الاثنين، 17 سبتمبر 2018

الهكرز أحباب الله

التقنية بطبيعتها مركزة، خاضعة لحركة المال والسلطة، لأنها ببساطة عمل يتطلب موارد وتنظيمات، عقولا نادرة وأيدٍ ماهرة. أي أنه نشاط لا يزدهر إلا مؤسسيا، في المعامل والأكاديميات. ويصعب متابعة تطوره خارج أطر القانون. مما يجعله، في نهاية المطاف، تحت خدمة الحكومات وقوانينها (التي لا ترادف العدالة بالضرورة). العقل الفذ والخيال الموهوب ليست سوى شروط لتطور التقنية، ضمن شروط عديدة أملاها الواقع المركب.

طالما لم يفلت الذكاء الاصطناعي من يد الإنسان، فالتقنية ما تزال آلة، أو في مستوى الآلة، تسّهل كثير من الأمور. وتساعد على حل المشكلات بشكلٍ مدهش. تزيد من الانتاج وتعين على تطويق آثاره السلبية على الإنسان والطبيعة، لكن بشكلٍ أقل إدهاشا. ودورها في ضبط البشر ومحيطهم الاجتماعي والطبيعي يتزايد بطريقة باتت مقلقة، فقد زادت من سيطرة الحكومات على تحقيق الأمن الذي يتوقف عليه كل شيء، لكن لهذا مخاطره المحققة. فمضاغفة الصعوبات أمام أي خرق للأمن، أفرز ظاهرتين :

الجريمة المنظمة، وهي المعادل الموضوعي لأنظمة الحماية المتقدمة.

والحكومات المستبدة، وهي ثمرة الرقابة المددجة بالتقنية.


لكن ما الحل ؟ أعتقد في المزيد من الهاكرز. هم فرسان الثغرات التي سُرعان ما تُسد، ليتقدم النظام على اللا نظام بخطوة، لكنها كافية لخلق تفاوضات تملأ النظام بهواجس افتقاده للاحتكار، فتدفعه للنزول عن صدر الضحية، لتتنفس ولو قليلا. نعم قد يفلت -في ثنايا الخطوة- بعض المجرمين، لكن بالمقابل سينجو عدد أكبر من الأبرياء. لذا يجب ألا تتوقف الخطوة. إن انقراض تطبيقات وبرمجيات كسر البروكسي مثلا منذرة بعصور من الاستبداد والاستعباد، بصور تتلاءم وتطور التقنية.

السبت، 7 يوليو 2018

المستطيل الأحمر

هل كرة القدم تقرّب بين الشعوب أم تخلق حزازات إضافية، وتشحذ نِصال الانتماءات المتدافعة على الكأس وتزيدها حِدةً وقطعا ؟

الجموع المتزاحمة على المدرجات وهي تشق بحناجرها الفضاء لا تبحث عن سلام، بل عن ميدان صراع جديد، تنكّل فيه بعدو قديم. وتعبر عن كبرياء مجروح أو مغرور. كما وتفضح تواريخا طالما تظاهرنا بنسيانها. وطالما الأعلام الوطنية ترفرف، فالماضي مستدعى، والحسابات الأكثر من رياضية يجري تصفيتها بطريقة تفتقد لشجاعة المواجهة.

اللاعبون يبحثون عن مجد الأضواء والشهرة، والشعوب تبحث عن موارد للفخار والتبجح اللّفظي، خصوصا الشعوب المفلسة من إنجازات حقيقية. لكلٍ مكاسبه الخاصة. قليلون من يستمتعون باللعبة وحدها،  مثابرين على تنقيحها من لوث الانتماء والهوية. وقد يصفقون للهجمة الرائعة وهي تنقض نحو مرمى منتخب بلادهم، وربما قفزوا عن مقاعدهم منبهرين إذا ما تُوجت بهدفٍ مبدع. لكن هذا نادر الوقوع فيما أظن، مما يؤكد أن كرة القدم تلعب على الانتماءات التي لم تُشفَ من ذاكرتها الحقودة، لكن بصورة أقل عدوانية، فوق مستطيلٍ أخضر.

هل نقل الصراع للملاعب يخفف من وجوده في مجالات أخرى، خصوصا الحروب ؟ أشك. لكنها تعزز مشاريع الخصخصة الرياضية، وتدر المال لجيوب من لا ينتمون لغير مصالحهم الخاصة. ربما لهذا يتحدثون بنفاق عن الوئام الذي تبثه كرة القدم في صدور العالمين وتجمعهم للزعيق في وجوه بعضهم في مكان تحت السيطرة عوض التقاتل بالسلاح في مكان خارج السيطرة، أليس هذا جيدا ؟ امممممم !!

#كأس_العالم

الأربعاء، 7 مارس 2018

حيوان مؤلم

     هل تعذيب الحيوانات مسألة أخلاقيّة ؟ قطعا نعم، لأنها تتألم، أي تحس وتشعر، بدرجاتٍ تتفاوت بين نوعٍ ونوع. يقول العلماء إن الأنظمة الإدراكيّة للحيوانات ليست في مستوى واحد، كما تتعمّق مشاعرها، سلبا أو إيجابا، كلما تعقّدت أنظمتها الإدراكيّة، حتى تبلغ أوجها في الإنسان، الحيوان الأكثر أسى، حيث النظام الإدراكي الأعقد. ولأنه -الإنسان- يتمتّع بوعي استثنائي، مقارنةً بسواه في مملكة الحيوان، صار بإمكانه المقارنة والقياس ووضع الذات مكان الغير، وتخيّل معاناته، إذ التعاطف هو بذرة الأخلاق.

     ذهب بعض المفكرين إلى أن الحيوان يحتل "مكانةً أدبية" تتناسب مع درجة وعيه، فتوصّلوا لترتيبٍ هرمي، يتربّع الإنسان على قمّته. طبعا هذا ينسجم مع التصورات الطاعنة في السن، الموروثة عن الحضارات القديمة، حيث الأشياء كلها ملك للإنسان، يتصرّف فيها كيف شاء، لكن بعدل. ومن المتوقع أن العدل هنا لا يعدو أن يكون مفهوما نسبيّا، يمكن لمن اتفقوا عليه أن يختلفوا فيه. فالحيازة بمجرد الأخذ (الصيد) مثلا تجيزه بعض الديانات ولو من دون ضرورة، فيما تمنعه أُخرى إلا لضرورة قاهرة. لكنها تتفق على حظر تعذيب الحيوان. وتتجلّى هذه المفارقات في الوصية النبويّة "وليحدَّ أحدكم شفرته، وليُرحْ ذبيتحه"، فالحضُّ على الرحمة جاء في سياق إجازة القتل. والواقع أنه لم يُسجّل على مضمونها أي تقدّمٍ أخلاقي يُذكر حتى اليوم، اللهم عند أرباب النزعة النباتيّة، المتنزّهين عن اللحم !

     وجهة نظر أخرى تزعم التسويّة بين الإنسان والحيوان، كلاهما يتبّوأ ذات المكانة الأدبية، لامتلاكهما قدرةً على الألم وما يتولّد عنه من مشاعر، قدرةً متماثلةً نوعا وإن اختلفت درجة أو عمقا. سنُصاب بالدهشة إذا عرفنا أن أصحابها لا يصدرون عن منزعٍ نباتي، كما سيلوح أن للمسألة أغوارا قد تغيب عن النظرات المتقزّزة على عجل. كيف لهؤلاء أن يؤمنون بالتسوية مع تقبّلهم اقتيات الإنسان على الحيوان ؟ ببساطة، لنفس الأسباب تجعلهم لا يرون في افتراس ثعلبٍ لأرنب مدعاةً للتدخل تحت أي ذرائع أخلاقية. وعندما تحل الضرورة، ويغيب التعذيب المتعمّد، يُرفع الحكم أخلاقي، فتجري الطبيعة على سجيّتها.

     للحيوان مكانة أدبيّة تستلزم مراعاتُها حظر كل أشكال الأذى غير الضروريّة، في تربيته ونقله وذبحه. كما تستلزم الإحسان إليه، بما يعني أنه موضوع أخلاقي. بمعنى أن التعامل معه داخل في المساحة التي تغطّيها الأحكام الأخلاقيّة، وعندما نقول "أحكام أخلاقيّة"، فهي حتما شيءٍ منفصل عن المنفعة، ومتسامٍ عليها أيضا. فالعذيب لا أخلاقي، من كل الزوايا، وبقطع النظر عن المتضرر والمستفيد.

      ربما في اللحّظة التي تلج فيها البشريّة حقبة ما بعد الحروب والصراعات، سأتوقع انقلابا في ملف الحيوان وحقوقه، قد يفضي للامتناع الكلي عن أكله، بحيث تكون النزعة النباتيّة جزءا لا يتجزّا من النزعة الإنسانيّة .. إلى ذلك الحين، تبدو الطبيعة عادلةً نوعا ما، فلنسرْ على هداها، ونجرّم كل ألم غير ضروري،  على افتراض أن الألم جزء من الطبيعة، لا مناص عن ارتكاب شيء منه. لا دور للأخلاق في موضوعنا إلا في تخفيض الألم، عند أدنى حدٍ ممكن. وذلك بالتوقّف فورا عن كل ألمٍ نسبّبه لها من غير ضرورة. كم ستخف وطأة الظلم في العالم لو اقتصرنا على الضرورة في كل شيء !

الاثنين، 5 مارس 2018

القبيلي واللا قبيلي


     القبيلة مؤسسة اجتماعية تستمد أصالتها من تضامن أفرادها وتعاضدهم. كل ما كانت القبيلة أكبر عددا وأقوى، عزّز ذلك من مصداقية ادعاءاتها حول تاريخها ونسبها. التاريخ صنيعة الحاضر في الحقيقة، فالأمم والشعوب التي تسود الآن تكتب سردياتها التاريخية كما تشاء، ويصدقها الآخرون. لذلك تجنح الدول لتدوين تاريخها وتلقينه للأجيال، لأنه يخلق بينهم شعورا مشتركا وهوية موحّدة، وتطعّم -كالقبيلة- ماضيها بالمآثر والأمجاد. كل الظواهر السياسية تقوم على أساطير مؤسِّسة، والقبيلة تنظيم بدائي للاجتماع السياسي، فله أساطيره الخاصة كذلك. وربما كان التطور ، في أبرز صوره، عبارةً عن تحقيق ذات الأهداف، لكن بطرق أحدث.

     عندما نبدأ بطرح سؤال عن الفرق بين الأصيل (القبيلي) وغير الأصيل (اللا قبيلي)، سنجد أن الأصالة هي الانتساب لقبيلة معروفة، غير أن سلاسل الآباء تنقطع دون الوصول لجد القبيلة الذي يفترض أنها انحدرت منه، هوّة يجري ملؤها بضجيج الافتخار، ربما للتعمية عن البتر السلالي !

     سيعد ابن القبيلة المزهو أجدادَه حتى ينتهي للقبيلة، وهي اسم مبهم، كما يفعل الرشيدي -إذا ما أصابه الزهو أيضا- الذي سينتهي تعداد أجداده لاسم، مبهم هو الآخر. خُذْ أي قبيلة متعارف على أصالتها في الجزيرة مثلا، واطلب توثيق اتصال أسانيد المنتسبين إليها، هل ينتهون جميعا لجذر يجمعهم بسند متصل ؟ قطعا لا. ما يعني أن أصالة القوم كتاريخ الدول الناشئة، شيء تشيّده سطوتهم في الحاضر. بمعنى أن الأصل وليد تضامن وانسجام راهن، لا جد مشترك غائر في مجاهل التاريخ.

     إذا استفهمت العتيبي أو القحطاني أو الشمري، الخ : منذ متى وقبيلتكم موجودة؟ سيقول منذ قرون. وإن شرع متباهيا بسرد آبائه الذين يُنتظر أنهم ينتهون لعتيبة أو قحطان أو شمّر (على افتراض أنهم أشخاص)، ستكتشف أن أجداده المعروفين لا يغطّون القرون المزعومة لظهور القبيلة. وأنه بحاجة لعشرات، متسلسلين، يكون آخرهم هو نفسه أبو القبيلة كلها. وهذا ما لا يقع بطبيعة الحال، فهم و"الرشيدي" سواءٌ إذن. سلسلة تنتهي لاسم مبهم، خلفه فراغ تصفق في أنحائه الريح !

القرآن يقول إن أكرمكم عند الله أتقاكم. والعلم يقول نحن والشبمانزي أبناء عمومه، منحدرون من أصل واحد، فاخترْ أيهما شئت.

الاثنين، 19 فبراير 2018

الحرّيات والضرورات

في السياسة كما في غيرها اختلاف الآراء جيد، لأنه عادةً مثمر، إذ الحقيقة -كما يُقال- بنت الجدل، ما لم يُفضِ للتنازع والفوضى وذهاب الريح، فسيكون الجدل -حينئذٍ- عملا هدّاما بكل ما تعنيه الكلمة. وهي اللحظة التي يكون الضبط فيها ضروريا، مهما بدا في الظاهر متعسّفا، درأ لمفسدةٍ أكبر وأخطر. حرّية الرأي وحق الاختلاف ليس إلا قيمةً يجب نظمها في سُلّم قيم (الوحدة، السِلْم الاجتماعي، التنمية، الأمن، الخ)، تترتّب فيه حسب أولويّتها الراهنة، حتى لا تستشري التناقضات في المجتمع وتصبح فوضويةً عدميّة يحترق في أتونها السُلّم كله، بقيمه المتصارعة حدَّ الانفراط.

لذا كان الاصطفاف خلف القيادة عند اضطراب الأوضاع الدوليّة والإقليميّة، أو في مراحل التحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة ضرورة يمليها واجب الوقت. الإجماع الآن هو الضمانة لعبور متطلّبات التغيير الاقتصادي. ولا يعني ذلك مصادرة الآراء بقدر ما يوجب تحلّيها بالمسؤولية، إذ للظروف الاستثنائية أحكام استثنائية. وأي تناول غير مسؤول يُعتبر تأليبا للرأي العام، ربما لدوافع شخصيّة أو حزبية ضيّقة، لا يهمها مصلحة الوطن. وتكمن خطورته في رأيي في خلق ممانعت شعبيّة تحبط مشاريع التغيير التي لا يمكن للاقتصاد الوطني أن يتطور من دونها. ومن المعلوم أن الاستقرار السياسي مرهون دوما بالاستقرار الاقتصادي.

حق الاختلاف وإبداء الرأي، ككل قيمة، دائما مقيّد بقيمة أعلى. الحريّة المطلقة خيال غير واقعي أو مفسدة محقّقة في الواقع. وللدول التي تتباهى بحرّية التعبير سجلاتٌ مليئة بالحالات التي اضطُرت فيها الديمقراطيات الكبرى إلى الحد من تلك الحرّية وتقييدها، لإضرارها بالسِلْم الاجتماعي، أو الأمن الوطني، أو المصالح العليا للدولة، الخ. ومع أن التعديل الثاني على الدستور الأمريكي نصَّ على أنه "لا يصدر أي قانون يحد من حرّية الكلام أو الصحافة، أو من حق الناس في الاجتماع سليما"، فقد أدانت المحكمة العليا من قاموا بتوزيع منشورات بين الجنود، وقت الحرب، تُشكك في شرعيتها، مهما كانت منطلقاتهم -ظاهريّا- إنسانيّة أو وطنية. إن سياق أي تعبير عن الرأي يُحدّد جزئيا مدى إمكانية إخضاعه للرقابة، أي تقييده. للسياقات كما أن للظروف دلالتها المؤثرة في شرعية التعبير عن الرأي أو لا شرعيّته (حرّية التعبير، ناجيل ووربيرتن، صـ12). حتى أكثر الدولة احتفاء بحرّية الرأي تدفعها الضرورات لرسم الخطوط الحمراء، تغليبا لقيمةٍ أعلى من ترف السجال والمحاورة. ونحن نعيش حربا على أكثر من صعيد، حارّة وباردة.

سالي (#قصة_قصيرة)

من سنين لا أريد عدّها، ذهبنا لخالي المقيم في إسكان الهيئة الملكية بينبع، لنقضي عنده عطلة الصيف. كان -الإسكان- منظما ونظيفا لدرجةٍ شعرت معها بأنني أكثر شيء بدائي يدب على أرصفته المحفوفة بالورود والأعشاب العطرية، في طريقي اليومي للمتجر الذي بدا وكأنه يحطَّ من الفضاء قبل دقائق من وصولي.

وقتها تعرفت على "سالي"، الفتاة الأمريكية الشقراء جدا، التي اعتادت التباهي أمامنا بدراجتها في الساحة التي تتوسط الحي. كان عمرها تقريبا ست سنوات، أكبر مني بقليل، وأذكى بكثير. بعد كم يوم قرّرت -"سالي"- أن  تصطحبني معها للبيت، ربما لتفاجىء والديها بحيوان أليف !

عندما أدخلتني كانا جالسين في الصالون، بملابس خفيفة جدا، أي شبه عاريين. هالني النمش الذي أكل وجه الأم. كما استغربت وجه والدها المتحجر، بملامحه شديدة الحياد (عندما كبرت عرفت أن الاكتئاب يميت وجوه البشر). كانا ضخمين، صامتين، كما آلهة إغريقية.

جرّتني "سالي" إلى غرفتها فوق، تبعتها بسرعة، ربما هربا من زوج الأسود الرابض في الأسفل. فتحت خزانتها ونثرت الألعاب، فاندهشت واختنقت أنفاسي. أعتقد أنها الحالة التي ستعتري الصوفي إذا تجلّى الله له في الآخرة. تملّكتني رغبة شديدة في أن أبقى من "سالي" للأبد، فانشغلت عن اللعب سويّا بالتفكير في الخلود معها. كيف أجعل المؤقت دائما ؟ نفس السؤال الذي يطرأ على الفتاة إذا صادفت فارس أحلامها. لكن الأسود تحركت، فهرب الحيوان الأليف. منذ ذلك اليوم و"سالي" تترآى لي في كل فيلم أمريكي.