الاثنين، 14 سبتمبر 2015

her (فضفضة سينمائيّة)

     
     استوقفني كثيرا هذا الفيلم، هزّني كثيرا، أحببته كثيرا. وفور انسحاب الكاميرا وتراجعها الختامي المترافق مع ارتفاع صوت الموسيقى للبدء في استعراض أسماء فريق العمل، أخذتُ نَفَسَا عميقا، وعقدتُ العزم على تكرار مشاهدته. كان عملا رائعا حقّا. تشرّبت كل ثانية فيه، وفهمته كما أفهم أشيائي الخاصّة، ووعيته مثلما أعي أسراري قبل أن أحيطها بالكتمان المتوتر.

     يمكن اختصار قصّته، متوخيّا ألا أحرقه على ما لم يشاهده للآن، حيث يروي قصّة أديبٍ اسمه ثيودور، يعيش فراغا عاطفيّا كئيبا، ربما بسبب انفصاله الحديث عن زوجته التي أحبها بصدق. ولأنه ما يزال يتابع إجراءات الطلاق الذي لم يُنجز بعد، كان الضغط الوجداني عليه شديد الوطأة. زاد حالته سوءا أن طبيعة عمله لا تساعده على التعافي والنهوض من سرير ذكرياته المحمومة، حيث يعمل محرّرا للرسائل الأدبية، خصوصا الرومانسيّة، مما يجعله في قبضة ماضيه العاطفي بشكلٍ دائم. يملء محبرته دمعا، يغمس قلمه في عمق الجرح ويكتب، "رسائلُه منازلُه يعمّرُها بلا سببِ ".

     ولأنه فيلم خيال علمي، كانت شبكة الترابط التقني المتطوّرة تغطّي كامل المسطّح الزمكاني لحياة ثيودور، متغلغلةً في تفاصيله اليوميّة، حتى متعه الجنسيّة صار إشباعها إليكترونيّا. وكل تلك الأنظمة يُتحكّم بها مركزيّا عن طريقة برنامج تشغيل، يتواصل معه ثيودور صوتيّا، بكلمة يراجع إيميله ويرد، بأخرى يحجز في القطار ويؤكّد، وهكذا ينجز سائر أشغاله المعتادة.

     في نظري، لكل فيلم لحظة بداية حقيقية تتأخر بعض الشيء، فيكون ما قبلها مجرد توطئة فقط، بمثابة الشرارة التي تشعل السيناريو، فتدلهمُ الخطوب وتتواتر الأحداث. كانت لحظة البداية هنا عندما اقتنى ثيودور برنامج تشغيل جديد، أكثر تطوّرا وتعقيدا، يتميّز عمّا قبله بالقدرة على التطوّر والنمو ذاتيّا (ذكاء اصطناعي). يشبه من هذه الناحية الذكاء البشري، المكتَسب من خبراتهم وتجاربهم ومعارفهم المتراكمة، طبعا حاصل هذه الأمور هو ما نحن عليه كأفراد، كذوات مستقلّة، إذ الإنسان -كما يقول سارتر- دائما مشروع قيد التشكّل. لذا بدا برنامج التشغيل الجديد وكأنه إنسان تتكامل شخصيّته وتتبلور ذاته كل لحظة، لكنه يفتقد الجسد. حرص المخرج أن يضع هذه الحقيقة أمام المشاهد منذ الدقائق الأولى من لقاء ثيودور بنظام التشغيّل العجيب، وذلك كي يستوعب -أي المشاهد- حيثيات ورطة ثيودور مع "سامانثا"، وهو الاسم الذي اختاره برنامج التشغيل لنفسه، بعد أن اختار ثيودور تأنيثه.

     يُدهش ثيودور بإمكانيات سامانثا الفوق بشريّة، تخطف قلبه بأحاديثها الممتعة والطريفة وابتكاراتها الفذّة : أفكار، رسومات، معزوفات، ألعاب، اقتراحات .. شيئا فشيئا يجد نفسه قد أحبها ! لم يكن واقع ثيودور ثريّا بالعلاقات الإنسانيّة، كان جاهزا للاستلاب في الفضاء الافتراضي المرتقب. باختصار، كان نتيجةً تنتظر سببها لتقع ! ينجرف ثيودور مع عشيقته الافتراضيّة سامانثا التي تزداد أنثويّةً كلما أُولع بها أكثر، فتتمنّى -وهي تخترق شغاف قلبه- أنها تملك جسدا وتضمّه لصدرها، فيذوب ثيودور لسماع ذلك.

     يكتشف بعضُ المقرّبين منه الأمر فيرثون لحاله، الرجل واقع في غرام صوتٍ أنثوي يصدرُه نظام تشغيل. إنسان يفيض أخص مشاعره وأكثرها حميمية على آلة ! يغرق الرجل في لجّة سامانثا، تلوّح له قوارب النجاة، لكنه يغوص مغتبطا، ليصطدم بقعر الهاردسك الصلب، فتتكشّف حبيبته أنها لا شيء، ويدرك متأخرا أنه مفتونٌ بلا أحد، شيء لا حقيقة له، لكن استنفد منه أشياء حقيقيّة، حُشاشة قلبه ولباب روحه. وهنا تكمن مفارقة الفيلم. بدا لي وهو منكبٌ على سامانتا كمن يصنع مشنقته، يركّبها خشبةً فوق أخرى، يصعد درجاتها ويلف الحبل على عنقه، ثم يقفز معوّلا على الحظ وحده، علَّ سامانثا امرأةً حقّا، فتتلقّفه قبل أن يسقط ميّتا !

     معرفتي أن قام بدور سامانتا صوتيّا هي حسناء حقيقيّة، سكارليت جوهانسون، جعلتني أقفُ كمشاهد على أرضٍ صلبة، مطمئنا لسببٍ لا أعرفه، مشفقا على ثيودور وأنا أراه يمشي تحت الشمس على آخر بحيرة متجمّدة، تركها الشتاء قبل أن يغادر. هل كان الفيلم احتجاجا إنسانيّا على توغّل التكنولوجيا ؟ مجرد احتمال. أكثر فكرة ألحّت علي بعد الفيلم، هي : هل أعظم ما في الإنسان هو ذكاؤه أم مشاعره ؟! 

الأربعاء، 9 سبتمبر 2015

فكّني عليه ! (تأملات في المطاقّ)


     افتقاد الفرد لكثيرٍ من المهارات القتاليّة صار اليوم ظاهرة، وإذا ما نشب عراك بين اثنين تغلّبت عليهم أثناءَه العشوائيّة والانفعال والتشتت، بحيث تكون الضربات المجدية مجرد صدف نادرة وعمياء. لم يعد هنالك من فرقٍ كبير بين اشتباك الأطفال واشتباك الكبار، اللهم في استعمال الأسلحة الناريّة والآلات الحادّة. ما جعل العراك معادلا موضوعيّا للفوضويّة والارتباك والتخبّط، مفارقا -بالضرورة- كل ما يمت للفن والمهارة والعقلانيّة بصلة. ولعله من أسباب انقراض المقاتل البارع. بعبارةٍ أخرى : صار العراك حالةً من الخروج الكامل عن الفعل والممارسة المنتظمة.

     لنشوء الدولة الحديثة علاقة جليّة بالموضوع، بحكم تكفّلها بحفظ أمن الأفراد، وفرضها مسارات معيّنا لمعالجة كل ما ينجم عن سوء تفاهم طارىء، عبر الشرطة والقضاء والسجن. وذلك للحيلولة دون اندلاع أي اشتباك محتمل، وهذا طبعا بعد تجريم الاشتباك نفسه، لأنه تمرّد على سلطة من يُفترض أنها تحتكر العنف، أعني الدولة. كما للتطوّر التقني علاقة بالموضوع أيضا، حيث ابتُكرت أجهزة قلّلت من اعتماد الإنسان على عضلاته، كالمسدسات، والعصيِّ الكهربائيّة، وبخّاخات الفلفل، الخ. هنالك قاعدة تقول إن كل عضو أو مهارة لا تُستخدم، فإنها تصبح عرضةً للضمور والتلاشي. وهذا بطبيعة الحال ينطبق على القتال ومهاراته التي لا يمكن أن تُكتسب بشيءٍ سوى الممارسة على أرض الواقع. لكن ألا يعني كل هذا أن تخلّف الأفراد في إدارة العراك كان في الحقيقة نتيجةً لتقدّم المجتمعات، أنظمةً ومؤسسات !

     لم يعد امتلاك الفرد لمهارات القتال ميزةً ذات بال، فقد تراجعت اليوم أهمّية الفارس (البواردي، المبارز، الخ)، وما عادت ضمن متطلّبات الشرف والصعود للقمّة، حيث تحوّل مفهوم القوّة أصلا، مختزَلا في المال والثقافة والعلاقات، أي كل ما يُكسب نفوذا. هذه هي معايير التفوق حصرا، وبمقتضاها يحتل الفرد موقعه في التراتب الاجتماعي. إنسان اليوم أقل اعتمادا على قواه البدنيّة لإدارة صراعاته وحسم خلافاته، على العكس، صار اعتماده عليها دليلا على كونه ضعيفا، منحطَ المنزلة، نشازا عن القواعد المستجدّة للصراع الاجتماعي.

     ما دام للبشر، أفرادا ومجتمعات، مصالح من طبيعتها التعارض، فالصدام ليس مجرد توقّع. الصراع ثابت، لكن وسائلنا في خوضه وإدارته متغيّرة. إنسان اليوم يبدو مجبرا على ضبط انفعالاته وتكييفها لتتلاءم مع آليات الصراع في مجتمعات اليوم، النزّاعة أكثر فأكثر نحو المأسسة والتنظيم، أي ما يسمّيه فيبر "العقلنة"، عقلنة كل شيء، بما في ذلك العراك الشخصي. مما يعني أن العراك فعل غير عقلاني اليوم، وإن كان معقولا بالأمس. في ظل هذه التصورات والأفكار، كيف نفهم ظهور أندية تعليم فنون ومهارات الدفاع عن النفس ؟ هي معقولة في حدود كونها رياضة، تُقام لها بطولات عالميّة، يتطلّع بعض المنخرطين فيها لإحراز مجدٍ شخصي على منصات التتويج. عدا ذلك، فهي تبيع الأوهام، ولا يلتحق بها سوى مراهقين، سنّا أو عقلا.