الأحد، 28 ديسمبر 2014

معك اشتراك؟ (تدوينة تحليليّة)

     

     هل جرّبت أن تتعطّل سياراتك في هجرة أو قرية؟ حتما ستلمس الفرق في تقديم يد المساعدة التي تتأخّر كثيرا في المدن. وأعتقد أنك ستبيت في الشارع لو كان السواد الأعظم من قاطني المدينة قد تشرّبوا قِيم الفرديّة، بمفهومها الحديث، الذي لا يعني شيئا سوى الأنانيّة، بإطارها التعاقدي النفعي المغلق، ذلك النوع من الارتباط الذي يحكم علاقات الافراد في المدن الكوزموبوليتية. لا يمكن لهذه الفرديّة أن تتحوّل لثقافة عامّة إلا بعد تفكّك الكيانات الاجتماعيّة التقليديّة (العائلة، القبيلة، الطائفة، الخ)، وانحلال روابطها القيميّة والأخلاقيّة الموروثة، والتي من ضمنها : المعاونة الطوعيّة (الفزعة مثلا)، أعني أساليب السلوك الذي تشدُّ الأفراد داخل تلك الكيانات، وتعزز تماسكها، وتمنحها السلطة عليهم، السلطة المعنويّة بالدرجة الأولى (أخلاقيات الجماعة التقليدية).

     لكون الفرد قد انصهر في المجموع، فإن حدود الذات وحدود الغير تبدو غامضة، غير واضحة المعالم. فاختلطت الحقوق بالواجبات، لتداخل الخاص والعام، حيث شؤون الفرد وشؤون الجماعة شيءٌ واحد، فمشكلتهم هي مشكلته، مثلما تغدو مشكلته مشكلةً يتداعون لها جميعا. ومن نتائج ذلك أن تكون المساعدة سلوك عفوي و"طبيعي"، ويومي أيضا.

     طالما استوقفتني نجدة أبناء القرى والبوادي، ومسارعتهم لتقديم العون، بل واعتذارهم "عن التقصير" فيما لو لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا في موقفٍ من المواقف. العمل الطوعي "واجب" في البيئات التقليديّة، بينما العمل الطوعي في المجتمع المتمدّن، الذي ترسّخت فيها الفردانيّة : يُعتبر "علاجا" لتداعياتها النفسيّة على الأفراد. وتنادي الناس إليها، ليس لفرط إحساسهم بمعاناة غيرهم، لا أعتقد ذلك، بل لأنهم ما عادوا يطيقون أنانيّتهم التي قذفت بهم في وحدةٍ سحيقة، لا تُحتمل. فصار العمل الطوعي بمثابة ضوءٍ يلوح لهم في آخر نفق الفردانيّة الخانق.

     أظن أن العمل الطوعي المعاصر مجرّد آلية يستعيد بها الفرد توازنه النفسي بالاندماج في الجماعة من جديد، الجماعة التي اكتسب فردانيّته بالانفصال عنها أصلا. هذا الانفصال أحدث أزمةً نفسيّة (قلق، اكتئاب، فراغ وجودي، وحدة كريهة، الخ)، ربما لأن الفرد تمرّد على غريزته، فثأرت الطبيعة منه وردّت اللطمة، إذ يظهر أن البشر وُجدوا قطعانا منذ القدم، كما يقول تاريخهم التطوري، بحيث تكون الفردانيّة -كقيم ومسلكيّات- عبارةً عن قضاءٍ مبرم على الجزء القطيعي في الإنسان. وهي كأي عمليّة جراحيّة تعقبها آلام ومضاعفات. ولذا كان العمل الطوعي المنظّم عملية استشفاء من آثار الانسلاخ من القطيع، أو من آثار حصر الحياة في حدود الذات. إنه بحث عن الدعم و"المساندة النفسيّة" : وهو مفهومٌ حديث يُشير إلى وضع أو حالة لا يمكن تصوّرها في القرية أو البادية، حالة مدينيّة بامتياز، نابعة من تفكّك البُنى الاجتماعيّة التقليديّة. لعلها متاعب الإنسان عندما قرّر "أن يقوم وحدَه" كما يقول هكسلي.

الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

أوهام الطموح (في نقد العزيمة والصبر)



     يُقال إن السعادة هي الغاية التي يتفق البشر في التطلع إليها، مهما اختلفت معتقداتهم وأفكارهم. تبقى غايتهم جميعا، وإن تعدّدت إليها طرقهم، وتباينت حولها تصوّراتهم الكلية. في بحثي عنها كأي إنسان، قرأتُ وسمعت الكثير. أمّلتُ ورجوت وحلمت وخطّطت وسعيت .. حالفني التوفيق أحيانا، وخالفني أحيانا أخرى. وما يزال دكّاني في سوق الحياة على مصراعيه مفتوحا. أجلس على بابه أساومُ الأيام وتساومني. والصفقات بيننا كرّات ودُوُل، لي وعلي. أمارس تجارتي اليوميّة، أبيع وأشتري، وفي رأسي الكثير من المشاريع التوّسعيّة في المستقبل. أخطّط أن أنوّع بضاعتي، وأستأجر المحل المجاور وأتمدّد فيه، شيئا فشيئا حتى أهيمنُ على دكاكين العمارة كلها، وهي الخطوة التي لن يليها سوى بسط النفوذ على أسواق المدينة، وربما البلد بأكمله. هكذا أحدّثُ نفسي وأنا أصبّرها على جفاف عتبة الدّكان التي أجلس عليها ! الحقيقة، لا ابتكار في الخطّة، فمن المعروف أن كثيرا من التجّار الكبار، بدؤوا بداياتٍ أقل بكثير من بداياتي. وعالي الهمّة أمامه الكثير من الكد والتعب، وقد قيل: " لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا ". أنا جاهز لتجرّع الصبر. أريد القبضَ على المجد حيّا، وبأي ثمن. أو أموت في الطريق إليه !

     وطّنت نفسي على تحقيق أحلامي الكبيرة، ويالها من أحلام ! وقرّرتُ -كأي شخص طَموح- أن أطوي فراش التراخي والكسل، فأصل عمل النهار بالليل، وأختصر الراحة مسهبا في التعب، كما لو أنني في سباقٍ مع الزمن على لحظةٍ خلود دائمة، أهزم بها الموت، فأضع حدّا لتناقص وجودي .. من شدّة استغراقي فيما أنشده وأتطلّع إليه : لم أعد أتعامل مع الحاضر إلا بوصفه ساعة عملٍ لا يمكن تأخيره، الراحة منه مؤجلّة لما بعد قطف الثمار وحصد المكاسب. هذه التي لا تأتي إلا آخرا، بعد أن يجف العرق وتُسترد الأنفاس. كما المرْجلُ رأسي، يغلي دائما بخيالات المجد والثراء والشهرة، فيشحذ عزيمتي لأستخفَ بالعقبات والمشاق .. لكن لحظة ! هل من المعقول أن نعيش حاضرنا ونحن أسرى مستقبلٍ قد يأتي كما نحب، وقد لا يأتي. فنرهنه كاملا دون ضمانة مؤكّدة !

     الماضي مجردُ ذكرى نختزنها. والحاضر هو ما نحياه الآن بوصفه حقيقةً معاشة تماما. والمستقبل ربما جاء ونحن غير موجودين على وجه الأرض .. الحاضر الذي نحياه ليس إلا تفاصيل يوميّة صغيرة عادةً. نتخيّل أنها الأجزاء المكوّنة لهيكل مستقبلنا حينما يكتمل. المفارقة، أن المستقبل المكتمل هذا وهْم خلّاب. لأنه إذا جاء كما خطّطنا ورتّبنا، فلن يكون سوى تفاصيل يوميّة بسيطة، لمستقبلٍ آخر أكثر اكتمالا. كل قمةٍ تبلغها تتحوّل فورا لسفْحٍ تحت قمّة أخرى أعلى. سرُّ السعادة ليس تحقيق الغايات النهائيّة والتربّع على القمم، إنما في عملية التحرّك للأعلى. أي مزاولة تلك التفاصيل اليوميّة البسيطة، عيشها بروحٍ غير مأخوذة بالنتائج والغايات أكثر مما ينبغي. إنها في الحد من طغيان ما سيكون (المستقبل) على ما هو كائن (الحاضر).

     لو تأمّلنا قليلا، لوجدنا أن أكثر سعادتنا مذخورةٌ في تفاصيل يوميّاتنا الصغيرة، التي ربما تقاسمناها مع الآخرين : فنجان قهوة، قطعة حلوى، دردشة دافئة، أغنيّة فيّاضة، مشوار مشيا على الأقدام، مغازلة أنيقة ، الخ. إن لم تعش حاضرك بكامل سعته من البهجة والسرور، فأنت إما أسير ماضٍ لن يعود، أو مستقبل ربما لن يأتي. مستَلبٌ لزمنٍ ما .. عِشْ لحظتك، الآن وحالا، ولا تؤجل بهجة اليوم للغد. وكنْ على يقين أن من يبتكر لحظته، ويتفنّن في صياغتها وتجميلها، أكثر ذكاءً وحكمة ممّن يستهلك حاضره وينفقه، في إحْكام الخطط واتّخاذ التدابير لاقتناص لحظةٍ ما تزالُ في ضمير الغيب. والعاقل لا يدعُ يقينا لظن.


السبت، 20 ديسمبر 2014

الرقص مع النياق



     كثيرون يتخوّفون من مظاهر انبعاث القبيلة ونهوضها، والتي يرونها متجلّيةً في : مهرجانات مزاين الإبل، وقنوات الشعر النبطي، وتناصر أفراد القبيلة في دفع ديات بعشرات ومئات الملايين، الخ. هل لنا أن نستدل على أن القبيلة تتأهب لاسترداد مواقعها التاريخيّة بشيءٍ غير تلك المظاهر والفعاليات التي لا نعرف أين ستنتهي؟ قبل محاولة الجواب يجب أن نسجّل أن كل تلك المظاهر والفعاليات لا شك تحيي النُعرة القَبَليّة وتعزّز تماسك أفراد القبائل وشعورهم بذاوتهم الجمعية، وتحقّق الشروط التاريخية لتكوّن القبيلة من الأساس، الذي يتمثّل في العصبيّة بالمفهوم الخلدوني المعروف سوسيوجيا (يقول في مقّدمته : العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه، وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل. ومن صلتها النُعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيمٌ أو تصيبهم هلكة. فإن القريب يجد في نفسه غضاضةً من ظلم قريبه أو العداء عليه، ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك).

     هي رابطةٌ أساسها النسب (الدم)، وليس الإيديولوجيا، أو العقيدة، أو المذهب، أو حتى المصلحة في صورتها التعاقدية العقلانيّة الحديثة، من أجل هذا أعتقد أن القبيلة إلى زوال حتما، وما يطفو على السطح من تلك الفعاليات والممارسات، لا تعبّر إلا عن حنين مشبّع بالرومانسيّة، مجرد أخيلة متطايرة حول الماضي، تداعب بعض الجهلة من كبار السن، يجاريهم عليها شبيبةٌ تعاني من فراغ أو تبطّل أو فشل. لعلها تشبه الروح التي تعمُّ أفراد أسرة وهم وقوفٌ على ضريح جدّهم، فتقرّبهم لبعضهم أكثر، لكنها لن تخرج الميّت حيّا من قبره.

     بعبارةٍ أخرى، إن تلك الفعاليات والممارسات قد تشيع بعض التعاطف بين أفراد القبيلة، شعور ما بهويّة وانتماء، لكنها تظل من قبيل الهويّات الفرعيّة المتفسخة، لا يذهب معظمهم في تصعيدها أكثر من ذلك، سيّما وقد جرّبوا العيش في ظل كيانٍ أكثر أمانا ورغدا وفائدة، أعني الدولة. هذا بالنسبة لجيل الأباء، أما جيل الأبناء، فهم من صُنْع الدولة وعمل يدها. لذلك تبدو تلك الفعاليات القَبَليّة وكأنها محاولة عابثيّة لاستعادة النشء، الجيل الجديد، من قبضة وسائل  تعليم وتربية الدولة وإعادة دمجهم في القبيلة.

     القبيلة التي نسمع عنها في القصص، المستقلّة سياسيا واقتصاديّا، والتي تتمتّع بقوّة عسكريّة : تُعتبر في الحقيقة شيئا بائدا، وقد ماتت مع الملك عبدالعزيز، وربما قبل وفاته بقليل. وتحّللت جثّتها مع اكتشاف النفط في أربعينيّات القرن الماضي، حيث انبثَّ أفرادها وانتشروا في الجهاز الإداري والعسكري للدولة، ودارت بهم دواليبها، وصار لهم فيها مصدر رزق، غير سيوف ورماح والآباء والأجداد. كان توقّف القبيلة عن الغزو إيذانا باضمحلالها. ولذا استوطنت الهجر والقُرى، وكفّت حتى عن الارتحال وتتبّع القطْر في الفيافي، وتحوّل شيخُها إلى زعيمٍ رمزي، لا حاكم بصلاحيات.

     هل للقبائل نفوذ في أجهزة الدولة عبر الموظفين الذين ينتمون لها هناك، وبالتالي، هل يُعتبر هذا اختراقنا للدولة من جهة القبائل؟ سؤال كثيرا ما يُطرح بقلق.

     الذي أراه أن هؤلاء الموظفّين سيتخفّفون من الولاء للقبيلة وزعمائها بقدر استفادتهم من الدولة، خصوصا الموظّفون الكبار وأصحاب المناصب المرموقة. بل أذهب للقول بأن الدولة تُضْعِف سلطة شيوخ القبائل، بالتالي القبائل ككيانات، من خلال توظيفها أبناء القبائل ودمجهم في أجهزتها ومؤسساتها، ومن ثمَّ، استتباعهم وكسب ولائهم. فالولاء يتبع الرزق في النهاية، والمكانة مناطة بالدور. وهذا ما كانت القبائل تحفظ به وجودها ووحدتها بواسطة التعاون على الغزو والرعي وسواها من وسائل عيش الجماعة. فمن يملك وسائل الانتاج في أي مجتمع، سيحدّد علاقات أفراده. أي نظام الولاء والمراتب والطبقات، وما إلى ذلك. وأغزر وسائل الانتاج، بل كل وسائل الانتاج، بيد الدولة اليوم، فما الذي بيد شيخ القبيلة ليغري به أفراد قبيلته ليتبعوه إذا طاول الدولة ؟ لا شيء. هو يعرف ذلك، وهم أيضا يعرفون ذلك.

     لا أجادل بأن القبائل في مهرجاناتها واحتفالاتها اليوم، ربما (أقول ربما يحصل هذا أحيانا) تُرسل رسائل غير مباشرة للسلطة المركزيّة في الدولة، مضمونها أننا نريد أن تعطونا أكثر، لكن ليس فيها معنى التحدّي، ناهيك بالتلويح بالرغبة في الاستقلال عن الدولة مثلا. وأظن أن شيوخ القبائل يدركون أن الاقتراب من شيءٍ كهذا، لن يضع القبيلة في وجه الدولة وشعبها، لا أبدا، فقط سيُطيح بذلك الزعيم القَبَلي باعتباره أحمقا يجب استعباده عن التصدّر في محافل القبيلة. وأول من سيتصدّى له هم أفرادُ القبيلة، قبيلته، لن يلتزموا حتى بالحياد، سينحازون لمصدر الرواتب والمنح والعطايا، الدولة !

     طبعا هذا بالإضافة إلى أن المجتمع المعاصر آخذٌ في التمدّن أكثر فأكثر، وجوهر التمدّن هي الحداثة، وهي مجموعة قيم وأفكار مميتةٌ للقبيلة ككيان اجتماعي. 


الاثنين، 8 ديسمبر 2014

العمالة كشعب !

     

     بلغ عدد العمالة الوافدة المسجّلة لدى الجهات الرسميّة حوالي ثمانية ملايين (وجودهم شرعي نظاما)، ويذكر بعض الباحثين أن غير المسجّلين حوالي أربعة ملايين منتشرين في طول البلاد وعرضها (وجودهم غير شرعي نظاما)، فالمجموع إذن اثنا عشر مليونا .. أميل شخصيّا إلى أنهم أكثر، لا أصدّق الأرقام الرسميّة، ولدي قناعة مستقّرة أن الأجانب تخطّوا -بالمجمل- حاجز الخمسين بالمائة من سكّان المملكة، وجولة واحدة في الأسواق الكبيرة والصغيرة والشوارع التجاريّة، في المدن كلها، تكشف بوضوح أن السعوديين يكادون أن يتحوّلوا إلى أقلّية في بلدهم وسط طوفان الأجانب الذي اكتسح القطاع الخاص وتجارة التجزئة والخدمات. والمثير للاستغراب أننا نعاني بطالة، حيث تزداد بشكل مضطرد سنويّا أعدادُ حملة الملفّات الخضراء (العلّاقيّة) الذين اعتادوا التشمّس والتدخين والثرثرة على أبواب الوزارات صباحا !
                
     كان غازي القصيبي يقول : "لدينا ستة ملايين وظيفة متاحة للسعوديّين، لكنها الآن مشغولة بأجانب". من الواضح أن الأمور ساءت أكثر، فازداد الأجانب من جهة والعاطلون من جهة أخرى، والضحيّة الاقتصاد الوطني، ما سينعكس على الحالة المعيشيّة للمواطن .. إنهم يقاسمونكم خيرات بلدكم من دون أن يضيفوا لرأسماله (الدخل القومي) شيئا. يمتصّون حتى المساعدات الحكوميّة التي تتدارك بها -بين فينة وأخرى- غضبتكم من أمرٍ ما. إذ الأجانب هم التّجار الذين تشترون منهم أصلا. وكلما أثرى منهم واحد، جلبَ أقاربه ومعارفه من جبال صنعاء أو عمق الصعيد الجوّاني، ونشرهم في فروعه الجديدة (التي يشتري منها العاطل ملفّه العلاقي، ويفطر فيها قبل الذهاب للوزارة!)

     لا جديد بأن ثقافة العمل لدينا معطوبة ويحتاج إصلاحُها لوقتٍ قد يطول، لكن ترك الأمور هكذا ليس هو الحل. وإن كنا سنتكلّم عن ثقافة، فأعتقد أن الحكومة هي من يملك وسائل التغيير الثقافي، وفي النظم الشموليّة (غير التعدّدية كنظامنا) الشعبُ مجرّد منتَج حكومي. لا أدري هل ألوم المواطن السعودي على إيمانه الخرافي الكسول بأن الحكومة هي مصدر الرزق الأوحد، أم ألوم الحكومة التي لا تريد أن تغيّر من طبيعة اقتصادها الريعي، الذي صِيغ في ظلّه وعيُ مواطنها وعليه تطبّع ! على كل حال، سيأتي اليوم الذي فيه تكتشف الحكومة أنها لم تعد قادرة على الإنفاق المباشر على أفراد شعبها، بواسطة توظيفهم في مؤسساتها (هي تعرف أنهم لا يقدّمون شيئا، لأن أكثريّتهم عبارة عن بطالة مقنّعة). حينها إما أن تُوجِد بنيةً تحتيّة لقطاع خاص وطني حقيقي (من ضمن ذلك العملُ على تصفية الوجود الأجنبي)، يستوعب أفواج الخريجين، وإلا فإن عليها أن توجد أجهزةً أمنيّة كبيرة متخصّصة لمكافحة الشغب، فالعاطلون هم وقود الثورات، الأمر الذين يعني أن نسبة الأجانب في بلدنا، ربما ستحدّد مستقبل نظامنا السياسي برمّته. ولذا كانت هذه المسألة وثيقة الصلة باستقرار بلدنا ووحدته، أي بالغة الخطورة جدّا.


الأربعاء، 3 ديسمبر 2014

مدنّسون وطاهرات (تأمّلات في الحب)


    في الحب، هل ما تريده المرأة من الرجل، هو نفسُه، ما يريده الرجل من المرأة ؟

     حينما يجتمع الحبيبان عادةً يكون الحب هو الموضوع الأثير بينهما، حيث يتبادلان الشكوى من اشتياقا ولهفةً، فيتراوح الحديث حول محورٍ واحد في النهاية، هو الانتظار المنهك حتى ساعة اللّقاء. كل الكلام تقريبا مجرد مقدّمات أو مبرّرات أو تفسيرات لتلك الحال. وغالبا يُحكى بأسلوبٍ شاعري آخّاذ. وكم يحلو للعشيقين أن يعلنا دائما، بمناسبة وبدونها، عجزهما عن التعبير عمّا يضطرم بين جوانحهم، من فرط التعلّق. وربما قال أحدهما للآخر في لحظةٍ غامرة : أتعرف هذا الذي تقول إن العبارة تضيق عن نقله كاملا كما تشعر به ؟ إنه لفي صدري نحوك، وإنني أقاسي العجز الذي تقاسيه عندما تعاني نقله لي. كأننا يا حبيبي نحاول اغتراف الفضاء بملعقة، اللغات قاصرة عن معاني القلوب ! 

     هل المضمون واحد عند كليهما، بدليل عجزهما سويّا عن التعبير عنه ؟

    كونهما ممتلآن مشاعر طاغيّة، هي حقيقة. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن مشاعر المرأة في الحب، هي نفس مشاعر الرجل في الحب. حتما هنالك قدرٌ مشترك بين حبه وحبها، مثلما هنالك اختلافاتٌ قلَّ أن ننتبه إليها، وربما نعثر عليها في أغراض الحب وغاياته. أقول ربما.

     عادةً يُولد الحب تائها أعمى، بلا مقاصد واضحة. أي بلا خارطة طريق محدّدة بدقة .. الحب يشبه المرض الذي لا تشعر بأعراضه بشكلٍ واضح إلا بعد أن يقطع شوطا في التمكّن منك، حينما يستفحل. المفارقة، أن خطط المحبّين المستقبليّة، ليست سوى محاولات للتعايش مع هذه العِلّة التي استحكمتْ، لا للاستشفاء منها. نحن لا نفكّر بمصير العلاقة ومآلاتها بشكلٍ جدّي إلا بعد أن نعي أننا قد تورّطنا فيها فعلا، ليكون السؤال الملحُّ : ما العمل الآن ؟ أظن أنه عند هذا السؤال يتحدّد الفرق بين حب المرأة وحب الرجل. قبلَه كان الحب واحدا تقريبا. وبعدَه أخذ كلُ حبٍّ طابعَه الجنسوي الخاص (الجندري).

     تبحث المرأة في الحب عن الاحتواء والأمان والاستقرار، ولذا تطمح لتخليده بواسطة الزواج والإنجاب. لا تميل المرأة -حتى في أكثر المجتمعات انفتاحا- لتعديد العلاقات، يكفيها رجلٌ واحد لآخر العمر، لكنها تتساءل دائما : أين هو ؟ نتكلّم عن الأعم الأغلب، ما يمكننا اعتباره القاعدة. بينما الجنس يسترعي نظر الرجل ويستحوذ على اهتمامه، فيما لا يعدو بالنسبة للمرأة أكثر من مجرد نتيجة مؤجلة، أي شيءٌ يحصل لاحقا، بحيث تقدّمه كمكافأةٍ لشريكها على صدقه أو وفائه. وحتى لو استعجلت به أحيانا، فهي لا تقدّمه إلا طُعْمَا يغري بالمزيد. ربما لحدْسِها الفطري أن الإكثار من الجنس سيضعف شغف الرجل بها، لكن لأنها تحبه وتتمسّك به، ستقتّر عليه جنسيّا، حتى تضمن دخوله القفص. بعدها تلجئ لأساليب أخرى لتحتفظ به.

     هل لنا أن نفسّر هذه النزعة، جندريا، بضعف مركز المرأة في المجتمع، ووعيها بضرورة وجود المعين إلى جانبها، بدليل بروزها -أي تلك النزعة- في المجتمعات التي تهمّش المرأة مقارنةً بالمجتمعات الأخرى التي تشيع فيها المساواة ثقافةً وممارسة. ولذا كان مشروع الحب -بالنسبة لها- مشروع حياة ومصير، أم أنها طبيعة المرأة وأساس تكوينها الفطري، بقطع النظر عن محيطها الاجتماعي الثقافي ؟ احتمالات .. عموما، يمكننا أن نخلص، بشيء من التجوّز، إلى أن جنوح المرأة نحو الحب عائدٌ لإحساسها بالفاقة والضعف، لكن لو تعمّقنا قليلا لوجدنا أن الحب في المجتمعات الحديثة ظلَّ محتفظا بموقعه في العلاقات بين الجنسين، رغم عزوف الناس عن الزواج، الأمر الذي يدل أن المرأة تحتاج الحب ليس لدوافع متعلّقة بالاستقرار الاجتماعي أو الأمان، وإنما هي طبيعتها النفسيّة كأنثى. فهي في الشرق تحتاجه لأسبابٍ أكثر من الأسباب التي تحتاجه نظريتها في الغرب. وعلى كلٍ، المرأة في الحب أنبل من الرجل وأقدس وأطهر. ولذا كانت أكثر وفاءً منه وصدقا وإخلاصا. هذا والله أعلم.


الثلاثاء، 25 نوفمبر 2014

المفاتن كسراب



     المجرّب يعرف أن الصور التي تنشرها وكالات السياحة عن الأماكن السياحيّة مضلّلة، بنسبةٍ تصل في كثيرٍ من الأحيان إلى 70 %. لأنها ببساطة ترويجيّة، دعايّة مثل أي دعايّة، هدفُها تسويق المنتَج. ولأنه منتَج كأي منتج، فثمّة -لجذب الناس إليه- صناعةٌ ما، هي صناعة الدعاية والإعلان. هنالك إضافات فوقَ الواقع (المنتج، السلعة، .. إلخ) المراد تسويقه، إذ لو قُدّم هذا الواقع (المنتج، السلعة، .. إلخ) كما هو حقيقةً، لما استقطبَ كثيرا. لأنه إن لم يكن عاديّا، فهو قريبٌ من العادي. يبدو أن فكرة الدعايّة قائمة على إقناع الناس أن هذا المنتج غير عادي، بالتالي، تُقاس فعاليّتُها ونجاحها كدعاية في الطلب غير العادي، على هذا العادي! كما تُقاس الخديعة (أو الوهم) بالفجوة التي تخلُقها بين حقيقة الشيء وصورته في الدعايةكل ما تفعلُه الدعاية أنها تغرس فينا وهم الحاجة أو تثيرها بفنون العرض المغري.
     
      قد يكون التفكير في هذه الرغبة المصطنعة أو المستثارة سبيلا إلى اكتشاف حقائق جديدة عن الدعايّة وصورها، بافتراض أن الأولى (الرغبة) مجرد نتيجة للثانيّة (الدعاية). عموما، هنالك مجالات واسعة للبحث والتأمّل. لكن أليس صحيحا أن كثيرا من حاجاتنا تتولّد من "دعايات" ما، تفد إلينا من غير طريق وكالات الدعاية والإعلان، وبأهداف ليست ماديّةً بالضرورة، كالعشق والإعجاب مثلا ! الجدير بالذكر أن هذه "الدعاية" تفعل في النفس قريب مما تفعله تلك الدعاية التقليديّة، كما بها من الزيف والإيهام قريبا مما فيها، اللهم أن هذه أكثر بساطة، ذلك أن عمل الأفراد غير المحترفين، ليس كعمل الوكالات المحترفة.

     لاحظْ عندما تخرج لرحلة بريّة، كيف أنك تتخيّر الأماكن التي تلتقطها عدسة تصويرك، وبزوايا وأوضاع معيّنة. وكذلك من يذهبون للمطاعم أو المنتزهات، لا يجيلون عدساتهم في المكان، هكذا كيفما اتفق، لا، بل ينتقون الأفضل، وبدقّةٍ متناهية. وكذا من يصوّرون ذواتهم، حيث يعتنون بالصورة، بكافّة تفاصيلها، بحسب الذين ستُعرض عليهم، كثرةً ونوعيّة. تعطيك الصورة جزءا، وتترك الباقي (غير المعطى) لخيالك المفتتن بذلك الجزء. الكل يخفي أشياء (العيوب) ويبرز أشياء (المميّزات). أي يمارس تسويقا ما. فإن كان الهدف الكسب المادي، فهي تجارة. وإن كان من أجل كسب ثناء المعجبين، فهو الرياء والمفاخرة ونحوها. الجميع إذن مشارك في اللّعبة، خادعٌ ومخدوع، لأنه يقدّم صورةً عنه وعن واقعه، تفوق الحقيقة، كثيرا ما تكون زائفةً أو مضلّلة. الغريب أن الأكثرين يتبادلون المقالب، وبوعي !

     طبعا هذا لا يعني أن واقع الأشخاص عموما سيء أو قبيح، إنما يعني أنه أقل مما يتظاهرون به بدرجاتٍ تتفاوت بين شخصٍ وآخر. لكنهم -في المجمل- أقل منها، بلا شك. نظرة عامّة إلى حسابات أنستغرام توحي أن الجميع تقريبا غارقون في حياة النعيم والترف.

     لو تأمّلنا هنا مليّا، لربما تكشّفت لنا حقائق الافتتان بالأشخاص أو الأشياء، وأنها نابعة من خيالاتٍ وأوهام، بدليل أننا إذا اقتربنا أكثر من تلك "الفتن" وعايشناها، لزالت الغشاوة وصحا العقل من سكْرات التعلّق والرغبة والاشتهاء، ولربما فهمَ أن سرِّ الافتتان بالشيء، هو غموضه أو الجهل به. على هذه الجهالة والغموض تعتاش الدعايّات، وتفرّخ الأوهام، وتنتشر الأضاليل. هذا يقودني إلى الزعم بأن فهم الإنسان كثيرا ما يورثُه رضى وقناعةً وغبطة هادئة.




الاثنين، 24 نوفمبر 2014

كيف يموت الحب



     لكل شيء عمرٌ افتراضي، خصوصا البشر وما يتعلّق بهم، كالحب مثلا، هذا الذي يبدو انتهاءَه أحيانا وكأنه شاذ أو خارج عن الطبيعة. كالموت، يفرضُ الحب المنقضي نفسه علينا، فنتلقّاه مكلومين كما نتلقّى مصيبة الموت. كالبشر، الحب يُولد، فيشب، فيهرم، فيشيخ. تتعاوره الأسقام، فيُشفى منها مستردّا عافيتَه كلها أو بعضها، لكنه -في النهاية- يموت. هو الحب كما هي الحياة، كل شيءٍ فيها بالنسبة لنا مؤقّت، لأننا فيها مؤقّتون أصلا. إذا ماتَ الحب بيننا كيف نصنع؟ ببساطة، نحسن تشييعه لمثواه الأخير، في ذاكرتنا. ندفنُه هناك حتى لا ننساه، ذلك أن كرامة الحب إذا تُوفّي هي استذكارُه بوفاء. ثم اقتسام تركته ودَّا وصداقةً وتعاطفا. هذه هي ثمرة الحب التي تبقى، نقتطفها بعده، ربما زمنا طويلا.

     موت الحب لا تعني بالضرورة تعثّره أو فشله، فقد يموت لأنه استنفد عمره، وعاش كما ينبغي أن يعيش، في حدود طبيعته. كأي شيء متناهي وسينفد. لهذا لا يجب أن تُبنى الارتباطات المؤبدة (كالزواج) على الحب وحدَه، لأن حياته -مهما طالت- لن تكون بطول حياة الزوجين. أقصر بكثير. وإن جعلا الاستمرار معا مرهونا بالحب، مشروطا بوجوده، فلا يعني هذا سوى أنهما قد قرّرا سلفا أن يُحدّدا للزواج أمدا قصيرا نسبيا. وهذا مصير من يضعون الزواج غايةً للحب.

     عادةً يريد هؤلاء بالزواج وضعَ إطار شرعي للعلاقة. لا يفكّران بأكثر من "الحلال" والمباركة الاجتماعيّة لارتباطهم. ومن يتذاكون قليلا، فيعكسون الآية، بجعل الحب غاية الزواج وهدفَه، فإنهم في الحقيقة يحوّلون، مع مرور الوقت، عُشَّ الزوجيّة إلى غرفة "إنعاش حب"، مرهقة ودائمة. يمضون معظم حياتهما في عمل المستحيل، وهو ألا يلفظ الحبُّ أنفاسه الأخيرة على فراشهم ! أعتقد أن أفضل ما يقدّمه الحب، هو أن يؤسس لعلاقةٍ أخرى، ترثه، أكثر عقلانيّة، تقوم على التفاهم المتبادل. خلافا للحب، هذا الذي علينا أن نتعامل معه كمرحلة وحسب. كاللّذة المصاحبة لكل جديد، ما دامَ جديدا. إن علاقة الحببين كعلاقة الصديقين، يستمتعان ببعضهما أول الأمر، ثم يتعاونان للاستمتاع بأشياء أخرى. إنه الرُفقة إذن.

     ما يتناقلُه الرواة مشافهةً أو في بطون الكتب، عن قصص "الحب الخالد"، كقيس وليلى، جميل وبُثينة، كُثيّر وعزّة، وغيرهم، أراه محل شكٍّ كبير من حيث ثبوته، هذا أولا. ثانيا، من حيث مضمونه، إذ تبدو تلك القصص شذوذا عن القاعدة، أمور لا تُصدّق قياسا بالمعهود من حال الناس. وثالثا، أنها كلها لم تتوّج بزواج، ما لعله يخفف من غرائبيّتها. فلو قُيّض لأولئك المتفانين في عشقهم أن يسكنوا بيت الزوجيّة سويّةً، لماتت قصصهم خلف أبوابه. كما أن النهايات المأساويّة، ربما هي التي كتبت الخلود لأصحابها. فذلك الحب طال عمره، لا لشيءٍ، سوى أنه أُجهض !

     فائدة الحب للزواج أنه يتيح فرصةً لتعارف دافئ، يقرّب أحدهما للآخر جدا، مما يسمح له باستكشافه بصورةٍ أفضل. لكن مشكلته أنه شاعري، يسلب الألبابَ أحوجُ ما يكون إليها شخصٌ بصدد تقرير مستقبله مع شخصٍ آخر، مدى الحياة، ولأن احتمالات الإنجاب واردة جدا. وهذه مسئوليّة لا يُنتظر من سُكارى بخمر الحب التيقّظ لها. بعبارةٍ أخرى: الحب أعمى، بحيث لا يصلح مرشدا في رحلة زواج طويلة.

     في المجتمعات المنفتحة تبدو الأمور أسهل وأكثر بساطة، متى ما جمع الهوى بين اثنين، تصاحبا تحت الشمس. فإذا شبعا وأدركهما الملل، أطلقَ كلُ واحدٍ منهما ذراع الآخر في الهواء. لا زواج ولا ذريّة. البعض منّا يقرأ أخبار المشاهير منهم، ويستغرب من ارتباطاتهم العاطفيّة وانحلالها السريع، كيف أنها متعددة وكثيرة ! وهذا هو الوضع الطبيعي في نظري، لأنها علاقات حرّة، تُرك مصيرها بيد الشغف والرغبة وحدها، وهي متقلّبة بطبيعتها، بنسبةٍ تختلف من شخصٍ لآخر. كما أن عامل "الحلال" والمباركة الاجتماعيّة والرغبة في الإنجاب، تقريبا مفقود هناك، لأسبابٍ معروفة. إضافةًَ إلى أن الزواج لا يُعتبر، بالنسبة للمرأة، شرط استقرار وعامل أمان، لأن مركزها في المجتمع قوي أساسا.

الخميس، 20 نوفمبر 2014

حول مواقع التواصل الاجتماعي (تأمّلات تنقصها السياسة)



     الشيء الذي أعطته مواقع التواصل الاجتماعي للناس هو "التشارك"، بحيث تنخرط معهم بمجرد افتتاحك لحساب فيها، فإذا أنت في خضمّهم. هذه المواقع أنواع، أعرقها الفيسبوك، بحوائطه الفسيحة، التي تزدري الإيجاز. جاء بعده العيّي الشحيح : تويتر، وليس في جعبته سوى مائة وأربعين حرفا لا أكثر، بعدها تُسحب الورقة. فتكسّرت أقلامٌ اعتادت الإطناب والاستفاضة. لكن لم يلبث أن غرّدَ على أغصانه -أي تويتر- الذئبُ والبعير والدجاجة. ثم ظهر أنستغرام، فذهب في الإيجاز حدَّ إلغاء الكلمة نفسها، فأحلَّ الصورة محلَّها بالكامل، وصارت هي المتن الأساسي. الفوتوغرافيا هي معجم أنستغرام، ولذا كانت لغته موحّدةً على مستوى العالم. فتستطيع أن تتصفّح حسابات صينيّين مثلا من غير أن تعرف كلمةً صينيّة واحدة. طبعا هنالك موقع شهير نوعا ما، اسمه ساوندكلاود، يعتمد على الصوت. يمكننا أن نضعه حيث نضع الصوت بين الكلمة المسيّجة بلغة خاصّة، والصورة المطلقة العِنان في فضاء البصر. ذلك أن الصوت فيه من خصوصيّة اللّغة وعموميّة الصورة، ربما لأن معجمه هو الموسيقى.

     هل هذه المواقع مجرد موضات عابرة ؟ إذا اعتبرنا أن ظهور السيارة كان موضةً عابرة، فهذه المواقع هي إذن موضة عابرة. نعم، قد يفقد تويتر مثلا زخمه مع الوقت، تاركا المجال لموقع آخر يأخذ مكانه. أعني أن فكرة التواصل الاجتماعي ستظل باقية، الذي سيتغيّر هي المواقع وصيغ العرض ومضامينه، وما إلى ذلك. على أيّة حال، أعتقد أن هذه المواقع ثورة تقنيّة ومعرفيّة وذوقيّة هائلة، حدث مفصلي في تاريخ الوعي الاجتماعي والثقافي على مستوى العالم. يُقال إن اختراع الطباعة قلبَ أوروبا رأسا على عقب، وأظن أن مواقع التواصل الاجتماعي ستقلب العالم. كيف؟ وإلى أين؟ هذا موضوع أكبر من إمكانيّات مقالة، سأتحدث فقط عن أنستغرام أكثر وساوندكلاود أقل، كلاما لو غيّر القارئ فيه بعضَ الشيء، لانطبقَ على الفيسبوك وتويتر، أو مجمل مواقع التواصل الاجتماعي.

     للصورة محتوى ودلالة كالكلمة. وإن عرضها صاحبها للفُرْجة، فهي حتما ستعبّر عنه. بل أظن أن اعتزامه مسبقا أن ينشرها سيؤثّر في محتواها، ذلك أنه يريد بواسطتها أن يقول شيئا. ينطبق هذا على الصوت المنتقى في ساوندكلاود، الأغاني أو المقطوعات التي تعرضها تعبّر عنك، تريد أن تقول بها شيئا. مكوّنات الصورة والأغنيّة ليست من ابتكارنا، هي أشياء نجدها مكتملةً، ثم نستخدمها. ربما لهذا لا تبلغ شهرة المصوّر، مهما كان مبدعا، خُمْس أو عُشْر شهرة المغنّي أو الأديب. صحيح، هنالك فرق بين المصوّر البارع الفنّان، وبين المستمع الذوّاقة، فالأخير لا يعدو أن يكون مستقبِلا رائعا وحسب، بخلاف الأول، إذ يبدو منتجا، ثمّة إضافة لديه. وبالتأكيد، من بيده كاميرا لديه لمسات خاصة، يفتقدها واضعُ السمّاعات بأذنيه. ولذا كان جمهور ساوندكلاود مغمورين، وأعتقد أنه الموقع الوحيد، بين مواقع التواصل الاجتماعي، الذي يخلو من مشاهير. طبعا هذا افتراض قادني إليه التحليل، لم أتحقّق منه. المهم، قارنْ بين الشعبيّة التي تحضى بها مهرجانات الطرب والأدب وجوائزها، بتلك المعنيّة بالفوتوغرافيا. ولا أعرف إن كان هنالك من جائزة لأفضل سمّيع !

     لاحظت أن الفجاجة العامّية في ساوندكلاود أقل، ولم أجد لهذا تفسيرا سوى أن جمهوره لا يعبّرون عن أنفسهم سوى بأشياء ليست من صنعهم، أغاني أو مقطوعات، وأحيانا محاضرات. وسيلتك في التعبير تكشفك أكثر، بقدر تدخّلك في تكوينها. ولذا كان المرء -كما يقول العرب- مخبوءٌ تحت لسانه. لا شيء يدل عليك كالكلمة. وهذا ما جعل فيسبوك وتويتر يعجُّ بالتفاهة. في أنستغرام وساوندكلاود الأمر يختلف. كم أُعجبت بشخصٍ في   ساوندكلاود بسبب اخياراته الرائقة، وكم دُهشت وأنا أتصفّح حسابه في أنستغرام، فأتوقّف فورا عن دخول حساباته في تويتر وفيسبوك، كي لا أخسره !

     ختاما، الرسالة التي أود أن تصل لجمهور أنستغرام، هي أن الأنيق ليس بالضرورة هو الفخم. وإن صحَّ ما يقوله بارت بأن "الصورة تكرّر ميكانيّكا ما لا يتكرر وجوديّا"، فأنتم غارقون في الهياط بصورةٍ مذهلة.. ولغوغاء تويتر : بسببكم أمنتُ بالحكومة بعد كفر.. ولسمّيعات ساوندكلاود قبلاتي التي من الصعب أن تكون أخويّة ونحن في مطلع الشتاء.


الثلاثاء، 11 نوفمبر 2014

الشغفُ رعبا



     مهما قيل، فأظن أن الولع بأفلام الرعب الدموي سلوك غير سوي، منافٍ لطبيعتنا في الركون لكل ما يشعرنا بالأمان والسلامة، وتفتيشنا (المضني أحيانا) عمّا ينفّس عنا ويبعث على الابتهاج، ونفورنا من العكس. ولا أستبعد أن هذا الشغف الغريب ينطوي على نوازع إجراميّة كامنة في الشخص، قابعة في أعماقه، حيث يستعيض عن ممارسة القتل والتعذيب بالتلذذ بمشاهدته، كما يستعيض الشَبِقُ بمتابعة أفلام السكس عن الممارسة، إذا استعصت عليه كما يشتهيها، ولأسباب مَدَنيّة خالصة. فرويد يقول إن نوازع البشر يتنازعها الشبق والعدوان.

     لعلماء النفس آراء متعدّدة حول هذه الظاهرة، فمنهم من يرى أن هؤلاء يستمتعون بالتغيّرات الفسيولوجيّة الحادة التي تطرأ عليهم أثناء تعرّضهم للرعب. آخرون يذهبون إلى أن المتعة المنتظرة، خصوصا لدى المراهقين، لا تحصل إلا بعد الموقف المرعب، لشعورهم أنهم قد صمدوا وانتصروا على الخوف. بمعنى أن الرعب أداة للاختبار، لا للمتعة. فريق ثالث يقول إن الباحثين عن الفزع همُّهم هو الخروجُ من رتابة حياتهم اليوميّة، حيث يجدون فيه، أي المفزع (أفلاما، ألعابا، نشاطات، الخ) حجرا كبيرا، يُلقون به في بحيرة حياتهم الراكدة. المسألة تغيير إذن، خروج عن عادتهم المألوفة. هنالك تفسيرات أخرى، من أكثرها غرابةً، في نظري، الزعمُ بأن هؤلاء، بينما يحبسون أنفاسهم هلعا أمامَ المشاهد المريعة، تملؤهم غبطةٌ خفيّة بأنهم في مأمنٍ مما يرونه. هنا متعتُهم !

     لا أدري إن كان هنالك من فسّر إدمان مشاهدتها تفسيرا مازوخيّا، حيث يستمتع الشخص (المريض) بإرهاب نفسِه، مذعورا بين مشاهد الأشلاء والوحوش والجلّادين العتاة.

     عموما، تناولُ علم النفس لهذه الظاهرة، مثل تناوله لأي ظاهرةٍ سلبيّة أخرى، كتعاطي المخدّرات أو الدعارة. والتفسيرُ ليس تبريرا بحال. والظاهرة ما تزال خصبةً للدراسة، مفتوحةً للبحث والتأمّل. وشخصيّا، أظن أن التشويق والإثارة من أكثر التفسيرات إقناعا، بقطع النظر عن مقاصد هوّاة الرعب، والمحيّر أن للتشويق والإثارة أسبابا أخرى، غير التعرّض للفزع، المتمثّل في هذا الصنف من الأفلام بالدرجة الأولى، وما تفيضُ به من قتلٍ وسلْخ وتقطيع مقزّز، فهل يجهل مدمنوها أن للإثارة والتشويق أساليب وطرائق أخرى !

     دراسات عديدة ربطت بين ارتفاع معدّلات الجريمة وانتشار أفلام العنف، فما بالك بأفلام الرعب، إذ فيه ما هو أشنع من مجرد السطو والعراك وإطلاق النار ! أميلُ للاعتقاد بأن استمراء الإنسان لأجواء الرعب والعنف المفرط، وتطبيع وعيِه عليها بالمدوامة والتكرار، تزيل مع الوقت رهبتَه من الدم، وتجعله يستخف بالقتل، ويتعايش نفسيّا مع : الرؤوس المحطّمة، والأوصال الممزّقة، والعيون المفقوءة، والبطون المبقورة، إلخ. أي تخلق في داخله سفّاحا صغيرا، من المحتمل أن يكبر، ذلك أن الإدمان وليدُ تقبّل في الأساس.

     هل تذكرون كيف استنكرَ كثيرون صورا التُقطتْ لأطفالٍ صفّوا أمامهم رؤوس أضاحي من الغنم، يسخرون بسفّاحي داعش، وهم يتصوّرون وبين أيديهم رؤوس ضحاياهم من البشر ؟ أظنهم -المنددّون بالصور- استشفّوا منها تقبّلا ما، لفعائل داعش. بمعنى أنهم وضعوا الصورة في إطارها الثقافي. لكن أليس ما يُعرض في أفلام الرعب أعظم هولا ؟ إن تكنولوجيا السينما ألغت الفرق تماما بين الافتراض والحقيقة، بل جسّدت الخيال ونفخت فيه الروح. كما يبدو أن الدخول العالية التي تدرُّها أفلام الرعب على كبرى الشركات المنتجة -كما التبغ وشركاته الكبرى- تقفُ، بما لها من نفوذ، حاجزا منيعا أمام حملات المناهضة. لكن لعل ما حُُقّق في مكافحة التبغ من تقدّمٍ يسير أن يُحرز مستقبلا في مكافحة أفلام الرعب والعنف، إذ لهذه أضرارٌ لا تقل عن تلك. والله أعلم.

الأربعاء، 5 نوفمبر 2014

في ذم العبقريّة والنجاح !



     تستهويني القراءة في المذكّرات والسير الشخصيّة لألمع المشاهير؛ فلاسفة، علماء، سياسيّون، رجال أعمال، أدباء، فنّانون .. الخ. بدا لي أنهم يشتركون في عدّةِ أشياء، أبرزُها في نظري : الترتيب. أي العمل وفق خطّة مدروسة. ثم المثابرة على التقيّد بها. ربما يتميّزون عن غيرهم، بكون الواحد منهم قد حدّد أهدافه مبكّرا، منذ وقتٍ طويل، وكرّس جهوده ليصل إليها. عملُه تراكمي، لا مجال فيه لتبديد الجهود وتضييع الأوقات. ولأن الوقت ينضب، فكل خطوةٍ لا تقرّب للهدف، فإنها تُباعد منه. الناجح شحيحٌ بوقته ضرورةً، لأنه يريد أن يختصر الزمن، ليحقّق في سنواتٍ معدودة، ما يستغرق من الناس العاديين عقودا -أو قرونا- ليحقّقوه. ولذا كان "الترتيب" جوادَه الذي يراهن عليه لشقِّ ميادين الحياة بسرعةٍ قياسيّة، وهل النجاح الباهر شيءٌ غير السباق مع الزمن !

     تُقاس المساحة التي يغطّيها الترتيب والانتظام من حياة هؤلاء، بعلو القمّة التي يصبو إليها أحدهم. كلما كانت شاهقةً، اتّسع في حياته نطاقُ الترتيب والانتظام، حتى يستغرق تفاصيلها الصغيرة. ولذا كان العبقري الفذُّ آلةً خالصة، لا يكل ولا يمل. يكاد صبرُه الدؤوب على رتابة الحياة وانتظام نشاطاته فيها، أن يكون موهبتَه العظمى ! هل لاحظتم كم هي صارمةٌ حياتهم، لا مكان فيها لفوضويّةٍ أو مزاج طاغٍ في تقلّبه أو أهواء جارفة ! لعل هذا أن يفسّر ضمور عواطف العباقرة والناجحين الكبار. الواحد منهم كتلةٌ مصمتة من العقل والإرادة. إنه ليرى نهاية طموحه، قمّته المرتجاة، وكأنه وإيّاها نقطتان، يكافح أن تكون مجريات حياته خطّا مستقيما يصلُ بينهما. وحتى لا يتذذب الخطُ أو يعوجُّ، كان عليه أن يوقد على عزيمته النار. طبعا، لا أجادلُ فيما قدّموه للإنسانيّة، ولا أشكّك في عظمتهم. لكن نمط حياتهم يبدو لي ثقيلا، شديدَ الوطأة، لا يُطاق. أحيانا يُخيّل إليَّ أنهم كائناتٌ عجيبة، تشبهنا وليست مثلنا، إنما خُلقت من أجلنا.

     على أيّة حال، وبما أنني سأحيا لمرّةٍ واحدة على الأكثر، فأتمنى لو عشتُ بكامل كياني، بكل ما بي من نوازع وانفعالات وأهواء وتعقّل. لا أفكّر في الاستسلام لخطّةٍ شاملة تحكم حياتي، أنصاع لبنودها وأتقيّد بمراحلها. لن أبخل على نفسي بأي بهجةٍ سانحة أو فرحٍ طارئ، وسأحاول أن أرّبي لحظاته وأتيح لها فرصة التكاثر والانتشار. باختصار، سأحترم الفوضى وأقمع النظام. ليس في حياة العبقري ما يغريني بالتّشبه به، ولا أرى ابتسامات كبار الناجحين سوى جزء من الكاميرات التي تحيط بهم، تُطفئ معها إذا أُطفئت. نعم، قد نُبهر بهم والأضواءُ عليهم مسلّطة، فنتمنّى أن نكون مثلهم. لكننا لا نفكّر بالثمن الباهض الذي دفعوه، ليصلوا إلى ما وصلوا إليه، وهلعَهم المزمن من احتمال أن ينحدر مستواهم وينزلوا عن العرش يوما ما، ذلك أن الاحتفاظ بالصدارة أصعبُ من الوصول إليها، يالَشقائهم ! ربما يجدون في الشهرة والمجد والمراتب العالية عزاءً من كل ما لاقوه في سبيلها من تعبٍ ومشاق، لكن أظنها -الشهرة وأخواتها- كالحسناء التي تبهتُ مع الوقت، ليبقى التعبُ في المحافظة عليها مجهودا ضائعا بلا مردود حقيقي، وكثيرا ما تكون الشهرةُ مضنيةً وسببا -هي نفسُها- للشقاء والتعب.

     الطُمُوح يمدُّ العبقري المنقطع لعمله بالطاقة التي يحتاجها لبلوغ القمّة السامقة، تماما كالإيمان التي يمدُّ العابد المنقطع لمحرابه بالطاقة التي يحتاجها لبلوغ الفردوس الأعلى. والقمّة -كالجنّة- حُفّت بالمكاره. وكلُ نجاحٍ استثنائي مجرد نتيجة لصبرٍ وتجلّد استثنائي على الحرمان. كل ما هنالك أنني مقتنعٌ أن كليهما يطاردُ وهَمْا، ينفق عمره في الحرث والزرع، لنيل ثمرةٍ لا تُقطف إلا آخر العمر أو بعده ! فهل هي صدفةٌ أن في كبار المتصوفة مجاذيب، وفي كبار العباقرة مجانين !


الأحد، 2 نوفمبر 2014

هوى بنت الشيخ كمفصل تاريخي


     يُحكى أن زعيما قَبَليّا مرموقا زوّجَ ابنته من رجلٍ شبّبَ بها في أشعاره (تغزّل بها)، فكسر -أي شيخ القبيلة- تقليدا راسخا منذ لا يُدرى متى، يقضي بتحريم الفتاة على من يذكرها في شعرِه متغزّلا، تحريما مؤبّدا. يتوارثُه الناس، جيلا بعد جيل، كباقي عاداتهم وتقاليدهم. يختلقون له التبريرات المتنوّعة، ليبقى وجودُه معقولا، والتمسّكُ به ذا معنى، إلى أن جاء رجلٌ يملك سلطةً ما، فوق عاديّة، فهتك قدسيّتَه، وجرّأ بعضَ الناس على الخروج عليه. مع الوقت، كثُر عددهم، وأخذت التبريرات المحافظة تفقد منقطيّتها. شيئا فشيئا حتى تلاشى التقليد واضمحل، وصار تزويج الحبيبن شيئا طبيعيا، بل ومشروعا.

     
الطريف في الأمر أن شيخ القبيلة كان مضطرّا لتفجير ثورة في وجه التقاليد، حيث إنه وجدَ أن منع ابنته المدلّلة من الزواج بمحبوبها سيفضي بها للموت، لا محالة. ولأنها كانت وحيدتَه وثمرةَ قلبه، فقد كان مستعدَّا للتخلّي عن حياته من أجل سعادتها، وليس بمركزه الاجتماعي فقط. فكانت خطوته الانتحاريّة تلك. ولأنه فارس مغوار، فقد غامر بمستقبله برابطة جأش، تماما كما يصنع في معاركه، حين يخوض غمار الموت مبتسما، لينجو في كل مرّةٍ بأعجوبة، ويعلو في قومه ويسود، ويكتسب رمزيّةً فائقة.

     
أرى أن تُدرج هذه القصّة في قائمة روائع المكتشفات التي عُثر عليها صدفةً، ذلك أن مجازفة الشيخ نفضت -عن غير قصد- الترابَ عن ركائز التقليد المتّبع، وكشفت أنه يستمد سلطانه فقط من غموض بداياته، أولا. ومن تواطئ الناس لا شعوريّا على التسليم به، ثانيا.. الغموض يساوي عدم المعرفة، أي الجهل. هذا الجهل، هو بالذّات، من يشحذ المخيّلة بشتّى الأساطير والتفسيرات والتعلّات، التي تُساق بوصفها مستندات التقيّد بالتّقاليد.

     
الغريب أن الملتزمين بذلك التقليد الظالم المفرّق بين الأحباب، كانوا يتسامرون في إنشاد قصائد التشبيب والغزل. يحفظونها ويدندنون بها، ويغنّون. وربما يبكون رِقّةً أو شوقا. لكنهم، كأفراد، يحرصون على إخفاء هذا الانفعال الوجداني عن بعضهم، وكأنه منقصةٌ أو عيب. وإذا وقفوا على واحدٍ منهم يترنّمُ باكيا لوحده، كانت فضيحته مدوّيةً! أليس عجيبا أمرُ هذا الذي يستلذّه الناس ويحنّون إليه إذا اختلا كلٌ منهم بنفسه، فإذا اجتمعوا تمالؤوا على نبذه وازدرائه، أو تظاهروا بذلك أمام بعضهم؟! كم يستوقفني مجتمعنا المحافظ، وهو يحتقر المطربين والممثلين كأشخاص، ويستخف بالطرب والتمثيل كممارسة، بينما لا تكفُّ مسجّلاتهم وتلفزيوناتهم عن بثَّه ليلا ونهارا. كما لو أنهم، بهذه المفارقة، ذلك المعتوه الذي يستقذر طبّاخا، وهو يأكل على مائدته كل يوم، من غير أن يجبره أحد !

     
يشبُّ الصبي وله ميول فنيّة، لكن يُربّى على كبتها، فيموت الفنّان فيه باكرا، كمؤودةٍ لا ندري بأي ذنب قُتلت. وتنشأ الفتاة وفي عنقها طوقٌ من العيب والحرام، يضيقُ كلما كبرتُ، حتى يخنق أنوثتها، فتشبُّ وبعاطفتها ووجدانها عاهات، حيث تهرم وهي لا تعرف كيف تحب وتعاشر.. ألسنا بحاجةٍ لشخصيّة كبيرة تشبه ذلك الشيخ المقدام، علَّها أن تكسر التقاليد التي طالما حالت دون الاعتراف الصريح بالكثير من المتع والمسرّات والفنون؟! أظن أن التقاليد لا تتزحزح إلا بمكافئ يوازيها معنويّا، كشخصيّة استثنائيّة مثلا، فالفن حتى يتحوّل لثقافة عامّة، ويكون جزءا من التقليد المتّبع وليس خروجا عليه، يحتاج فنّانين يتمتّعون بشخصيّات كبيرة، تفرض احترامها، وكذا الفكر والدين والحب .


الخميس، 30 أكتوبر 2014

الصدقة وهي تفرّخ المتسوّلين !




      كل ما أسمعه عن مكافحة التسوّل يبدو مزحةً وأنا أشاهدهم -المتسوّلين- يطوفون، باطمئنانٍ بالغ، حول السيارات الواقفة عند الإشارات المرّورية. حدثٌ يتكّرر أمامي كل يوم تقريبا، ويجعلني أتساءل: هل التسوّل ممارسة ممنوعة فعلا؟! كيف تكون ممنوعةً وهي تغزو، جهارا نهارا، شوارع العاصمة، ناهيك بغيرها؟!

     
التسوّل ظاهرة مقلقة لأكثر من سبب، ويظهر أنه بات سوقا مربحة، حيث يتنقّلُ المتسوّلون فُرادى في الشوارع، ويتمركزون جماعاتٍ عند الإشارات. بكثافةٍ ملحوظة، ينتشرون في الأسواق وبين والسيارات فيُخيّل إليك، لأوّل وهلة، أنهم باعةٌ متجوّلون في منطقة سياحيّة! وإذا توقّفت بسيارتك في جانب الطريق، عند سوق أو محطّة، فانتظرْ أحدهم يطرقُ عليك النافذة، يسألُك "حق الله"، وما إنْ تعطيه شيئا حتى تهرع إليك امرأةٌ بيدها رضيع، لا تدري خرجت من أين! لم يعد هذا منظرا خارجا عن المألوف.

     
كأي نشاط يدرُّ الربح السريع، التسوّل يجتذب المرتزقة، فيتكاثرون في سوق الإحسان الاعتباطي العبثي، الذي لولاه، ما تزايدوا بهذا الشكل المخيف، كما لو أن الصدقة بدلا من أن تقلّل عدد من يُفترض أنهم "مساكين"، صارت تزيدهم وتكثّر سوادهم!

     
الغريب أن التسوّل بات يُدار على طريقة المؤسسّات، فلهم قيادات وأعضاء وأدوات ومواقع وتنسيق وخطّط. هذا ما تؤكّده التقارير الصحفيّة، وربما لمسنا بعض مظاهره في الشارع. إنه يعمل بانتظام مستغلّا سذاجة الناس وتراخي الأجهزة الحكوميّة. الواقع أننا نعاني إشكالا تنظيميّا وثقافيّا.

     على كلٍ من الحكومة والمجتمع دورٌ يجب أن يقوم به، ذلك أن المتسوّل إما أن يكون مواطنا، فهذا يجب على الدولة أن تعتني به، تأهيلا ومساعدة ريثما يجد له عملا شريفا. وإما أنه غير مواطن، فهذا يجب على الدولة أن تعيده لبلاده، وتقدّم له المساعدة والعناية اللازمة ريثما يصل إليها. وحدَها الدولة تستطيع أن تقوم بهذه المهمّة. هذا دورُها. أما دور المجتمع، فهو أن يتداعى أفراده، عبر حملات توعية، للكف عن تقديم المساعدة للغرباء بشكلٍ شخصي مباشر، لأنهم -كأفراد -لا يستطيعون التحقّق إن كان هؤلاء مستحقّين للمساعدة، أم لا. ومهما كانت المساعدات بسيطة، فإنها تتراكم بيد عصابات التّسول، بنفس منطق تجارة التجزئة  . 

     قرأت مرّةً أن أكثر المتسوّلين الذين يُقبض عليهم، كانوا كذّابين في المعلومات التي يقدّمونها للمحسنين، التي عادةً ما تكون مأسويّة، ليستدرّوا عطفهم وجيوبهم. هذا يعني أن المتسوّل الذي أمامك كذّابٌ بنسبة 51 % على الأقل ! هل تدرك معنى أن احتماليّة كذبه أكبر من احتمالية صدقه؟! على أيّة حال، لا يمكن أن تكون هذه الدروشة طريقا لنيل رضا الله، كيف تكون تغذية الظواهر السلبيّة عملا صالحا !! 

     
إن مأسسة عمليّة جمع وتوزيع الصدقات والزكوات، ومنع ممارستها بشكلٍ شخصي، حيث تُوكل مؤسسات نظاميّة، بقبضها من المحسنين، لتُسلّم للمستحقين، بعد التأكّد من وضعهم بشكلٍ رسمي.. لا شك ستحدُّ من هذه الظاهرة. بهذه الطريقة المنظّمة نقضي على التسوّل، على الأقل في أغلب حالاته، من خلال القضاء على العشوائيّة في ممارسة العمل الخيري. إذ المستحقُ سيصل إليه -عبر العمل المؤسسّي المنظم- ما يكفيه ويغنيه عن تكفّف المارّة واستجدائهم، وغير المستحق ليس له إلا أحد طريقين: العمل وكسب الرزق بعرق الجبين أو السجن (وإن كان غير مواطن فالترحيل). طبعا، من يعانون عجزا مزمنا، بسبب مرض أو إعاقه، فهؤلاء يجب على الدولة أن ترعاهم. القسمان الأوّلان محصوران فقط بالقادرين، إذ ثبت أنهم أكثر المتسوّلين اليوم!