الأربعاء، 5 نوفمبر 2014

في ذم العبقريّة والنجاح !



     تستهويني القراءة في المذكّرات والسير الشخصيّة لألمع المشاهير؛ فلاسفة، علماء، سياسيّون، رجال أعمال، أدباء، فنّانون .. الخ. بدا لي أنهم يشتركون في عدّةِ أشياء، أبرزُها في نظري : الترتيب. أي العمل وفق خطّة مدروسة. ثم المثابرة على التقيّد بها. ربما يتميّزون عن غيرهم، بكون الواحد منهم قد حدّد أهدافه مبكّرا، منذ وقتٍ طويل، وكرّس جهوده ليصل إليها. عملُه تراكمي، لا مجال فيه لتبديد الجهود وتضييع الأوقات. ولأن الوقت ينضب، فكل خطوةٍ لا تقرّب للهدف، فإنها تُباعد منه. الناجح شحيحٌ بوقته ضرورةً، لأنه يريد أن يختصر الزمن، ليحقّق في سنواتٍ معدودة، ما يستغرق من الناس العاديين عقودا -أو قرونا- ليحقّقوه. ولذا كان "الترتيب" جوادَه الذي يراهن عليه لشقِّ ميادين الحياة بسرعةٍ قياسيّة، وهل النجاح الباهر شيءٌ غير السباق مع الزمن !

     تُقاس المساحة التي يغطّيها الترتيب والانتظام من حياة هؤلاء، بعلو القمّة التي يصبو إليها أحدهم. كلما كانت شاهقةً، اتّسع في حياته نطاقُ الترتيب والانتظام، حتى يستغرق تفاصيلها الصغيرة. ولذا كان العبقري الفذُّ آلةً خالصة، لا يكل ولا يمل. يكاد صبرُه الدؤوب على رتابة الحياة وانتظام نشاطاته فيها، أن يكون موهبتَه العظمى ! هل لاحظتم كم هي صارمةٌ حياتهم، لا مكان فيها لفوضويّةٍ أو مزاج طاغٍ في تقلّبه أو أهواء جارفة ! لعل هذا أن يفسّر ضمور عواطف العباقرة والناجحين الكبار. الواحد منهم كتلةٌ مصمتة من العقل والإرادة. إنه ليرى نهاية طموحه، قمّته المرتجاة، وكأنه وإيّاها نقطتان، يكافح أن تكون مجريات حياته خطّا مستقيما يصلُ بينهما. وحتى لا يتذذب الخطُ أو يعوجُّ، كان عليه أن يوقد على عزيمته النار. طبعا، لا أجادلُ فيما قدّموه للإنسانيّة، ولا أشكّك في عظمتهم. لكن نمط حياتهم يبدو لي ثقيلا، شديدَ الوطأة، لا يُطاق. أحيانا يُخيّل إليَّ أنهم كائناتٌ عجيبة، تشبهنا وليست مثلنا، إنما خُلقت من أجلنا.

     على أيّة حال، وبما أنني سأحيا لمرّةٍ واحدة على الأكثر، فأتمنى لو عشتُ بكامل كياني، بكل ما بي من نوازع وانفعالات وأهواء وتعقّل. لا أفكّر في الاستسلام لخطّةٍ شاملة تحكم حياتي، أنصاع لبنودها وأتقيّد بمراحلها. لن أبخل على نفسي بأي بهجةٍ سانحة أو فرحٍ طارئ، وسأحاول أن أرّبي لحظاته وأتيح لها فرصة التكاثر والانتشار. باختصار، سأحترم الفوضى وأقمع النظام. ليس في حياة العبقري ما يغريني بالتّشبه به، ولا أرى ابتسامات كبار الناجحين سوى جزء من الكاميرات التي تحيط بهم، تُطفئ معها إذا أُطفئت. نعم، قد نُبهر بهم والأضواءُ عليهم مسلّطة، فنتمنّى أن نكون مثلهم. لكننا لا نفكّر بالثمن الباهض الذي دفعوه، ليصلوا إلى ما وصلوا إليه، وهلعَهم المزمن من احتمال أن ينحدر مستواهم وينزلوا عن العرش يوما ما، ذلك أن الاحتفاظ بالصدارة أصعبُ من الوصول إليها، يالَشقائهم ! ربما يجدون في الشهرة والمجد والمراتب العالية عزاءً من كل ما لاقوه في سبيلها من تعبٍ ومشاق، لكن أظنها -الشهرة وأخواتها- كالحسناء التي تبهتُ مع الوقت، ليبقى التعبُ في المحافظة عليها مجهودا ضائعا بلا مردود حقيقي، وكثيرا ما تكون الشهرةُ مضنيةً وسببا -هي نفسُها- للشقاء والتعب.

     الطُمُوح يمدُّ العبقري المنقطع لعمله بالطاقة التي يحتاجها لبلوغ القمّة السامقة، تماما كالإيمان التي يمدُّ العابد المنقطع لمحرابه بالطاقة التي يحتاجها لبلوغ الفردوس الأعلى. والقمّة -كالجنّة- حُفّت بالمكاره. وكلُ نجاحٍ استثنائي مجرد نتيجة لصبرٍ وتجلّد استثنائي على الحرمان. كل ما هنالك أنني مقتنعٌ أن كليهما يطاردُ وهَمْا، ينفق عمره في الحرث والزرع، لنيل ثمرةٍ لا تُقطف إلا آخر العمر أو بعده ! فهل هي صدفةٌ أن في كبار المتصوفة مجاذيب، وفي كبار العباقرة مجانين !