الخميس، 23 أبريل 2015

شيعيّان في وطن سنّي



     في الخليج أقلّيات شيعيّة، جعفريّة واسماعيليّة وغيرها. تعلن عن هوى إيراني سافر، وتتعاطف مع حراك طهران في المنطقة، وتستبشر بتوسّع نفوذها، وتعلّق عليه آمالا قد أفهمها من شيعي متديّن، يرى أن حقه مهضوم في ممارسة طقوس عاشوراء وغيرها، كما يرى أن قناعاته الدينيّة غير ممثلّة في السلطة بالشكل الذي يرضيه، ولعله يغبط إخوته الشيعة في العراق ولبنان، عندما يراهم يرفعون بكثيرٍ من الفخر صورا كبيرة لرموزهم ومراجعهم في الشوارع والطرقات، ويزيّنون حوائط ملتقياتهم العامّة بأقمشةٍ من قطيف نُقشت عليها أدعيّةٌ وأسماء مقدّسة، وفي حسينيّاتهم يمدّون الصوت عاليا باللعن والبراءة، بلا اعتراضٍ من أحد. البصرة وكربلاء تبدو -بالنسبة له- أبعد من حلم، حيث النقاء المذهبي التام.

     دلّت التجربة أن المتدّينين الطائفيّين، شيعةً وسنّة، لا يجدون حرجا في تمزيق مجتمعاتهم وتدمير بلدانهم، إن كان من شأن ذلك أن يوسّع من هامش حرّية يستوعب بعضا من ممارستهم الدينيّة، التي فرض عليهم منطق التعايش الديني والمذهبي أن لا يمارسوها. ولأنهم يعتقدون أنها أعمال صالحة تجلب رضوان الله، فإنه من المشروع دينيّا تقويض مجتمعاتهم وتفكيك دولهم، وذلك لأن تحقيق مرضاة الله مقدّمٌ على كل شيءٍ، ولو كان استقرار الدولة والمجتمع. بعبارةٍ أخرى : لأن المجتمع المتعدّد يفرض قيودا على بعض الممارسات الدينيّة، فإن كسر هذا القيد فريضةٌ دينيّة، يجب القيام بها !

     لكن هنالك شيعي آخر، يختلف عن الأول، لا يطالب بالمزيد من الحرّية الدينيّة، على العكس، ربما يشجّع حظر بعض الفعاليّات الدينيّة، لكونها تعكّر السلم الاجتماعيّة وتزرع الفتن بين الناس، اعتقاد منه أن عمران الآخرة لا يتطلّب تخريب الدنيا. وينشط في المطالبة بحقوقٍ من نوع آخر، ذات طابع مدني، لا تختلف بتاتا عمّا يطالب به مواطنوه في تلك البلدان : مساواة في الفرص والوظائف، تفعيل آليات الشفافيّة والمحاسبة، رفع الحظر عن تداول المعلومات وإطلاق حرّية الإعلام، إشراك الشعب في عمليّة اتخاذ القرار والرقابة على تنفيذه. بشكل عام، هو يريد دولة قانون ومؤسسات. وهي مطالبة لا يقدّمها بوصفه شيعيّا، بل بوصفه مواطنا.

     بحكم وعيه المتنامي، فهو يرصد -عن قرب- درجة التطوّر والانفتاح التي يمرُّ بها بلده ومجتمعه، ويتفاءل بالتغيّر الملحوظ، ويعوّل على الزمن. لقد خرج من غيتو الطائفة، وتخلّص من مشاعر الأقلّية الناقمة دوما على من تعتبرهم الأكثريّة، ببينما هم في الواقع خليطٌ غير تام الانسجام. استطاع أن يكتشف الأوهام المؤسِسة للأكثريّة في عقول الأقلّية، ووجدها من نفس نوع الأوهام المؤسِسة للأقلّية في عقول الأكثريّة، فعرف أن تحقيق الوطن كفكرة، يقوم -فيما يقوم- على تفنيد هذه الأوهام وتعريتها وإسقاطها.

     هذا الشيعي المستنير يدرك تماما أن إيران لم تقدّم للشيعة إلا المزيد من الحسين والبنادق، وأنها تعد بشييد حسينيّاتهم، لكن فوق ركام بلدانهم. ومشكلته أنه قد يُصاب بالخرس إذا احتمدت الأوضاع وتعالت طبول الحرب، بل وأحيانا تختلط عليه الأمور، فيهفوا قلبه لطهران وإن بقيَ عقله في عاصمة بلده ! ورأيي أن لا نبالغ في انتقادهم والتشهير بهم، فما هي إلا لوثة عاطفيّة تنتاب كل أحد، سُرعان ما يفيق منها ويعود لرشده. عرض عاطفي، لا طائفي. للنشأة الأولى ومألوفاتها أثرٌ في النفس لا يُمحى، من الطبيعي أن يطفو في لحظاتٍ ما، لكنه يعود إلى القاع، تاركا العقلَ وشأنه.