الثلاثاء، 15 ديسمبر 2020

#ظاهرة_انتحار_الحيتان


     كان الإعلام مؤسسيا مركزيا، بيد الحكومات الشمولية، أو الكيانات المرتبطة بالحكومات، كالشركات المنظوية في جماعات الضغط، الممولة للانتخابات، الداعمة للمرشحين، والتي تشكل جزءا لا يتجزأ من النظام الديمقراطي. يدور الإعلام في فلك المصلحة التي تدور، هي أيضا، في فلك السياسة. ثمة علاقة جدلية. ومنتجات الإعلام تمر بذات خط الانتاج. منتج صناعي، تضبطه إدارة وموارد وقوى عاملة وخطة. لا شيء يُترك للصدف. لا خروج عن النص. ويجري التهرب من رتابته إذا تفشت بتجديد محتواه وصيغه ووجوهه. إلا أن الرتابة تخيم، في النهاية، على المستهلكين (المتلقين)، فيسأمون. 


     أحدثت الكاميرا الخفية وتلفزيون الواقع وبرامج ما وراء الكواليس اختراقا نوعيا. ثمة عفوية تنساب في حشد من مصادفات أُريد لها أن تتدافع نحو الكاميرا، دون سابق ترتيب. واعدةً بما لا يُتوقع. خالقةً جوا ممتعا من التشويق والترقب. ربما لأنه واقع خام، غير مصنع ولا مختلق. 


     كانت ثورةً بوجه خط الانتاج المحكم والباعث على الملل. ثم حل عصر مواقع التواصل الاجتماعي، فتراجعت المؤسسة وطواقمها منالخبراء والفنيين. واندفع الفرد حرا، ينتج ما يرى ويسمع. ما يستهلك. تفكك خط الانتاج الصناعي المؤسسي. وانفض المستهلكون (المتلقون) من أمامه. عصر جديد، بمفاهيم جديدة. ومحاولة ضبط المحتوى في مواقع التواصل، بدعوى تنسيقه وإثرائه، أي مأسسته، تبدو محالة لفهم واستيعاب الوضع المستجد بمفاهيم ومناهج الوضع المتقادم. حنين لسلطة المؤسسة، لكن في واقع ديناميكياته تقود لأناركية، وعلى كافة المستويات تقريبا. العفوي المسترسل، المطعم بشيء من الضبط الفردي العشوائي. المعلومات المتناثرة في ثنايا لقطة سنابية لشخص عادي، يهرول على رصيف متآكل. هذا ما لعله يجعلني أرى من يثبتون الكاميرا على ذراع أو حامل، ثم يعالجون الصور والمقاطع، مجرد رجعيين، شموليون صغار. مثل عبيد أُعتقوا فجأة، فلم يعرفوا ماذا يصنعون بحرية فاضت عن حقيقتهم، فعادوا لرِق المؤسسة والخطة والمورد والخبير. 


     أقف متفرجا سلبيا، لأن كل استشراف لمستقبل هذه الأشياء، للتعامل معها، مأخوذ من تاريخ وحاضر أشياء أخرى، مختلفة. بينما هي لا تفتؤ تتمرد وتثور وتفرض اختلافها على من لم يفهمه. إنها ثورة إبداع المستقبل على قاعدة ومنهج الماضي. لهذا فكل من أصاب شهرة بسبب عفويته، يذهب ويستعين بخبراء وفنيين في الإعلام، إنما قد قرر أن يكون حوتا، جنح للمياه الضحلة حتى يموت على الشاطىء. لأنه لم يكن يدرك أن حياته إنما تستمر في أعماق الفوضى.


.

الاثنين، 9 نوفمبر 2020

الترامبيون العرب

 


     الترامبيون العرب، لا يؤمنون بالديمقراطية. بل ولا بالحرية. إنما بمسار حضاري متخيل. بيد أنه وصل (من وجهة نظرهم طبعا)، لنقطة تاريخية خطيرة، وانفتح على نقائضه ثقافيا، ما سيهدده بالانهيار وعودة بربريات محمية بدساتير ومؤسسات، هي ما تبقى من حضارة تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت أقدام المهاجرين، وهم يتدافعون نحوها، بعد سقوط جدار روما العالي. ليحل السوقة محل السادة. ويسقط من حقهم أن يبقوا في الأعلى للأبد، على يد من خُلقوا للقاع، أبدا.

      ومتى ما حفرت الأرض التي تقف عليها هذه الآراء المتصلبة، فلن تجد إلا رفات عنصري، اخشوشنت يداه من فتل حبال كان يستخدمها لشنق عبيده الآبقين. 

     كانت الديمقراطية، بالنسبة لهؤلاء، أداة لانتقال السلطة بين أحزاب تتمتع بقدر كبير من الانسجام، ولا تختلف في العمق. إنها وسيلة لاحتواء آراء، مختلفة بعض الشيء، حول إدارة ما يبدو وكأنه قطاع قد فُرغ من تحديد طبيعته ومجاله ووظائفه ووجهته. وكل يعترض ما سبيله ليس إلا "إرهاب" الرداءة، يجب التصدي له، حتى ولو تطلب الأمر، إلغاء الديمقراطية والتحايل على الدستور، أي تعليق عمل "القطاع" كله، وإيقاف نموه، لحين تطهير المكان وإبادة "البرابرة". وفي مواجهة من هذا النوع، كل شيء مسموح، بل ومطلوب بشدة. المفارقة أن هذه الفكرة استولت على قناصلة روما وأباطرتها، ولو نجحوا في التصدي للبرابرة، لما كان لأوروبا والغرب الذي نعرفه أن يوجد من الأساس !

     مكر التاريخ يعلمنا أن التطور لا يدين لأحد، وليس خطةً لأحد. 

الاثنين، 26 أكتوبر 2020

رايات وحشود وأقلام .. ودهر

      على المثقف، في مسعاه "الأبدي"، للتنوير، أن يتحلى بالشجاعة لمواجهة مفتوحة، ضد السلطة أو المجتمع. وألا يتفوه إلا بما يعتقد أنه الحق. بيد أن "الحق"، كثيرا ما يكون عالقا في مقاربات معقدة، سياسيا واجتماعيا، وأحيانا استراتيجيا. وعلى نحو أبدي أيضا. نسمع ونقرأ عن مثقفين قد أزمعوا على مكاشفة الجموع الغفيرة بحقيقة أن حرية الرأي أكثر قدسية من كل مقدس. وأنها المطلق الوحيد في خضم النسبيات المقدسة. وأن قمعها يقود لضروب لا تُحصى من الفتن والتقهقر الحضاري عامة. وهو، على ما يبدو، انحياز خالص للقيمة بوجه شتى الاعتبارات المصلحية. في تصور مؤسس على وجود قيم خارج التاريخ، فوق الظروف، مبرأة من دنس المصالح وتقاطعاتها، وغير مشروطة ولا مرتهنة للحسابات والمقاربات الضيقة بالضرورة. لكن تاريخ القيم المؤلهة عند كل المثقفين، زاخر بالمقاربات والحسابات والمصالح، وكل انتصار لقيمةٍ ما، جاء كحاصل، غير مخطط له، وتقريبا غير مقصود للفاعلين في السياق التاريخي، إن كان ثمة من إرادة فاعلة مستقلة في التاريخ. فأشهر الثورات في التاريخ المعاصر؛ الأمريكية، الفرنسية، والروسية. لم تكن القيم الخالصة على جدول أعمالها عندما اندلعت، إلا كشعارات خفّاقة بغرض التعبئة والاحتشاد. مسيرة التطور البشري تزحف عمياء. والانتظام داخلها مغمور بالفوضى. لكن طبيعة معرفتنا تفضل اقتناص المنتظم المتتابع، في سلسلة من الأسباب والنتائج المضبوطة. هذا أسهل في التحليل والتنبوء، بيد أنه لا يعبر بالضرورة عن الواقع. ولا مناص من البناء على ما نعرف (أو ما نتخيل أننا نعرفه)، حتى لا نسقط في لا أدرية سلبية. وفي خضم هذه الميتافيزيقا يتعين إبقاء القيم فوق الواقع، كي لا يسقط على نفسه وعلينا. لكن أية قيم؛ التعايش أم الحرية ؟ هذا حديث آخر.