الثلاثاء، 21 أبريل 2015

المصالح والعقائد (محاولة لفضِّ الاشتباك)


     بنظرةٍ لا ينقصها من التشاؤم، يبدو الشرق الأوسط موشكا على التفكّك إلى وحداتٍ أصغر من دوله القائمة، إلى كيانات أو إمارات دينيّة ومذهبيّة وإثنيّة وقَبَليّة .. إلخ، فقد أصبحت الدولة الوطنيّة الجامعة اليوم أبعد منها بالأمس، بدليل ارتهان شرعيّتها لقوّة الجيوش وأجهزة الأمن. وباتت الشر الأخف، حيث استبدادها وفسادها، بكل المقاييس هو الأقل سوءا مما هو قادم.

     كان مفاجئا ذلك الانهيار والتشرذم المريع، ربما لأنه كشف عن موت الأمّة الكبيرة، أو لعلّها كانت وهما رومانسيّا ظلَّ يشدُّنا نحو حلم الوحدة، لنصحوا منه على حقيقة أننا أممٌ صغيرة (فِرق دينيّة وجماعات أهليّة)، تنزعُ كلُ واحدةٍ منها للاستقلال بنفسها، وممارسة قناعاتها الدينيّة الخاصّة، ولا تلبث أن تنقسم -هي الأخرى- على نفسها، وتستقل كلُ طائفة لتمارس قناعاتها الخاصّة أيضا. كلما تتجدّد في الدين مذهبٌ ووُلدت طائفة قُظمَ من جسد الأمة جزء، يصير كلّا لوحده بعد ذلك. هل هي طبيعة الأمّة الملّية ؟ ربما. لكنه -على أيّة حال- يلقي الضوء على علّة قمع الدول القديمة لأي بادرة انشقاق دينيّة، حيث كان استقرار الدولة نابعا من انسجامها عقائديّا. الغربيّون كسروا تلك القاعدة المتوارثة، عبر فك الارتباط بين المعتقد والدولة، فلم يعد انسجام معتقدات الشعب شرطا لاستقرار دولتهم.

     بينما العالم يراكم نجاحاته التاريخيّة، ويتقدّم إلى عصر ما بعد الدولة الوطنيّة، نحو الكيانات الأكبر، التكتّلات القائمة على المصالح، أي شؤون الحياة، ينزلق الشرقُ الأوسط لعصر ما قبل الدولة الوطنيّة، نحو الكيانات الأصغر، المتصارعة على عقائد، أي شؤون ما بعد الموت ! إنها تجارب ماثلة، آثارها محسوسة، وقابلة للإحصاء والمقارنة، فلا يجوز بتاتا إغفالها.

     في عالمنا العربي والإسلامي، هل مشكلتنا هي في مذاهبنا المتنابذة أم في مصالحنا المتضادّة، أم أن كل واحدةٍ كانت مجرد تعبير عن الأخرى، كلاهما ناجمٌ عن الآخر بصورة جدليّة، يختلط فيها السببُ بالنتيجة؟ سؤال يحتاج كثيرا من التأمّل، لكني أعتقد أن مشكلة المصالح المتضادّة، مهما كانت شائكة، فيمكن حلُّها على طاولة حوار. هنالك دائما منطقة وسطى، تُتبادل فيها التنازلات. أما مشكلة العقائد، فلا يمكن حلُّها بتلك السهولة، إذ يتعذّر تقديم تنازلات متبادلة، لأنها حقائق مطلقة، لا تسمح بوجود منقطة وسطى يُلقى فيها السلاح والحقد.

     إذن لا بد من محاولة فضِّ الاشتباك بين العقائد والمصالح، على الأقل من أجل الحد من العنف كي لا تتسع حرائقه في مجتمعاتنا. إن الصراع على المصالح أخف كثيرا وأطوع للمساومات وأقرب للحل، من الصراع على العقائد الذي قد لا ينتهي إلا بالتدمير المتبادل. كما أن فضَّ الاشتباك من شأنه قطع الطريق على كل ما يحاول تغطيّة صراع المصالح بصراع العقائد. فضُّ يبدأ بمستوى اللّغة والمفهوم، ذلك لأن الخلاف ليس على مَنْ مع الله ومَنْ ضدّه، لا، بل حول الدستور والحرّيات وبنية السلطة وأسس توزيع الثروة، وما إلى ذلك من شؤون الحياة. وبهذا تختفي الآيات والأحاديث من الخطب والبيانات، ما سيؤدي تلقائيّا لتلاشي ظاهرة الاستشهاد والتفاني المميت في الحرب. فلا يُتوقّع من شعبٍ يطمع في حياةٍ أفضل، أن يصغي لمن يدعونه للموت مجّانا. إن من يصرُّون على خلط العقائد بالمصالح، إنما يغطّون فشلَهم في التعايش بنزوعٍ لحرّية مدّعاة.