الثلاثاء، 11 نوفمبر 2014

الشغفُ رعبا



     مهما قيل، فأظن أن الولع بأفلام الرعب الدموي سلوك غير سوي، منافٍ لطبيعتنا في الركون لكل ما يشعرنا بالأمان والسلامة، وتفتيشنا (المضني أحيانا) عمّا ينفّس عنا ويبعث على الابتهاج، ونفورنا من العكس. ولا أستبعد أن هذا الشغف الغريب ينطوي على نوازع إجراميّة كامنة في الشخص، قابعة في أعماقه، حيث يستعيض عن ممارسة القتل والتعذيب بالتلذذ بمشاهدته، كما يستعيض الشَبِقُ بمتابعة أفلام السكس عن الممارسة، إذا استعصت عليه كما يشتهيها، ولأسباب مَدَنيّة خالصة. فرويد يقول إن نوازع البشر يتنازعها الشبق والعدوان.

     لعلماء النفس آراء متعدّدة حول هذه الظاهرة، فمنهم من يرى أن هؤلاء يستمتعون بالتغيّرات الفسيولوجيّة الحادة التي تطرأ عليهم أثناء تعرّضهم للرعب. آخرون يذهبون إلى أن المتعة المنتظرة، خصوصا لدى المراهقين، لا تحصل إلا بعد الموقف المرعب، لشعورهم أنهم قد صمدوا وانتصروا على الخوف. بمعنى أن الرعب أداة للاختبار، لا للمتعة. فريق ثالث يقول إن الباحثين عن الفزع همُّهم هو الخروجُ من رتابة حياتهم اليوميّة، حيث يجدون فيه، أي المفزع (أفلاما، ألعابا، نشاطات، الخ) حجرا كبيرا، يُلقون به في بحيرة حياتهم الراكدة. المسألة تغيير إذن، خروج عن عادتهم المألوفة. هنالك تفسيرات أخرى، من أكثرها غرابةً، في نظري، الزعمُ بأن هؤلاء، بينما يحبسون أنفاسهم هلعا أمامَ المشاهد المريعة، تملؤهم غبطةٌ خفيّة بأنهم في مأمنٍ مما يرونه. هنا متعتُهم !

     لا أدري إن كان هنالك من فسّر إدمان مشاهدتها تفسيرا مازوخيّا، حيث يستمتع الشخص (المريض) بإرهاب نفسِه، مذعورا بين مشاهد الأشلاء والوحوش والجلّادين العتاة.

     عموما، تناولُ علم النفس لهذه الظاهرة، مثل تناوله لأي ظاهرةٍ سلبيّة أخرى، كتعاطي المخدّرات أو الدعارة. والتفسيرُ ليس تبريرا بحال. والظاهرة ما تزال خصبةً للدراسة، مفتوحةً للبحث والتأمّل. وشخصيّا، أظن أن التشويق والإثارة من أكثر التفسيرات إقناعا، بقطع النظر عن مقاصد هوّاة الرعب، والمحيّر أن للتشويق والإثارة أسبابا أخرى، غير التعرّض للفزع، المتمثّل في هذا الصنف من الأفلام بالدرجة الأولى، وما تفيضُ به من قتلٍ وسلْخ وتقطيع مقزّز، فهل يجهل مدمنوها أن للإثارة والتشويق أساليب وطرائق أخرى !

     دراسات عديدة ربطت بين ارتفاع معدّلات الجريمة وانتشار أفلام العنف، فما بالك بأفلام الرعب، إذ فيه ما هو أشنع من مجرد السطو والعراك وإطلاق النار ! أميلُ للاعتقاد بأن استمراء الإنسان لأجواء الرعب والعنف المفرط، وتطبيع وعيِه عليها بالمدوامة والتكرار، تزيل مع الوقت رهبتَه من الدم، وتجعله يستخف بالقتل، ويتعايش نفسيّا مع : الرؤوس المحطّمة، والأوصال الممزّقة، والعيون المفقوءة، والبطون المبقورة، إلخ. أي تخلق في داخله سفّاحا صغيرا، من المحتمل أن يكبر، ذلك أن الإدمان وليدُ تقبّل في الأساس.

     هل تذكرون كيف استنكرَ كثيرون صورا التُقطتْ لأطفالٍ صفّوا أمامهم رؤوس أضاحي من الغنم، يسخرون بسفّاحي داعش، وهم يتصوّرون وبين أيديهم رؤوس ضحاياهم من البشر ؟ أظنهم -المنددّون بالصور- استشفّوا منها تقبّلا ما، لفعائل داعش. بمعنى أنهم وضعوا الصورة في إطارها الثقافي. لكن أليس ما يُعرض في أفلام الرعب أعظم هولا ؟ إن تكنولوجيا السينما ألغت الفرق تماما بين الافتراض والحقيقة، بل جسّدت الخيال ونفخت فيه الروح. كما يبدو أن الدخول العالية التي تدرُّها أفلام الرعب على كبرى الشركات المنتجة -كما التبغ وشركاته الكبرى- تقفُ، بما لها من نفوذ، حاجزا منيعا أمام حملات المناهضة. لكن لعل ما حُُقّق في مكافحة التبغ من تقدّمٍ يسير أن يُحرز مستقبلا في مكافحة أفلام الرعب والعنف، إذ لهذه أضرارٌ لا تقل عن تلك. والله أعلم.