الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

أحيييه (تأملات في الجنس)


     لا يستطيع الإنسان العيش بدون أكل أو شرب، لكنه يستطيع العيش بدون جنس، بمعنى أنه ليس ضرورة تتوقّف عليها حياته. والحقيقة أن هذه مسألة غير ثابتة، فقد يتحوّل الجنس، بفعل الثقافة ومؤثّراتها، لشيء فقْدُه يؤدّي لمشكلات نفسيّة وعضويّة حقيقيّة. بمعنى أنه يصبح، كالأكل والشرب، شيئا قريبا من الضروري إن لم يكن ضروريّا فعلا.

     في المرحلة المشاعيّة من الوجود الاجتماعي للإنسان، عندما كان يلتقط قوت يومه من الأرض، ويشرب من الأنهار والمستنقعات كما تشرب السوائم، قبل اكتشاف النار والزراعة واستئناس الحيوان، لم يكن متصوّرا، في تلك البدائيّة السحيقة، تناولُ الطعام أو ممارسة الجنس بلذّةٍ كالتي نعرفها اليوم في الجنس والطعام، أي بحيث يُتناول للمتعة، لا للإنجاب أو سد الجوع. بحيث يكون غايةً بحد ذاته، لا وسيلةً لشيء آخر. ولعل اكتشاف اللّذة في تلك الأشياء كان وراء نزعة التملّك التي استولت على الإنسان، فأنتجت السلطة التي غيّرت كل شيء في حياته. يظل تخمينا معقولا في سياق تناول تأمّلي لموضوع كهذا. أفسحوا للثرثرة مجالا.

     فقط أتساءل هل تطوّر الطعام وأنواعه وتقنيّاته وفنونه يتساوق مع التطّور الذي طرأ على الجنس، نوعا وتقنيات فنون ؟ أرى أن الجنس ما زال محتفظا بفطريّته الأصليّة، ربما لأنه كعمليّة الأكل، الذي يبقى هو هو، رغم تغيّر المأكول : متمحورا -أي الجنس- حول الإيلاج والقذف مثلما يتمحور الأكل حول المضغ والبلع. إذن ما الذي استجدَّ في الجنس ؟ ربما ضروب مباعثه ومحفّزاته، أي أشياء ثقافية، حيث تطوّرت فنون الإثارة وتقنياتها، ما خلق -بدلا من الإشباع- حالةً من الظمأ الجنسي المستمر. ولعلها مفارقة الجنس دونا عن غيره من أنواع الملاذ والمشتهيات.

     يُخيّل إليَّ أن كسر مركزيّة العضو التناسلي في العمليّة الجنسية من خلال التوسيع المتزايد لنطاق الانتشاء واللذّة، وتوزيعها في كافّة أنحاء الجسد (الشفاه، النهود، الأردف، المص، اللّحس، العض، الخلفي، أشكال الاحتضان، تنوّع الوضعيات، الخ) كانت محاولةً يائسة لاحتواء التوق المتفجّر للطرف الآخر، حيث إنه من الحُسْن أو الظرف أو الملاحة ما لم يعد معه العضو التناسلي كافيا للارتواء منه، وأصبحت هنالك حاجة لأكثر من حاسّة للمشاركة في تناوله. هل هي محاولة لاستخدام الجسد من أجل إطفاء رغبة ليست من طبيعة جسديّة أصلا، كالتعلّق العاطفي أو الحب مثلا ؟ أظن أن التأمّل في عيني ضجيعتك التي تحبها يبرهن لك، أكثر من أي شيءٍ آخر، أنك ما تزال -رغم كل تجذيفك- على سواحلها، بعيدا عن الأعماق. لا أعرف إن كان ذلك مما يدل على أننا نسيء فهم أسباب افتتاننا بالأشخاص، حيث نسارع بتحويلهم إلى كتلٍ من اللّحم الطري، ونلجأ للجنس حتى نشبع منهم، لتخف سطوة الافتنان، ونتحرّر ! السؤال بعبارة أوقح : هل كس المرأة هو آخر ما في قنينتها، الذي إذا بلغه الرجل فقد شربَها ؟

الأربعاء، 9 ديسمبر 2015

ممشى (خاطرة في البرد)

     منذ مارست المشي كهوايةٍ أستمتعُ بها يوميّا، اكشفت أن أكثر ما أعانيه كان مجرد عادات سيئة. حصّة المشي الصباحي مما أثبت لي أن استحالة التحرّر منها كان وهما، كما اتّضح لي أن خمولي المزمن حالةٌ مزاجيّة في الأساس، شيء ينبع من الذهن ويفيض على الجسد ويثْقله، لا العكس. وحتى أطرده عن عقلي كان عليَّ أن أنهض ! عندما خرجت بالأمس قبل الشروق بنحو ساعة، كانت الشوارع خالية تماما، حتى من القطط ! وبعد أن قمت بالتسخين ووضعت سمّاعات الأذن وشرعت في المشي بخطى متسارعة، انتابني شعورٌ أنني من العظماء المعدودين على هذا الكوكب، وبدا لي البرْد شبحا لا يخيف سوى القابعين تحت بطاطينهم السميكة أو المتحلّقين حول نيرانهم. تشبّعت بهذه الطاقة التي أورثتني إياها الحركة، فقرّرت أن تكون الرياضة أولا، وقبل كل شيء. الحركة مولّد طاقة وأمل وثقة، للنفس وللجسد على حدٍّ سواء.