الأربعاء، 31 أغسطس 2016

المرأة .. حقائق العلوم الإنسانية ومورايث الفقه الديني



     ‎
في موروثنا تُحاط المرأة بجملةٍ من الأحكام والتقاليد المتعسّفة، حيث يُفرض عليها أن تحتجب، وأن تبتعد عن الرجل حتى لا يرى فيها -أو يشمُّ !- ما يفتنه. وإن تزوجته كانت له خادما. وإن مات عنها أبوها أخذت نصف نصيب أخيها، تماما كشهادتها التي لا تساوي -في معظم الأحيان- إلا نصف شهادة رجل. وإن مات عنها زوجها هجرت الزينة أربعة أشهر وعشرا. كما لا يجوز أن تسافر إلا مع ذي محرم، وهي مستنثاة من تسنّم المناصب العليا والقيادية، الخ. من الواضح أن المرأة في موروثنا تعاني بشكلٍ دائم ما يسميّه القانونيّون "نقص الأهليّة". هذا إن أردنا أن نتكلّم بصراحة. طبعا لا شك أن الإسلام قد حسّنَ من وضع المرأة مقارنةً بالجاهليّة، وسيّج كيانها بسلسلةٍ من التشريعات الشائكة، التي وإن حمتها بعض الوقت، إلا أنها سجنتها طوال الوقت. نعم، تقدّمت تلك التشريعات بواقع المرأة خطوات، لكنها وقفت عندها، منذ قرون.

‎     أظن أن مشكلة هذه الأحكام والتقاليد والأخلاقيّات أنها كانت حلولا سطحيّةً ووقتيّة جدّا، تعالجُ المظاهر والأعراض وحسب، ولا تنفذُ لعمق المشكلات وأسبابها الكامنة في واقع المرأة، لتقضي عليها قضاءً مبرما، ومن الأساس كما يُفترض. ربما لأنها -أي تلك الأحكام والتقاليد والأخلاقيّات- تنطلق من مسلّمة، وهي أن هشاشة وضْع المرأة وضعف مركزها -أي كونها مرشّحةً دائما أن تكون ضحيّة !- شيءٌ متفق عليه كواقعٍ يتمتع بمكانة الوضع الطبيعي، حالة مستقرة لا تجب مناقشتها، فيما إذا كانت لها أسبابٌ مفهومة، يمكن العمل على تغيير شروطها، أم لا. كما لو أنها أحكام خاصّة شُرعت لمصابٍ بعاهة لا يُرجى شفاؤه منها. وبينما توصّل الطب لعلاجٍ له، فقد بقيت الأحكام الخاصّة به كما هي، بلا أدنى تغيير، يمتثلها هذا المتشافي ببركة العلم، وكأنه ما زال بعاهته  !

     ‎كان الشغل الشاغل لأولئك المتشرّعين هو "كيف نحمي المرأة ونحوطها برعايتنا؟"، وليس "كيف نجعلها في وضعٍ لا تحتاج فيه لحمايتنا واحتياطاتنا؟". طبعا الطريقة الأولى قائمةٌ على إطلاق أحكام قيمة، كالحلال والحرام، الإباحة والحظْر، يجوز ولا يجوز، بوصفها الأدوات الرئيسيّة للمعالجة، إذ المعوّلُ في إحداث التغيير المنشود كان على الفقه وأحكامه، الشرع الإلهي، ولأنها كذلك -أي تعاليم وأحكام ووصايا-، فهي لا تحاول أن تغيّر في الواقع، إنما تحاول أن تتعامل معه كما هو، حيث تذهب للفرد لتملي عليه ما يجب فعله، ليتلافى الضرر مثلا. بينما الطريقة الثانية قائمةٌ على تحليل الواقع، ورصْد علاقاته، وفهم أسبابه، على اعتبار أن الحلول الناجعة متوقّفةٌ على التوصّل إلى التفسير الموضوعي للمشاكل أو الأضرار، إذ المعوّل على التغيير هنا، هو العلم ومناهجه، لا غير. والهدف هو تغيير الواقع بواسطة فهم قوانينه، لا الاستسلام له كما لو أنه قدر لا يُدفع، أو قدسية لا تقبل بغير الرضوخ. بعبارة أخرى : القضاء على الضرر نفسه، الذي عرفنا بالعلم كيف نشأ وتكوّن، وليس بالتوجّه إلى المتضرّر بالنصح والإرشاد الوعظي.

     تاريخيّا، هذا واضح ومفهوم، ذلك أن ميكانزمات الاجتماع البشري، ودوافع النفس الإنسانيّة، وعلاقة الثقافة بالشخصيّة، وأثر التربيّة والاقتصاد والسياسة على العلاقات الاجتماعيّة، الخ، أي جميع ما يدخل في نطاق بحوث وتحاليل العلوم الإنسانيّة، حيث إن هذا كله لم يُكتشف إلا من وقتٍ قريب، بعد استقرار تلك الأحكام والتقاليد والأخلاقيّات في وعي الناس ووجدانهم بوقتٍ طويل.

     لم يكن معروفا إلا مؤخّرا، أن انحطاط مكانة المرأة، كان نتيجةً لأنماط وأساليب في التربيّة والتثقيف، كثيرا ما انعكست علاقاتُها الجدليّة في الاقتصاد الاجتماعي. بمعنى أن لوضع المرأة مجرد نتيجة لمقدمات. وأنه بالإمكان الارتقاءُ به وتحسينه، بواسطة إجراء تغييراتٍ جذريّة في عمق تلك البنية. لقد اكتشف بعضُ الاقتصاديّين مثلا علاقةً طرديّة نوعا ما، بين ارتفاع مستوى التخضّم وارتفاع نسبة جرائم السرقة، تتمتّع بثبات نسبي، لا تكاد تتغيّر بين مجتمعٍ وآخر، كما اكتشف بعضُ الاجتماعيّين علاقةً ثابتةً نوعا ما، بين احتجاب الشمس الطويل شتاءً وارتفاع نسبة الانتحار، لا تكاد تتغيّر بين مجتمعٍ وآخر. السرقة والانتحار جنايات في حق النفس أو الغير، لكن لها أسباب كامنة يتعذّرُ التغلّب عليها بمجرد التحريم والوعظ أو حتى التجريم والحظر القانوني. بل بمحاولة التحكّم في آليات عمل الاقتصاد للحد من تأثير تقلباتها على محدودي الدخل، أو بالتوصّل لعِقَار يحمي الإنسان من هجمات الاكتئاب الحادّة. بطبيعة الحال، سنظل عاجزين عن عمل شيءٍ لظاهرةٍ ما، ما لم نعرف كيف نشأت واقعيّا. وسنستمر -في حال جهلنا الأسباب الواقعيّة- في إسداء النصائح أو إطلاق الأحكام.

     في ضوء ما مضى، ما الذي ننتظره من امرأةٍ تُربّى على أنها كالجارية التي لا تستطيع أن تعيش إلا في ظل رجل، ويُصاغ وعيُها منذ نعومة أظافرها على أن وظيفتها في الحياة هو الخدمة في بيت ذلك الرجل، بحيث تكون رسالتها في الحياة، هي حصْرا، تدبيرُه والقيام بشأنه ورعاية أطفاله منها، وأنها تقريبا لا تحتاج من العلوم والمعارف والمهارات سوى ما يعينها على أداء واجباتها تلك، الخ. كل هذا سيخرج لنا، في النهاية، امرأةً أقل من الرجل في كل شيءٍ مهم تقريبا، ومن الطبيعي أن تكون بحاجةٍ إليه، لأنها أصلا رُبّيت لتحتاجه وتعيش في ظلِّه، بحكم أنها -صارت- أضعف وأقل منه، تماما كما رُبّيَ ليكون أقوى وأرفع منها. ولأنه خُلقَ ليكون سيّدها، فقد خُلقت لتكون جاريته. هذا هو مؤدّى الثقافة التي تشرّبتها منذ عرفت نفسها ووعت ذاتها. لُقّنتها بوصفها "الفطرة" أو الوضع "الطبيعي"، ورُتّبت علاقاتها، وأُقرّت حقوقها وواجباتها وصِيغ وعيها للتتّسق معه. رُتّبَ الشرعي وأُقيم على الفطري (الطبيعي) المزعوم. ولهذا تجلّى الحيف والمحاباة في تفاصيل الأحكام بين الجنسين، لأنها مؤسّسة أصلا على وضع غير عادل. هذه المسالك والعادات إن أُعطيت مضمونا دينيا، فسيؤدي ذلك إلى حبس المرأة وتجميدها في قالبٍ معيّن، مغلْق، ناقص، يجعل من عدم المساواة حالةً دائمة، لا مرحلة عابرة. أي حكما مؤبّدا لا معالجةً ظرفيّة. ما يدفعنا للقول بأن تلك الأحكام والتشريعات والتقاليد تضعفُ المرأة، من حيث نظن أن تحميها. وتحصّن مركز الرجل، من حيث نظن أن توقفه عند حدِّه !