الاثنين، 19 فبراير 2018

الحرّيات والضرورات

في السياسة كما في غيرها اختلاف الآراء جيد، لأنه عادةً مثمر، إذ الحقيقة -كما يُقال- بنت الجدل، ما لم يُفضِ للتنازع والفوضى وذهاب الريح، فسيكون الجدل -حينئذٍ- عملا هدّاما بكل ما تعنيه الكلمة. وهي اللحظة التي يكون الضبط فيها ضروريا، مهما بدا في الظاهر متعسّفا، درأ لمفسدةٍ أكبر وأخطر. حرّية الرأي وحق الاختلاف ليس إلا قيمةً يجب نظمها في سُلّم قيم (الوحدة، السِلْم الاجتماعي، التنمية، الأمن، الخ)، تترتّب فيه حسب أولويّتها الراهنة، حتى لا تستشري التناقضات في المجتمع وتصبح فوضويةً عدميّة يحترق في أتونها السُلّم كله، بقيمه المتصارعة حدَّ الانفراط.

لذا كان الاصطفاف خلف القيادة عند اضطراب الأوضاع الدوليّة والإقليميّة، أو في مراحل التحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة ضرورة يمليها واجب الوقت. الإجماع الآن هو الضمانة لعبور متطلّبات التغيير الاقتصادي. ولا يعني ذلك مصادرة الآراء بقدر ما يوجب تحلّيها بالمسؤولية، إذ للظروف الاستثنائية أحكام استثنائية. وأي تناول غير مسؤول يُعتبر تأليبا للرأي العام، ربما لدوافع شخصيّة أو حزبية ضيّقة، لا يهمها مصلحة الوطن. وتكمن خطورته في رأيي في خلق ممانعت شعبيّة تحبط مشاريع التغيير التي لا يمكن للاقتصاد الوطني أن يتطور من دونها. ومن المعلوم أن الاستقرار السياسي مرهون دوما بالاستقرار الاقتصادي.

حق الاختلاف وإبداء الرأي، ككل قيمة، دائما مقيّد بقيمة أعلى. الحريّة المطلقة خيال غير واقعي أو مفسدة محقّقة في الواقع. وللدول التي تتباهى بحرّية التعبير سجلاتٌ مليئة بالحالات التي اضطُرت فيها الديمقراطيات الكبرى إلى الحد من تلك الحرّية وتقييدها، لإضرارها بالسِلْم الاجتماعي، أو الأمن الوطني، أو المصالح العليا للدولة، الخ. ومع أن التعديل الثاني على الدستور الأمريكي نصَّ على أنه "لا يصدر أي قانون يحد من حرّية الكلام أو الصحافة، أو من حق الناس في الاجتماع سليما"، فقد أدانت المحكمة العليا من قاموا بتوزيع منشورات بين الجنود، وقت الحرب، تُشكك في شرعيتها، مهما كانت منطلقاتهم -ظاهريّا- إنسانيّة أو وطنية. إن سياق أي تعبير عن الرأي يُحدّد جزئيا مدى إمكانية إخضاعه للرقابة، أي تقييده. للسياقات كما أن للظروف دلالتها المؤثرة في شرعية التعبير عن الرأي أو لا شرعيّته (حرّية التعبير، ناجيل ووربيرتن، صـ12). حتى أكثر الدولة احتفاء بحرّية الرأي تدفعها الضرورات لرسم الخطوط الحمراء، تغليبا لقيمةٍ أعلى من ترف السجال والمحاورة. ونحن نعيش حربا على أكثر من صعيد، حارّة وباردة.

سالي (#قصة_قصيرة)

من سنين لا أريد عدّها، ذهبنا لخالي المقيم في إسكان الهيئة الملكية بينبع، لنقضي عنده عطلة الصيف. كان -الإسكان- منظما ونظيفا لدرجةٍ شعرت معها بأنني أكثر شيء بدائي يدب على أرصفته المحفوفة بالورود والأعشاب العطرية، في طريقي اليومي للمتجر الذي بدا وكأنه يحطَّ من الفضاء قبل دقائق من وصولي.

وقتها تعرفت على "سالي"، الفتاة الأمريكية الشقراء جدا، التي اعتادت التباهي أمامنا بدراجتها في الساحة التي تتوسط الحي. كان عمرها تقريبا ست سنوات، أكبر مني بقليل، وأذكى بكثير. بعد كم يوم قرّرت -"سالي"- أن  تصطحبني معها للبيت، ربما لتفاجىء والديها بحيوان أليف !

عندما أدخلتني كانا جالسين في الصالون، بملابس خفيفة جدا، أي شبه عاريين. هالني النمش الذي أكل وجه الأم. كما استغربت وجه والدها المتحجر، بملامحه شديدة الحياد (عندما كبرت عرفت أن الاكتئاب يميت وجوه البشر). كانا ضخمين، صامتين، كما آلهة إغريقية.

جرّتني "سالي" إلى غرفتها فوق، تبعتها بسرعة، ربما هربا من زوج الأسود الرابض في الأسفل. فتحت خزانتها ونثرت الألعاب، فاندهشت واختنقت أنفاسي. أعتقد أنها الحالة التي ستعتري الصوفي إذا تجلّى الله له في الآخرة. تملّكتني رغبة شديدة في أن أبقى من "سالي" للأبد، فانشغلت عن اللعب سويّا بالتفكير في الخلود معها. كيف أجعل المؤقت دائما ؟ نفس السؤال الذي يطرأ على الفتاة إذا صادفت فارس أحلامها. لكن الأسود تحركت، فهرب الحيوان الأليف. منذ ذلك اليوم و"سالي" تترآى لي في كل فيلم أمريكي.