السبت، 25 أبريل 2015

الحوثيّون إلى المجهول


     كما لو أنهم يتأهبون لعملٍ انتحاري يائس، خرج القيادي الحوثي، محمد البخيتي، الليلة الماضيّة على قناة الميادين معلّقا على البيان الذي أصدره الرئيس المخلوع علي صالح، وقال إنهم غير معنييّن به ! كما أعرب عن رفضه القاطع لقرار مجلس الأمن الذي دعاهم علي صالح إلى تنفيذ بنوده، حيث ينص على وجوب سحب الحوثيين " قوّاتهم من المؤسسات الحكومة، بما في ذلك المؤسسات الموجودة في العاصمة صنعاء، وتطبيع الحالة الأمنية في العاصمة والمحافظات الأخرى، والتخلي عن المؤسسات الحكومية والأمنية، والإفراج بأمان عن جميع الأشخاص الموضوعين رهن الإقامة الجبرية أو المحتجزين تعسفيا "، كما يدعو القرار " كلّ الأطراف اليمنيّة، ولا سيما الحوثيون، إلى الالتزام بمبادرة مجلس التعاون الخليجي وآلية تنفيذها، وبنتائج مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة "، وكان رأي البخيتي أنه قرار غير واقعي، وأشار إلى أن تركهم السلاح يجب أن يكون نتيجةً للحوار والمفاوضات، فيما القرار الدولي ينصُّ حرفيّا على خلاف ذلك.

     صالح تخلّى عن الحوثيّين، حتما هنالك أسباب كثيرة دفعته للانسحاب بلا صمت، كالانشقاقات في صفوف حزبه التي لاحتْ في الأفق، إضافةً لمعرفته كعسكري مخضرم أن الحرب -وإن طال أمدها- خاسرةٌ لا محالة، فليرفعْ الراية البيضاء قبل أن تصير كفنه. لكن الحوثيّين قرّروا المضي قدما في مشروعهم المسلّح للاستحواذ على اليمن، مع علمهم المسبق أن قرار مجلس الأمن جاء تحت البند السابع، ما يخوّل المجلس استعمال القوّة لفرضه، الأمر الذي يجعل من إصرارهم على النحو انتحارا محقّقا، إذ سدُّوا الطريق حتى على من يريد أن يمدَّ لهم يدَّ العون.

     كنتُ أرى أن ذلك القرار الدولي هو أقوى ضربة وُجّهت للحوثيّين وأنصارهم، وأظنه حسم المعركة مبكّرا، حيث ساهم -كما رأينا- في تفكيك الحلف بين صالح والحوثيّين، لينفد بجلده ويتركهم يواجهون العالم (لا السعوديّة وحلفائها فحسب) وليس معهم سوى حجّةٍ داحضة وعناد قروي. القرار الذي ضاعف من شرعيّة الحملة العسكريّة منع الحوثيّين منعا باتّا من ترجمت انتصاراتهم العسكريّة سياسيّا، حتى لو اجتاحوا عدن وغيرها. كم ضربةً يحتاجها الحوثيّون ليعلموا ألّا فائدة تُرجى من الموت بالقذائف السعوديّة، اللهم إن كان زيود اليمن يرغبون، وبروحٍ استشهاديّة، في دفع ثمن بقاء بشّار في الشام، وهيهات !


الخميس، 23 أبريل 2015

شيعيّان في وطن سنّي



     في الخليج أقلّيات شيعيّة، جعفريّة واسماعيليّة وغيرها. تعلن عن هوى إيراني سافر، وتتعاطف مع حراك طهران في المنطقة، وتستبشر بتوسّع نفوذها، وتعلّق عليه آمالا قد أفهمها من شيعي متديّن، يرى أن حقه مهضوم في ممارسة طقوس عاشوراء وغيرها، كما يرى أن قناعاته الدينيّة غير ممثلّة في السلطة بالشكل الذي يرضيه، ولعله يغبط إخوته الشيعة في العراق ولبنان، عندما يراهم يرفعون بكثيرٍ من الفخر صورا كبيرة لرموزهم ومراجعهم في الشوارع والطرقات، ويزيّنون حوائط ملتقياتهم العامّة بأقمشةٍ من قطيف نُقشت عليها أدعيّةٌ وأسماء مقدّسة، وفي حسينيّاتهم يمدّون الصوت عاليا باللعن والبراءة، بلا اعتراضٍ من أحد. البصرة وكربلاء تبدو -بالنسبة له- أبعد من حلم، حيث النقاء المذهبي التام.

     دلّت التجربة أن المتدّينين الطائفيّين، شيعةً وسنّة، لا يجدون حرجا في تمزيق مجتمعاتهم وتدمير بلدانهم، إن كان من شأن ذلك أن يوسّع من هامش حرّية يستوعب بعضا من ممارستهم الدينيّة، التي فرض عليهم منطق التعايش الديني والمذهبي أن لا يمارسوها. ولأنهم يعتقدون أنها أعمال صالحة تجلب رضوان الله، فإنه من المشروع دينيّا تقويض مجتمعاتهم وتفكيك دولهم، وذلك لأن تحقيق مرضاة الله مقدّمٌ على كل شيءٍ، ولو كان استقرار الدولة والمجتمع. بعبارةٍ أخرى : لأن المجتمع المتعدّد يفرض قيودا على بعض الممارسات الدينيّة، فإن كسر هذا القيد فريضةٌ دينيّة، يجب القيام بها !

     لكن هنالك شيعي آخر، يختلف عن الأول، لا يطالب بالمزيد من الحرّية الدينيّة، على العكس، ربما يشجّع حظر بعض الفعاليّات الدينيّة، لكونها تعكّر السلم الاجتماعيّة وتزرع الفتن بين الناس، اعتقاد منه أن عمران الآخرة لا يتطلّب تخريب الدنيا. وينشط في المطالبة بحقوقٍ من نوع آخر، ذات طابع مدني، لا تختلف بتاتا عمّا يطالب به مواطنوه في تلك البلدان : مساواة في الفرص والوظائف، تفعيل آليات الشفافيّة والمحاسبة، رفع الحظر عن تداول المعلومات وإطلاق حرّية الإعلام، إشراك الشعب في عمليّة اتخاذ القرار والرقابة على تنفيذه. بشكل عام، هو يريد دولة قانون ومؤسسات. وهي مطالبة لا يقدّمها بوصفه شيعيّا، بل بوصفه مواطنا.

     بحكم وعيه المتنامي، فهو يرصد -عن قرب- درجة التطوّر والانفتاح التي يمرُّ بها بلده ومجتمعه، ويتفاءل بالتغيّر الملحوظ، ويعوّل على الزمن. لقد خرج من غيتو الطائفة، وتخلّص من مشاعر الأقلّية الناقمة دوما على من تعتبرهم الأكثريّة، ببينما هم في الواقع خليطٌ غير تام الانسجام. استطاع أن يكتشف الأوهام المؤسِسة للأكثريّة في عقول الأقلّية، ووجدها من نفس نوع الأوهام المؤسِسة للأقلّية في عقول الأكثريّة، فعرف أن تحقيق الوطن كفكرة، يقوم -فيما يقوم- على تفنيد هذه الأوهام وتعريتها وإسقاطها.

     هذا الشيعي المستنير يدرك تماما أن إيران لم تقدّم للشيعة إلا المزيد من الحسين والبنادق، وأنها تعد بشييد حسينيّاتهم، لكن فوق ركام بلدانهم. ومشكلته أنه قد يُصاب بالخرس إذا احتمدت الأوضاع وتعالت طبول الحرب، بل وأحيانا تختلط عليه الأمور، فيهفوا قلبه لطهران وإن بقيَ عقله في عاصمة بلده ! ورأيي أن لا نبالغ في انتقادهم والتشهير بهم، فما هي إلا لوثة عاطفيّة تنتاب كل أحد، سُرعان ما يفيق منها ويعود لرشده. عرض عاطفي، لا طائفي. للنشأة الأولى ومألوفاتها أثرٌ في النفس لا يُمحى، من الطبيعي أن يطفو في لحظاتٍ ما، لكنه يعود إلى القاع، تاركا العقلَ وشأنه.


الثلاثاء، 21 أبريل 2015

المصالح والعقائد (محاولة لفضِّ الاشتباك)


     بنظرةٍ لا ينقصها من التشاؤم، يبدو الشرق الأوسط موشكا على التفكّك إلى وحداتٍ أصغر من دوله القائمة، إلى كيانات أو إمارات دينيّة ومذهبيّة وإثنيّة وقَبَليّة .. إلخ، فقد أصبحت الدولة الوطنيّة الجامعة اليوم أبعد منها بالأمس، بدليل ارتهان شرعيّتها لقوّة الجيوش وأجهزة الأمن. وباتت الشر الأخف، حيث استبدادها وفسادها، بكل المقاييس هو الأقل سوءا مما هو قادم.

     كان مفاجئا ذلك الانهيار والتشرذم المريع، ربما لأنه كشف عن موت الأمّة الكبيرة، أو لعلّها كانت وهما رومانسيّا ظلَّ يشدُّنا نحو حلم الوحدة، لنصحوا منه على حقيقة أننا أممٌ صغيرة (فِرق دينيّة وجماعات أهليّة)، تنزعُ كلُ واحدةٍ منها للاستقلال بنفسها، وممارسة قناعاتها الدينيّة الخاصّة، ولا تلبث أن تنقسم -هي الأخرى- على نفسها، وتستقل كلُ طائفة لتمارس قناعاتها الخاصّة أيضا. كلما تتجدّد في الدين مذهبٌ ووُلدت طائفة قُظمَ من جسد الأمة جزء، يصير كلّا لوحده بعد ذلك. هل هي طبيعة الأمّة الملّية ؟ ربما. لكنه -على أيّة حال- يلقي الضوء على علّة قمع الدول القديمة لأي بادرة انشقاق دينيّة، حيث كان استقرار الدولة نابعا من انسجامها عقائديّا. الغربيّون كسروا تلك القاعدة المتوارثة، عبر فك الارتباط بين المعتقد والدولة، فلم يعد انسجام معتقدات الشعب شرطا لاستقرار دولتهم.

     بينما العالم يراكم نجاحاته التاريخيّة، ويتقدّم إلى عصر ما بعد الدولة الوطنيّة، نحو الكيانات الأكبر، التكتّلات القائمة على المصالح، أي شؤون الحياة، ينزلق الشرقُ الأوسط لعصر ما قبل الدولة الوطنيّة، نحو الكيانات الأصغر، المتصارعة على عقائد، أي شؤون ما بعد الموت ! إنها تجارب ماثلة، آثارها محسوسة، وقابلة للإحصاء والمقارنة، فلا يجوز بتاتا إغفالها.

     في عالمنا العربي والإسلامي، هل مشكلتنا هي في مذاهبنا المتنابذة أم في مصالحنا المتضادّة، أم أن كل واحدةٍ كانت مجرد تعبير عن الأخرى، كلاهما ناجمٌ عن الآخر بصورة جدليّة، يختلط فيها السببُ بالنتيجة؟ سؤال يحتاج كثيرا من التأمّل، لكني أعتقد أن مشكلة المصالح المتضادّة، مهما كانت شائكة، فيمكن حلُّها على طاولة حوار. هنالك دائما منطقة وسطى، تُتبادل فيها التنازلات. أما مشكلة العقائد، فلا يمكن حلُّها بتلك السهولة، إذ يتعذّر تقديم تنازلات متبادلة، لأنها حقائق مطلقة، لا تسمح بوجود منقطة وسطى يُلقى فيها السلاح والحقد.

     إذن لا بد من محاولة فضِّ الاشتباك بين العقائد والمصالح، على الأقل من أجل الحد من العنف كي لا تتسع حرائقه في مجتمعاتنا. إن الصراع على المصالح أخف كثيرا وأطوع للمساومات وأقرب للحل، من الصراع على العقائد الذي قد لا ينتهي إلا بالتدمير المتبادل. كما أن فضَّ الاشتباك من شأنه قطع الطريق على كل ما يحاول تغطيّة صراع المصالح بصراع العقائد. فضُّ يبدأ بمستوى اللّغة والمفهوم، ذلك لأن الخلاف ليس على مَنْ مع الله ومَنْ ضدّه، لا، بل حول الدستور والحرّيات وبنية السلطة وأسس توزيع الثروة، وما إلى ذلك من شؤون الحياة. وبهذا تختفي الآيات والأحاديث من الخطب والبيانات، ما سيؤدي تلقائيّا لتلاشي ظاهرة الاستشهاد والتفاني المميت في الحرب. فلا يُتوقّع من شعبٍ يطمع في حياةٍ أفضل، أن يصغي لمن يدعونه للموت مجّانا. إن من يصرُّون على خلط العقائد بالمصالح، إنما يغطّون فشلَهم في التعايش بنزوعٍ لحرّية مدّعاة.

الجمعة، 17 أبريل 2015

روان


     روان فتاة تقف على رأس الثلاثين بتوجّس امرأةٍ لم تحسم أمرها بعد، في خضم الخيارات الآخذة بالارتقاء والتحسّن، وقد شرعت تترامى عليها كل يوم، على شكل شبابٍ مدلّلين، عوائلهم ثريّة ونافذة. كالفراش يقعون في وهج روان.

     شهادتها أشبعتها خبزا وكعكا. لكنها تاقت للتشيز كيك الفاخر والشوكولاه الإنجليزيّة، فجرّت الكحل ووسّعت فتحة النقاب وتخفّفت من تحرزها الموروث تجاه الجنس الآخر، ففوجئت بخواتم الماس الصغيرة وصناديق الآيفون المغلّفة وترقية وظيفيّة انتشلتها من القاع. أصابها ذهول من اكتشف صدفةً بئر نفط وسط فناء بيته الشعبي، الآيل للسقوط !

     هل تسلّم نفسها للنزوات وتستمر في فتح أزرار قمصانها الحريريّة، أم تلملم شعرها وتفكّر في المستقبل بجدّية المهموم بغده ؟ وبعد حيّرة وتردّد، توصّلت إلى أنه لا تعارض، فافترّ قميصها عن ابتسامة.

     وجهها متناسق ومليح، وقوامها فوق المتوسّط. صحيح أن مؤخرتها كبيرة نسبيّا، لكنها تتوارى بسبب خصرها المنفرط، الذي يتهدّل من الجانبين عندما تشد الحزام. إذا داومت بالجينز، تغدو حديث زملائها الذكور حينما يتجمّعون بعيدا عن زميلاتهم، أثناء البريك. لمّا عرفتْ بذلك، انتظرتْ بفارغ الصبر نزول الراتب حتى تشتري مزيدا من الجينز والأحذية ذات الكعب العالي، ربما لتستولي على أحاديثهم خارج البريك أيضا. يفعل الإطراء بالأنثى ما تفعل الخمرة في العقول، وأكثر. ولذا تنفق في شرائه الكثير. لا تدّخر شيئا من أجل أن تقطف ثمراته من الأفواه والعيون.

     كبنات جنسها، تعتقد روان أن وقْع الكعب على الأرض يخرق صدر الرجل. وإن هبَّ عطرها، فقد يُصاب بالنزيف قبل أن يتبيّن هويّة من سدّد الطعنة !

     تعرف روان أنها جذّابة، لكنها لا تعرف أن أكثر جاذبيّتها مدفون تحت لسانها وذائبٌ في ملامحها. لا يُرى، لأنه لا يُدرك بالحواس الخمس أصلا، فقط يشعر به المغرم بها. وإلى حدٍّ بعيد، تجهل روان أن الإنسان قد يحب لأسبابٍ متعدّدة، ليس منها بالضرورة جمال الصورة أو امتلاء الجيب.

     طريقتها في الحديث مثيرة حقّا، يهفو إليها قلب الغريب، تجتذبه، فيدنو كما لو أن بينهما عِشْرة طيّبة. كم تجيد روان جلب الانتباه بابتسامتها التي تعرف -بفطرتها كأنثى- متى ترسلها، ولمن؟ ولماذا؟ كل ذلك تختزلُه في انفراجة شِفه، ربع ضحكة بالضبط.

     بشيءٍ من التجريد، ألا تبدو هذه الإشارات المتبادلة بين الجنسين تتطوّر مع الوقت، أي مسألة خاضعة للتقدّم الثقافي، لكننا نلتقطها -ذكورا وإناثا- بصورة بدائيّة جدّا، ربما لأن الذكورة والأنوثّة غريزةٌ سحيقة الوجود في أعماقنا كبشر، لا تخضع لمنطق التطّور والتقدّم ؟! رغبتك في المرأة هي نفس رغبة أبيك وجدّك آدم. وكذلك رغبتها فيك، هي نفس رغبة أمّها وجدّتها حواء. لا فرق نوعي. مشاعر القلب كانتفاض القضيب، أشياء خارج صيرورة التاريخ، أي التطّور. (حول هذه النقطة، انظر مقالتي "تأملات في الجنس").

     روان أجمل ما تكون المرأة الّلعوب الشقيّة، تعد بالكثير، فإذا علِقَ الضحيّة بشراكها، تفحّصته، ثم طرحته وذهبت بلا اكتراث. لم تقترب من رجلٍ فوجدته كما خُيّل لها. الانطباع الأوّل خدّاع، هكذا تقول دائما. تمارس الانتهازيّة أحيانا، لكن بلا غدر، أو بقليلٍ منه. للضرورات أحكام في النهاية ! لا تحب التعمّق في هذه الأمور حتى لا يصحو ضميرها المعذِّب، فيفسد عليها كل شيء. هي فقط تتفادى التورّط مع من تشعر أنها تقدر على اصطياد أفضل منه. ومشكلتها أن الأفضل مفقود دوما، يظل سابحا في غياهب خيالها كسرابٍ لاحَ لضمآن. تتخطّى الواحات وهي تلاحقه، إلى أن تغادر أراضيها المخصبة، وهي لا تدري !

     روان ليست شريرة، هي فقط امرأة اكتشفت أن أنوثتها ثروة طبيعيّة، فحاولت أن تستثمرها بطريقتها، خصوصا في مجتمع الندرة، المحافظ. وجدت أن الناس -بمعنى ما- درجاتٌ في سلّم، فصعدته. روان لا تقتل، ربما تخدش أو تجرح فقط. فيها من لطافة النشّالين، تسرق بخفّة، لكنها لا تأتي على كل ما لديك. تتركك غاضبا، لا متشحّطا في دمك، تلفظ أنفاسك الأخيرة.

الأحد، 12 أبريل 2015

عن الحوثيّين (شيءٌ من التاريخ)



الإمامة، الحلم الضائع :
أزالت ثورة 1962م الزيود عن عرش صنعاء، الذي اعتلوه منذ قرون مديدة، مكتسبين شرعيّتهم من المذهب المتمركّز حول النسب النبوي. وسلّم لهم الجنوب الشافعي، ورضخ لحكم الإمام الشيعي العلوي الفاطمي، الجالس بصنعاء، الذي منح شيوخ القبائل السنّية وإماراتها ما يشبه الحكم الذاتي، شرط أن يلتزموا بالنُصرة إن طُلبت، والإتاوة. والضمان كان رهينةً تُؤخذ من بيت شيخ القبيلة وتُسلّم لحضرة الإمام، بلا أغلال. هكذا كان يضمن ولاءهم ! لكن الثورة الجمهوريّة أنهت حكم الأسر المقدّسة ورسومه وتقاليده، ربما للأبد.

لم يعد الزيود بعد اليوم أتباع المذهب الحاكم المهيمن في دولة الإمام الإلهي، بل مواطنون كغيرهم من سواد اليمنيّين في دولة الرئيس المنتخب. وصار الحكم يُبنى على نصوصٍ دستوريّة تستبعد شرط المذهب والنسب في شخص الحاكم، إلا أن الحكم كان قائما في الواقع على جملةٍ من التحالفات والتوازنات يدّعي الزيود أنها بخستهم وهمّشتهم، فغمرهم الشعور بالظلم والقهر. لذا كان سقوط الإمامة بداية انحسار الزيود عن صنعاء وانكفائهم نحو القرى والأرياف، خصوصا صعدة، أقصى الشمال، ليُفاجؤوا هناك بالوهّابية وهي تضرب أطنابها على تخومهم، بعد أن أدارت رواق خيمتها على أكثر جزيرة العرب، وأودت بحكم الهاشميّين في الحجاز، واستولت على ضريح النبي وقبلة المسلمين، وشرعت تخترق الفضاء الزيدي في عُقْر داره !

هل الجاروديّة شذوذٌ عن المذهب أم مجرد اختلاف داخله ؟
في السنين الأولى من عمر الجمهوريّة، كان الضّغط على الزيود شديدا، حيث العهد بسقوط أئمّتهم قريب، وحيث إن من أصول مذهبهم إعلانُ الثورة من أجل "إعادة الحق إلى أهله"، أي السلالة العلويّة الفاطميّة. ولهذا صرّح بعضُ مراجعهم الكبار، كالشيخ علي العماد، بأن هذه المعتقدات ما زالت تخيف الحكّام، وأنه "يجب على علماء المذهب الزيدي في اليمن تمزيق الفصل الصغير الموجود بآخر كتاب فقه السير، وهو فصل شرط البطنين في الخلافة"، مشيرا إلى أن وقته قد انتهى، ولم يعد صالحا للتطبيق في هذا الزمن (في لقاءٍ مع صحيفة الوسط، الأربعاء، 8/3/2006).

لم ينفرد الشيخ علي العماد بهذا الرأي، بل شاركه مراجعُ آخرون من الزيديّة، كمجد الدين المؤيّدي وحمود عبّاس المؤيّد ومحمد المنصور وأحمد الشامي. لكن خالفهم مرجع شهير، يُدعى بدر الدين الحوثي، فأصرَّ على المرقوم في الكتب الصفراء العتيقة، من اشتراط البطنين في الحاكم الشرعي المعتبر. بمعنى أن يكون من سلالة الحسن والحسين حصْرا. وقد مثّل هذا الفقيه التيّار المتشدّد المنغلق داخل المذهب الزيدي، وكان في موقفه هذا محرجا للمذهب أمام السلطة والمجتمع، الأمر الذي جعله عُرْضةً للضغوط، فترك اليمن قاصدا إيران، وأقام في ضيافتها سنين زادتُه صلابةً في موقفه وأشربته أشياء من التشيّع الجعفري الإثني عشري. وربّما ولّدت فيه هوى سياسي ورّثه لذرّيته وأتباعه فيما بعد.

ولأن الخطاب الراديكالي يكسب في كل الاستقطابات الحادّة، فقد اكتسح المنزع الحوثي الشارع الزيدي، وسحب البساط من تحت المعتدلين. فسادت الجاروديّة، وهي فرقة زيديّة مغاليّة، قريبة الشبه في مقالاتها من الجعفريّة الإثني عشريّة، كما نصَّ شيءٍ من ذلك مراجعُ الزيود، في بيانهم الذي أعلنوه للتبرّوء من الحوثيين عندما اشتبكوا مع الجيش اليمني في سلسلة من المعارك، التي ابتدأت عام 2004، ولم تنتهِ بمصرع حسين الحوثي.

لعبة التحالفات :
حلَّ عام 1990 وقد انتصر شمال اليمن على جنوبه، فيما عُرف بـ "الوحدة" (بعبارةٍ أخرى : هزيمة مشروع الانفصال الجنوبي)، والذي استدعى بعض التغييرات في الدستور إثر التوصّل لاتفاقيّات شاملة، فاعتُرف بالتعدّدية وأُطلقت الحرّية لإقامة الأحزاب. فسارع الزيود بكافّة درجات تشيّعهم -فيمن سارع من اليمنيّين- لإنشاء أحزاب سياسيّة، كحزب الحق، واتّحاد القوى الشعبيّة، وحركة التوحيد والعمل الإسلامي. ولنأخذ حزب الحق مثالا، ولعلاقته بموضوعنا.

نشأ هذا الحزب مع رفع الحظر عن إقامة الأحزاب، والتف "السادة" الهاشميّون على مراكزه، حيث اختير أحد أكبر علماء الزيديّة في اليمن، وهو مجد الدين المؤيّدي، رئيسا له. كما اختير "السيّد" أحمد الشامي أمينا عاّما مساعدا. واحتلَّ رئاسة معظم الدوائر "سادة". وكان الحزب منضويا في الجبهة التي يقودها الحزب الاشتراكي الرامي لإضعاف سلطة صنعاء (سعيّا -وقد تعذّر الاستقلال- لإقامة نظامٍ لا مركزي)، باسم التكتّل الوطني للمعارضة، في وجه الجبهة التي يقودها المؤتمر الشعبي، الحزب الحاكم، بزعامة علي صالح. والتي ضمّت آنذاك الأحزاب الإسلاميّة السنّية، وعلى رأسها التجمّع الوطني للإصلاح، الواجهة السياسية للإخوان المسلمين.

كشفت تجربة الانتخابات البرلمانيّة عن حضور هزيل للحزب، إذ لم يفلح في أكثر من دورة في الوصول للبرلمان، سوى عام 1993، حيث وصل اثنان من مرشّحيه إلى البرلمان، أحدهما حسين، نجل المرجع الزيدي المتشدّد، بدر الدين الحوثي، فيما اكتسح المؤتمر الشعبي الحاكم وحلفاؤه البرلمان. وكان لحزب الحق صحيفة يوميّة سمّاها "الأمّة"، ظلّت على مدى سنين تروّجُ لإيران وإيديولوجيّاتها ورموزها السياسيّة والدينيّة.

التنافر والاضمحلال :
لأسبابٍ متعدّدة، أخذ حزب الحق يتفكّك، وخرج حسين بدر الدين الحوثي ومجموعة معه ليؤسّسوا تنظيما عُرف بـ "الشباب المؤمن". لعل تجربتهم السياسيّة الفاشلّة جعلتهم يعون أهمّية خلق قاعدة شعبية قبل البدء بأي نشاط سياسي مثمر. وطريقتهم لذلك هو العمل الثقافي المنظّم، الذي لم يكن يعني سوى إحياء المذهب والسعي إلى تأسيس المعاهد وإقامة الدروس في المساجد المتناثرة في المناطق الزيديّة.

لأنه حزبٌ عقائدي بحت، كان عليه أن يخلق قاعدته الشعبيّة بواسطة الدعاية الدينيّة والتبشير المذهبي. لم يكن لديه مشروع مدني بالمعنى الكامل للكلمة، يعمل على تأصيل التعدّدية في المجتمع، وبالتالي : تكريس الدولة الديمقراطيّة. بل دّلت الأحداث المتلاحقة على أنه كان يرمي لاسترداد دولة الإمامة، ويشحذ العقيدة في المجتمع الزيدي حتى لا ينسى أبناؤه وبناته هويّتهم المذهبيّة وإمامهم البائد !

وكما هي العادة، فقد دأبت السلطة عبر أجهزتها ومؤسساتها وحزبها الحاكم على محاولة اختراق أحزاب المعارضة وتشتيت صفوفها، وتشجيع الانشقاقات داخلها. وقد كان، إذ ثبت ضلوع السلطة في دعم حسين الحوثي لينشق عن الحزب. يشير بعضُ الباحثين إلى تضافر الدور الخارجي الإيراني مع الدور الداخلي للسلطة الحاكمة في تبلور الظاهرة الحوثيّة، هذا بالإضافة إلى الفشل الذاتي للحزب الذي خرجتْ من رحمه مولودا مشوّها.

من الضروري وضع الأحداث في سياقها التاريخي، حتى تُفهم بصورة صحيحة. لم يكن الحوثيّون آنذاك سوى مجموعة مغاليّة أيديولوجيّا، تعمل في فضاء زيدي بحت، ومصلحة السلطة في ظهورها تتلخّص في تمزيق المعارضة الزيديّة وإضعاف الهاشميّين، كما أن إيجاد معادل موضوعي للسلفيّة الجامحة في صعدة بات ملّحا، خصوصا بعد التوجّس منها إبّان أحداث سبتمبر 2001. على أيّة حال، لم يكن الحوثيّون يومها سوى قطٍ يعبث في قن دجاجٍ مزعج، هذا قبل أن يتحوّلوا -لعوامل كثيرة- إلى قطيعٍ هائل من الذئاب الضارية.

انقلاب السحر على الساحر :
مع تنامي دعاية حسين الحوثي ورفاقه اتّسع نطاق تأثيره وكثُر أتباعه ومناصروه، وشرع بالتدريج يتنمّر على السلطة ويستفزّها ويرفع شعاراتٍ تحرجها أمام أهم حلفائها في العالم، الولايات المتحدّى الأمريكيّة، كما في شعارهم الشهير "الموت لأمريكا .. الموت لإسرائيل .. إلخ". وبعد شدٍّ وجذب مع السلطة التي بلغها أن السلاح وصل لأيدي رجال حسين الحوثي، وبينما الرئيس اليمني عائد من الحج برّا، عام 2003، قرّر أن يصلي في أحد جوامع صعدة، ويرقتي المنبر ليخاطب أهالي المنطقة، ليفاجئ أن حسين الحوثي قد سبقه إليهم وغسل أدمغتهم، فهبّوا في وجهه وصرخوا بـ "الموت لأمريكا .. الموت لإسرائيل .. إلخ". ولا عجب، عقل العامّي -كما يقول البليهي- يحتلُه الأسبق إليه.

كانت هذه شرارة الحرب، حيث اعتُقل المئات وزُجّوا في السجون، واستُدعي "المحرّض" حسين الحوثي للتحقيق معه، وعندما رفض الحضور، أُرسل الجيش له في صعدة. لتُفتتح سلسلةٌ مع المعارك الشرسة. كلّفت اليمن عشرات الآلف من القتلى، ومليارات الدولارات. قُتل حسين مبكّرا في المواجهات، فتولّى زعامة الجماعة والده (بشكلٍ رمزي)، المرجع الديني الكبير، بدر الدين الحوثي، مما ساهم في مضاعفة الأنصار بين صفوف الزيود العاديّين، ربما ممن لم تكن له أيّة اهتماماتٍ سياسيّة. وضعت تلك الحروب أوزارها بهزيمة اليمن. وانكفَّ الحوثيّون في محافظتهم يلعقون جراحهم، ورجع الجيش إلى ثكناته يجرُّ آلياته المعطوبة.

في بحر السياسة لا بوصلة مبدئيّة :
كانت ثورة الشباب اليمني 2011 فاتحةً لعودة الحوثيّين مجددا، حيث أطاحت بخصمهم الألد، علي صالح. عميل أمريكا وإسرائيل واليهود، كما يقولون. أيّد الحوثيّون الثورة، وكانوا -على مضضٍ- ممن وقّع على المبادرة الخليجيّة، التي تنظّم عملية انتقال السلطة بشكلٍ سلمي، مع منح الرئيس السابق وعائلته حصانةً من المحاكمة، وهو ما رفضه الشباب الثوّار قاطبةً، لكن إرادة الخليجيّين مضتْ في نهاية، فقُطع حبل المشنقة عن عنق علي صالح، ليعود ويتحالف مع الحوثيّين ضد من خلّصوه من موتٍ محقّق. لماذا فعل ذلك وقد سقط بالإجماع الوطني كرئيس ؟ وكيف قَبِل عبدالملك الحوثي أن يضع يده بيد قاتل أخيه، وعميل أمريكا وإسرائيل واليهود ؟ وبأي وجهٍ يسوّق الحوثيّون حربهم هذه على أنها حربٌ على اليهود والنصارى وأوليائهم؟ إن ذهبت تفتح القرآن بحثا عن أجوبة، فلن تفهم شيئا. إذ لا علاقة بما جرى ويجري وسيجري بشيءٍ خارج إطار السلطة والثروة، أي الدنيا.