الأحد، 12 أبريل 2015

عن الحوثيّين (شيءٌ من التاريخ)



الإمامة، الحلم الضائع :
أزالت ثورة 1962م الزيود عن عرش صنعاء، الذي اعتلوه منذ قرون مديدة، مكتسبين شرعيّتهم من المذهب المتمركّز حول النسب النبوي. وسلّم لهم الجنوب الشافعي، ورضخ لحكم الإمام الشيعي العلوي الفاطمي، الجالس بصنعاء، الذي منح شيوخ القبائل السنّية وإماراتها ما يشبه الحكم الذاتي، شرط أن يلتزموا بالنُصرة إن طُلبت، والإتاوة. والضمان كان رهينةً تُؤخذ من بيت شيخ القبيلة وتُسلّم لحضرة الإمام، بلا أغلال. هكذا كان يضمن ولاءهم ! لكن الثورة الجمهوريّة أنهت حكم الأسر المقدّسة ورسومه وتقاليده، ربما للأبد.

لم يعد الزيود بعد اليوم أتباع المذهب الحاكم المهيمن في دولة الإمام الإلهي، بل مواطنون كغيرهم من سواد اليمنيّين في دولة الرئيس المنتخب. وصار الحكم يُبنى على نصوصٍ دستوريّة تستبعد شرط المذهب والنسب في شخص الحاكم، إلا أن الحكم كان قائما في الواقع على جملةٍ من التحالفات والتوازنات يدّعي الزيود أنها بخستهم وهمّشتهم، فغمرهم الشعور بالظلم والقهر. لذا كان سقوط الإمامة بداية انحسار الزيود عن صنعاء وانكفائهم نحو القرى والأرياف، خصوصا صعدة، أقصى الشمال، ليُفاجؤوا هناك بالوهّابية وهي تضرب أطنابها على تخومهم، بعد أن أدارت رواق خيمتها على أكثر جزيرة العرب، وأودت بحكم الهاشميّين في الحجاز، واستولت على ضريح النبي وقبلة المسلمين، وشرعت تخترق الفضاء الزيدي في عُقْر داره !

هل الجاروديّة شذوذٌ عن المذهب أم مجرد اختلاف داخله ؟
في السنين الأولى من عمر الجمهوريّة، كان الضّغط على الزيود شديدا، حيث العهد بسقوط أئمّتهم قريب، وحيث إن من أصول مذهبهم إعلانُ الثورة من أجل "إعادة الحق إلى أهله"، أي السلالة العلويّة الفاطميّة. ولهذا صرّح بعضُ مراجعهم الكبار، كالشيخ علي العماد، بأن هذه المعتقدات ما زالت تخيف الحكّام، وأنه "يجب على علماء المذهب الزيدي في اليمن تمزيق الفصل الصغير الموجود بآخر كتاب فقه السير، وهو فصل شرط البطنين في الخلافة"، مشيرا إلى أن وقته قد انتهى، ولم يعد صالحا للتطبيق في هذا الزمن (في لقاءٍ مع صحيفة الوسط، الأربعاء، 8/3/2006).

لم ينفرد الشيخ علي العماد بهذا الرأي، بل شاركه مراجعُ آخرون من الزيديّة، كمجد الدين المؤيّدي وحمود عبّاس المؤيّد ومحمد المنصور وأحمد الشامي. لكن خالفهم مرجع شهير، يُدعى بدر الدين الحوثي، فأصرَّ على المرقوم في الكتب الصفراء العتيقة، من اشتراط البطنين في الحاكم الشرعي المعتبر. بمعنى أن يكون من سلالة الحسن والحسين حصْرا. وقد مثّل هذا الفقيه التيّار المتشدّد المنغلق داخل المذهب الزيدي، وكان في موقفه هذا محرجا للمذهب أمام السلطة والمجتمع، الأمر الذي جعله عُرْضةً للضغوط، فترك اليمن قاصدا إيران، وأقام في ضيافتها سنين زادتُه صلابةً في موقفه وأشربته أشياء من التشيّع الجعفري الإثني عشري. وربّما ولّدت فيه هوى سياسي ورّثه لذرّيته وأتباعه فيما بعد.

ولأن الخطاب الراديكالي يكسب في كل الاستقطابات الحادّة، فقد اكتسح المنزع الحوثي الشارع الزيدي، وسحب البساط من تحت المعتدلين. فسادت الجاروديّة، وهي فرقة زيديّة مغاليّة، قريبة الشبه في مقالاتها من الجعفريّة الإثني عشريّة، كما نصَّ شيءٍ من ذلك مراجعُ الزيود، في بيانهم الذي أعلنوه للتبرّوء من الحوثيين عندما اشتبكوا مع الجيش اليمني في سلسلة من المعارك، التي ابتدأت عام 2004، ولم تنتهِ بمصرع حسين الحوثي.

لعبة التحالفات :
حلَّ عام 1990 وقد انتصر شمال اليمن على جنوبه، فيما عُرف بـ "الوحدة" (بعبارةٍ أخرى : هزيمة مشروع الانفصال الجنوبي)، والذي استدعى بعض التغييرات في الدستور إثر التوصّل لاتفاقيّات شاملة، فاعتُرف بالتعدّدية وأُطلقت الحرّية لإقامة الأحزاب. فسارع الزيود بكافّة درجات تشيّعهم -فيمن سارع من اليمنيّين- لإنشاء أحزاب سياسيّة، كحزب الحق، واتّحاد القوى الشعبيّة، وحركة التوحيد والعمل الإسلامي. ولنأخذ حزب الحق مثالا، ولعلاقته بموضوعنا.

نشأ هذا الحزب مع رفع الحظر عن إقامة الأحزاب، والتف "السادة" الهاشميّون على مراكزه، حيث اختير أحد أكبر علماء الزيديّة في اليمن، وهو مجد الدين المؤيّدي، رئيسا له. كما اختير "السيّد" أحمد الشامي أمينا عاّما مساعدا. واحتلَّ رئاسة معظم الدوائر "سادة". وكان الحزب منضويا في الجبهة التي يقودها الحزب الاشتراكي الرامي لإضعاف سلطة صنعاء (سعيّا -وقد تعذّر الاستقلال- لإقامة نظامٍ لا مركزي)، باسم التكتّل الوطني للمعارضة، في وجه الجبهة التي يقودها المؤتمر الشعبي، الحزب الحاكم، بزعامة علي صالح. والتي ضمّت آنذاك الأحزاب الإسلاميّة السنّية، وعلى رأسها التجمّع الوطني للإصلاح، الواجهة السياسية للإخوان المسلمين.

كشفت تجربة الانتخابات البرلمانيّة عن حضور هزيل للحزب، إذ لم يفلح في أكثر من دورة في الوصول للبرلمان، سوى عام 1993، حيث وصل اثنان من مرشّحيه إلى البرلمان، أحدهما حسين، نجل المرجع الزيدي المتشدّد، بدر الدين الحوثي، فيما اكتسح المؤتمر الشعبي الحاكم وحلفاؤه البرلمان. وكان لحزب الحق صحيفة يوميّة سمّاها "الأمّة"، ظلّت على مدى سنين تروّجُ لإيران وإيديولوجيّاتها ورموزها السياسيّة والدينيّة.

التنافر والاضمحلال :
لأسبابٍ متعدّدة، أخذ حزب الحق يتفكّك، وخرج حسين بدر الدين الحوثي ومجموعة معه ليؤسّسوا تنظيما عُرف بـ "الشباب المؤمن". لعل تجربتهم السياسيّة الفاشلّة جعلتهم يعون أهمّية خلق قاعدة شعبية قبل البدء بأي نشاط سياسي مثمر. وطريقتهم لذلك هو العمل الثقافي المنظّم، الذي لم يكن يعني سوى إحياء المذهب والسعي إلى تأسيس المعاهد وإقامة الدروس في المساجد المتناثرة في المناطق الزيديّة.

لأنه حزبٌ عقائدي بحت، كان عليه أن يخلق قاعدته الشعبيّة بواسطة الدعاية الدينيّة والتبشير المذهبي. لم يكن لديه مشروع مدني بالمعنى الكامل للكلمة، يعمل على تأصيل التعدّدية في المجتمع، وبالتالي : تكريس الدولة الديمقراطيّة. بل دّلت الأحداث المتلاحقة على أنه كان يرمي لاسترداد دولة الإمامة، ويشحذ العقيدة في المجتمع الزيدي حتى لا ينسى أبناؤه وبناته هويّتهم المذهبيّة وإمامهم البائد !

وكما هي العادة، فقد دأبت السلطة عبر أجهزتها ومؤسساتها وحزبها الحاكم على محاولة اختراق أحزاب المعارضة وتشتيت صفوفها، وتشجيع الانشقاقات داخلها. وقد كان، إذ ثبت ضلوع السلطة في دعم حسين الحوثي لينشق عن الحزب. يشير بعضُ الباحثين إلى تضافر الدور الخارجي الإيراني مع الدور الداخلي للسلطة الحاكمة في تبلور الظاهرة الحوثيّة، هذا بالإضافة إلى الفشل الذاتي للحزب الذي خرجتْ من رحمه مولودا مشوّها.

من الضروري وضع الأحداث في سياقها التاريخي، حتى تُفهم بصورة صحيحة. لم يكن الحوثيّون آنذاك سوى مجموعة مغاليّة أيديولوجيّا، تعمل في فضاء زيدي بحت، ومصلحة السلطة في ظهورها تتلخّص في تمزيق المعارضة الزيديّة وإضعاف الهاشميّين، كما أن إيجاد معادل موضوعي للسلفيّة الجامحة في صعدة بات ملّحا، خصوصا بعد التوجّس منها إبّان أحداث سبتمبر 2001. على أيّة حال، لم يكن الحوثيّون يومها سوى قطٍ يعبث في قن دجاجٍ مزعج، هذا قبل أن يتحوّلوا -لعوامل كثيرة- إلى قطيعٍ هائل من الذئاب الضارية.

انقلاب السحر على الساحر :
مع تنامي دعاية حسين الحوثي ورفاقه اتّسع نطاق تأثيره وكثُر أتباعه ومناصروه، وشرع بالتدريج يتنمّر على السلطة ويستفزّها ويرفع شعاراتٍ تحرجها أمام أهم حلفائها في العالم، الولايات المتحدّى الأمريكيّة، كما في شعارهم الشهير "الموت لأمريكا .. الموت لإسرائيل .. إلخ". وبعد شدٍّ وجذب مع السلطة التي بلغها أن السلاح وصل لأيدي رجال حسين الحوثي، وبينما الرئيس اليمني عائد من الحج برّا، عام 2003، قرّر أن يصلي في أحد جوامع صعدة، ويرقتي المنبر ليخاطب أهالي المنطقة، ليفاجئ أن حسين الحوثي قد سبقه إليهم وغسل أدمغتهم، فهبّوا في وجهه وصرخوا بـ "الموت لأمريكا .. الموت لإسرائيل .. إلخ". ولا عجب، عقل العامّي -كما يقول البليهي- يحتلُه الأسبق إليه.

كانت هذه شرارة الحرب، حيث اعتُقل المئات وزُجّوا في السجون، واستُدعي "المحرّض" حسين الحوثي للتحقيق معه، وعندما رفض الحضور، أُرسل الجيش له في صعدة. لتُفتتح سلسلةٌ مع المعارك الشرسة. كلّفت اليمن عشرات الآلف من القتلى، ومليارات الدولارات. قُتل حسين مبكّرا في المواجهات، فتولّى زعامة الجماعة والده (بشكلٍ رمزي)، المرجع الديني الكبير، بدر الدين الحوثي، مما ساهم في مضاعفة الأنصار بين صفوف الزيود العاديّين، ربما ممن لم تكن له أيّة اهتماماتٍ سياسيّة. وضعت تلك الحروب أوزارها بهزيمة اليمن. وانكفَّ الحوثيّون في محافظتهم يلعقون جراحهم، ورجع الجيش إلى ثكناته يجرُّ آلياته المعطوبة.

في بحر السياسة لا بوصلة مبدئيّة :
كانت ثورة الشباب اليمني 2011 فاتحةً لعودة الحوثيّين مجددا، حيث أطاحت بخصمهم الألد، علي صالح. عميل أمريكا وإسرائيل واليهود، كما يقولون. أيّد الحوثيّون الثورة، وكانوا -على مضضٍ- ممن وقّع على المبادرة الخليجيّة، التي تنظّم عملية انتقال السلطة بشكلٍ سلمي، مع منح الرئيس السابق وعائلته حصانةً من المحاكمة، وهو ما رفضه الشباب الثوّار قاطبةً، لكن إرادة الخليجيّين مضتْ في نهاية، فقُطع حبل المشنقة عن عنق علي صالح، ليعود ويتحالف مع الحوثيّين ضد من خلّصوه من موتٍ محقّق. لماذا فعل ذلك وقد سقط بالإجماع الوطني كرئيس ؟ وكيف قَبِل عبدالملك الحوثي أن يضع يده بيد قاتل أخيه، وعميل أمريكا وإسرائيل واليهود ؟ وبأي وجهٍ يسوّق الحوثيّون حربهم هذه على أنها حربٌ على اليهود والنصارى وأوليائهم؟ إن ذهبت تفتح القرآن بحثا عن أجوبة، فلن تفهم شيئا. إذ لا علاقة بما جرى ويجري وسيجري بشيءٍ خارج إطار السلطة والثروة، أي الدنيا.