السبت، 20 ديسمبر 2014

الرقص مع النياق



     كثيرون يتخوّفون من مظاهر انبعاث القبيلة ونهوضها، والتي يرونها متجلّيةً في : مهرجانات مزاين الإبل، وقنوات الشعر النبطي، وتناصر أفراد القبيلة في دفع ديات بعشرات ومئات الملايين، الخ. هل لنا أن نستدل على أن القبيلة تتأهب لاسترداد مواقعها التاريخيّة بشيءٍ غير تلك المظاهر والفعاليات التي لا نعرف أين ستنتهي؟ قبل محاولة الجواب يجب أن نسجّل أن كل تلك المظاهر والفعاليات لا شك تحيي النُعرة القَبَليّة وتعزّز تماسك أفراد القبائل وشعورهم بذاوتهم الجمعية، وتحقّق الشروط التاريخية لتكوّن القبيلة من الأساس، الذي يتمثّل في العصبيّة بالمفهوم الخلدوني المعروف سوسيوجيا (يقول في مقّدمته : العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه، وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل. ومن صلتها النُعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيمٌ أو تصيبهم هلكة. فإن القريب يجد في نفسه غضاضةً من ظلم قريبه أو العداء عليه، ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك).

     هي رابطةٌ أساسها النسب (الدم)، وليس الإيديولوجيا، أو العقيدة، أو المذهب، أو حتى المصلحة في صورتها التعاقدية العقلانيّة الحديثة، من أجل هذا أعتقد أن القبيلة إلى زوال حتما، وما يطفو على السطح من تلك الفعاليات والممارسات، لا تعبّر إلا عن حنين مشبّع بالرومانسيّة، مجرد أخيلة متطايرة حول الماضي، تداعب بعض الجهلة من كبار السن، يجاريهم عليها شبيبةٌ تعاني من فراغ أو تبطّل أو فشل. لعلها تشبه الروح التي تعمُّ أفراد أسرة وهم وقوفٌ على ضريح جدّهم، فتقرّبهم لبعضهم أكثر، لكنها لن تخرج الميّت حيّا من قبره.

     بعبارةٍ أخرى، إن تلك الفعاليات والممارسات قد تشيع بعض التعاطف بين أفراد القبيلة، شعور ما بهويّة وانتماء، لكنها تظل من قبيل الهويّات الفرعيّة المتفسخة، لا يذهب معظمهم في تصعيدها أكثر من ذلك، سيّما وقد جرّبوا العيش في ظل كيانٍ أكثر أمانا ورغدا وفائدة، أعني الدولة. هذا بالنسبة لجيل الأباء، أما جيل الأبناء، فهم من صُنْع الدولة وعمل يدها. لذلك تبدو تلك الفعاليات القَبَليّة وكأنها محاولة عابثيّة لاستعادة النشء، الجيل الجديد، من قبضة وسائل  تعليم وتربية الدولة وإعادة دمجهم في القبيلة.

     القبيلة التي نسمع عنها في القصص، المستقلّة سياسيا واقتصاديّا، والتي تتمتّع بقوّة عسكريّة : تُعتبر في الحقيقة شيئا بائدا، وقد ماتت مع الملك عبدالعزيز، وربما قبل وفاته بقليل. وتحّللت جثّتها مع اكتشاف النفط في أربعينيّات القرن الماضي، حيث انبثَّ أفرادها وانتشروا في الجهاز الإداري والعسكري للدولة، ودارت بهم دواليبها، وصار لهم فيها مصدر رزق، غير سيوف ورماح والآباء والأجداد. كان توقّف القبيلة عن الغزو إيذانا باضمحلالها. ولذا استوطنت الهجر والقُرى، وكفّت حتى عن الارتحال وتتبّع القطْر في الفيافي، وتحوّل شيخُها إلى زعيمٍ رمزي، لا حاكم بصلاحيات.

     هل للقبائل نفوذ في أجهزة الدولة عبر الموظفين الذين ينتمون لها هناك، وبالتالي، هل يُعتبر هذا اختراقنا للدولة من جهة القبائل؟ سؤال كثيرا ما يُطرح بقلق.

     الذي أراه أن هؤلاء الموظفّين سيتخفّفون من الولاء للقبيلة وزعمائها بقدر استفادتهم من الدولة، خصوصا الموظّفون الكبار وأصحاب المناصب المرموقة. بل أذهب للقول بأن الدولة تُضْعِف سلطة شيوخ القبائل، بالتالي القبائل ككيانات، من خلال توظيفها أبناء القبائل ودمجهم في أجهزتها ومؤسساتها، ومن ثمَّ، استتباعهم وكسب ولائهم. فالولاء يتبع الرزق في النهاية، والمكانة مناطة بالدور. وهذا ما كانت القبائل تحفظ به وجودها ووحدتها بواسطة التعاون على الغزو والرعي وسواها من وسائل عيش الجماعة. فمن يملك وسائل الانتاج في أي مجتمع، سيحدّد علاقات أفراده. أي نظام الولاء والمراتب والطبقات، وما إلى ذلك. وأغزر وسائل الانتاج، بل كل وسائل الانتاج، بيد الدولة اليوم، فما الذي بيد شيخ القبيلة ليغري به أفراد قبيلته ليتبعوه إذا طاول الدولة ؟ لا شيء. هو يعرف ذلك، وهم أيضا يعرفون ذلك.

     لا أجادل بأن القبائل في مهرجاناتها واحتفالاتها اليوم، ربما (أقول ربما يحصل هذا أحيانا) تُرسل رسائل غير مباشرة للسلطة المركزيّة في الدولة، مضمونها أننا نريد أن تعطونا أكثر، لكن ليس فيها معنى التحدّي، ناهيك بالتلويح بالرغبة في الاستقلال عن الدولة مثلا. وأظن أن شيوخ القبائل يدركون أن الاقتراب من شيءٍ كهذا، لن يضع القبيلة في وجه الدولة وشعبها، لا أبدا، فقط سيُطيح بذلك الزعيم القَبَلي باعتباره أحمقا يجب استعباده عن التصدّر في محافل القبيلة. وأول من سيتصدّى له هم أفرادُ القبيلة، قبيلته، لن يلتزموا حتى بالحياد، سينحازون لمصدر الرواتب والمنح والعطايا، الدولة !

     طبعا هذا بالإضافة إلى أن المجتمع المعاصر آخذٌ في التمدّن أكثر فأكثر، وجوهر التمدّن هي الحداثة، وهي مجموعة قيم وأفكار مميتةٌ للقبيلة ككيان اجتماعي.