الخميس، 20 نوفمبر 2014

حول مواقع التواصل الاجتماعي (تأمّلات تنقصها السياسة)



     الشيء الذي أعطته مواقع التواصل الاجتماعي للناس هو "التشارك"، بحيث تنخرط معهم بمجرد افتتاحك لحساب فيها، فإذا أنت في خضمّهم. هذه المواقع أنواع، أعرقها الفيسبوك، بحوائطه الفسيحة، التي تزدري الإيجاز. جاء بعده العيّي الشحيح : تويتر، وليس في جعبته سوى مائة وأربعين حرفا لا أكثر، بعدها تُسحب الورقة. فتكسّرت أقلامٌ اعتادت الإطناب والاستفاضة. لكن لم يلبث أن غرّدَ على أغصانه -أي تويتر- الذئبُ والبعير والدجاجة. ثم ظهر أنستغرام، فذهب في الإيجاز حدَّ إلغاء الكلمة نفسها، فأحلَّ الصورة محلَّها بالكامل، وصارت هي المتن الأساسي. الفوتوغرافيا هي معجم أنستغرام، ولذا كانت لغته موحّدةً على مستوى العالم. فتستطيع أن تتصفّح حسابات صينيّين مثلا من غير أن تعرف كلمةً صينيّة واحدة. طبعا هنالك موقع شهير نوعا ما، اسمه ساوندكلاود، يعتمد على الصوت. يمكننا أن نضعه حيث نضع الصوت بين الكلمة المسيّجة بلغة خاصّة، والصورة المطلقة العِنان في فضاء البصر. ذلك أن الصوت فيه من خصوصيّة اللّغة وعموميّة الصورة، ربما لأن معجمه هو الموسيقى.

     هل هذه المواقع مجرد موضات عابرة ؟ إذا اعتبرنا أن ظهور السيارة كان موضةً عابرة، فهذه المواقع هي إذن موضة عابرة. نعم، قد يفقد تويتر مثلا زخمه مع الوقت، تاركا المجال لموقع آخر يأخذ مكانه. أعني أن فكرة التواصل الاجتماعي ستظل باقية، الذي سيتغيّر هي المواقع وصيغ العرض ومضامينه، وما إلى ذلك. على أيّة حال، أعتقد أن هذه المواقع ثورة تقنيّة ومعرفيّة وذوقيّة هائلة، حدث مفصلي في تاريخ الوعي الاجتماعي والثقافي على مستوى العالم. يُقال إن اختراع الطباعة قلبَ أوروبا رأسا على عقب، وأظن أن مواقع التواصل الاجتماعي ستقلب العالم. كيف؟ وإلى أين؟ هذا موضوع أكبر من إمكانيّات مقالة، سأتحدث فقط عن أنستغرام أكثر وساوندكلاود أقل، كلاما لو غيّر القارئ فيه بعضَ الشيء، لانطبقَ على الفيسبوك وتويتر، أو مجمل مواقع التواصل الاجتماعي.

     للصورة محتوى ودلالة كالكلمة. وإن عرضها صاحبها للفُرْجة، فهي حتما ستعبّر عنه. بل أظن أن اعتزامه مسبقا أن ينشرها سيؤثّر في محتواها، ذلك أنه يريد بواسطتها أن يقول شيئا. ينطبق هذا على الصوت المنتقى في ساوندكلاود، الأغاني أو المقطوعات التي تعرضها تعبّر عنك، تريد أن تقول بها شيئا. مكوّنات الصورة والأغنيّة ليست من ابتكارنا، هي أشياء نجدها مكتملةً، ثم نستخدمها. ربما لهذا لا تبلغ شهرة المصوّر، مهما كان مبدعا، خُمْس أو عُشْر شهرة المغنّي أو الأديب. صحيح، هنالك فرق بين المصوّر البارع الفنّان، وبين المستمع الذوّاقة، فالأخير لا يعدو أن يكون مستقبِلا رائعا وحسب، بخلاف الأول، إذ يبدو منتجا، ثمّة إضافة لديه. وبالتأكيد، من بيده كاميرا لديه لمسات خاصة، يفتقدها واضعُ السمّاعات بأذنيه. ولذا كان جمهور ساوندكلاود مغمورين، وأعتقد أنه الموقع الوحيد، بين مواقع التواصل الاجتماعي، الذي يخلو من مشاهير. طبعا هذا افتراض قادني إليه التحليل، لم أتحقّق منه. المهم، قارنْ بين الشعبيّة التي تحضى بها مهرجانات الطرب والأدب وجوائزها، بتلك المعنيّة بالفوتوغرافيا. ولا أعرف إن كان هنالك من جائزة لأفضل سمّيع !

     لاحظت أن الفجاجة العامّية في ساوندكلاود أقل، ولم أجد لهذا تفسيرا سوى أن جمهوره لا يعبّرون عن أنفسهم سوى بأشياء ليست من صنعهم، أغاني أو مقطوعات، وأحيانا محاضرات. وسيلتك في التعبير تكشفك أكثر، بقدر تدخّلك في تكوينها. ولذا كان المرء -كما يقول العرب- مخبوءٌ تحت لسانه. لا شيء يدل عليك كالكلمة. وهذا ما جعل فيسبوك وتويتر يعجُّ بالتفاهة. في أنستغرام وساوندكلاود الأمر يختلف. كم أُعجبت بشخصٍ في   ساوندكلاود بسبب اخياراته الرائقة، وكم دُهشت وأنا أتصفّح حسابه في أنستغرام، فأتوقّف فورا عن دخول حساباته في تويتر وفيسبوك، كي لا أخسره !

     ختاما، الرسالة التي أود أن تصل لجمهور أنستغرام، هي أن الأنيق ليس بالضرورة هو الفخم. وإن صحَّ ما يقوله بارت بأن "الصورة تكرّر ميكانيّكا ما لا يتكرر وجوديّا"، فأنتم غارقون في الهياط بصورةٍ مذهلة.. ولغوغاء تويتر : بسببكم أمنتُ بالحكومة بعد كفر.. ولسمّيعات ساوندكلاود قبلاتي التي من الصعب أن تكون أخويّة ونحن في مطلع الشتاء.