، حينما يستفحل. المفارقة، أن خطط المحبّين المستقبليّة، ليست سوى محاولات للتعايش مع هذه العِلّة التي استحكمتْ، لا للاستشفاء منها. نحن لا نفكّر بمصير العلاقة ومآلاتها بشكلٍ جدّي إلا بعد أن نعي أننا قد تورّطنا فيها فعلا، ليكون السؤال الملحُّ : ما العمل الآن ؟ أظن أنه عند هذا السؤال يتحدّد الفرق بين حب المرأة وحب الرجل. قبلَه كان الحب واحدا تقريبا. وبعدَه أخذ كلُ حبٍّ طابعَه الجنسوي الخاص (الجندري).

     تبحث المرأة في الحب عن الاحتواء والأمان والاستقرار، ولذا تطمح لتخليده بواسطة الزواج والإنجاب. لا تميل المرأة -حتى في أكثر المجتمعات انفتاحا- لتعديد العلاقات، يكفيها رجلٌ واحد لآخر العمر، لكنها تتساءل دائما : أين هو ؟ نتكلّم عن الأعم الأغلب، ما يمكننا اعتباره القاعدة. بينما الجنس يسترعي نظر الرجل ويستحوذ على اهتمامه، فيما لا يعدو بالنسبة للمرأة أكثر من مجرد نتيجة مؤجلة، أي شيءٌ يحصل لاحقا، بحيث تقدّمه كمكافأةٍ لشريكها على صدقه أو وفائه. وحتى لو استعجلت به أحيانا، فهي لا تقدّمه إلا طُعْمَا يغري بالمزيد. ربما لحدْسِها الفطري أن الإكثار من الجنس سيضعف شغف الرجل بها، لكن لأنها تحبه وتتمسّك به، ستقتّر عليه جنسيّا، حتى تضمن دخوله القفص. بعدها تلجئ لأساليب أخرى لتحتفظ به.

     هل لنا أن نفسّر هذه النزعة، جندريا، بضعف مركز المرأة في المجتمع، ووعيها بضرورة وجود المعين إلى جانبها، بدليل بروزها -أي تلك النزعة- في المجتمعات التي تهمّش المرأة مقارنةً بالمجتمعات الأخرى التي تشيع فيها المساواة ثقافةً وممارسة. ولذا كان مشروع الحب -بالنسبة لها- مشروع حياة ومصير، أم أنها طبيعة المرأة وأساس تكوينها الفطري، بقطع النظر عن محيطها الاجتماعي الثقافي ؟ احتمالات .. عموما، يمكننا أن نخلص، بشيء من التجوّز، إلى أن جنوح المرأة نحو الحب عائدٌ لإحساسها بالفاقة والضعف، لكن لو تعمّقنا قليلا لوجدنا أن الحب في المجتمعات الحديثة ظلَّ محتفظا بموقعه في العلاقات بين الجنسين، رغم عزوف الناس عن الزواج، الأمر الذي يدل أن المرأة تحتاج الحب ليس لدوافع متعلّقة بالاستقرار الاجتماعي أو الأمان، وإنما هي طبيعتها النفسيّة كأنثى. فهي في الشرق تحتاجه لأسبابٍ أكثر من الأسباب التي تحتاجه نظريتها في الغرب. وعلى كلٍ، المرأة في الحب أنبل من الرجل وأقدس وأطهر. ولذا كانت أكثر وفاءً منه وصدقا وإخلاصا. هذا والله أعلم.