الأحد، 2 نوفمبر 2014

هوى بنت الشيخ كمفصل تاريخي


     يُحكى أن زعيما قَبَليّا مرموقا زوّجَ ابنته من رجلٍ شبّبَ بها في أشعاره (تغزّل بها)، فكسر -أي شيخ القبيلة- تقليدا راسخا منذ لا يُدرى متى، يقضي بتحريم الفتاة على من يذكرها في شعرِه متغزّلا، تحريما مؤبّدا. يتوارثُه الناس، جيلا بعد جيل، كباقي عاداتهم وتقاليدهم. يختلقون له التبريرات المتنوّعة، ليبقى وجودُه معقولا، والتمسّكُ به ذا معنى، إلى أن جاء رجلٌ يملك سلطةً ما، فوق عاديّة، فهتك قدسيّتَه، وجرّأ بعضَ الناس على الخروج عليه. مع الوقت، كثُر عددهم، وأخذت التبريرات المحافظة تفقد منقطيّتها. شيئا فشيئا حتى تلاشى التقليد واضمحل، وصار تزويج الحبيبن شيئا طبيعيا، بل ومشروعا.

     
الطريف في الأمر أن شيخ القبيلة كان مضطرّا لتفجير ثورة في وجه التقاليد، حيث إنه وجدَ أن منع ابنته المدلّلة من الزواج بمحبوبها سيفضي بها للموت، لا محالة. ولأنها كانت وحيدتَه وثمرةَ قلبه، فقد كان مستعدَّا للتخلّي عن حياته من أجل سعادتها، وليس بمركزه الاجتماعي فقط. فكانت خطوته الانتحاريّة تلك. ولأنه فارس مغوار، فقد غامر بمستقبله برابطة جأش، تماما كما يصنع في معاركه، حين يخوض غمار الموت مبتسما، لينجو في كل مرّةٍ بأعجوبة، ويعلو في قومه ويسود، ويكتسب رمزيّةً فائقة.

     
أرى أن تُدرج هذه القصّة في قائمة روائع المكتشفات التي عُثر عليها صدفةً، ذلك أن مجازفة الشيخ نفضت -عن غير قصد- الترابَ عن ركائز التقليد المتّبع، وكشفت أنه يستمد سلطانه فقط من غموض بداياته، أولا. ومن تواطئ الناس لا شعوريّا على التسليم به، ثانيا.. الغموض يساوي عدم المعرفة، أي الجهل. هذا الجهل، هو بالذّات، من يشحذ المخيّلة بشتّى الأساطير والتفسيرات والتعلّات، التي تُساق بوصفها مستندات التقيّد بالتّقاليد.

     
الغريب أن الملتزمين بذلك التقليد الظالم المفرّق بين الأحباب، كانوا يتسامرون في إنشاد قصائد التشبيب والغزل. يحفظونها ويدندنون بها، ويغنّون. وربما يبكون رِقّةً أو شوقا. لكنهم، كأفراد، يحرصون على إخفاء هذا الانفعال الوجداني عن بعضهم، وكأنه منقصةٌ أو عيب. وإذا وقفوا على واحدٍ منهم يترنّمُ باكيا لوحده، كانت فضيحته مدوّيةً! أليس عجيبا أمرُ هذا الذي يستلذّه الناس ويحنّون إليه إذا اختلا كلٌ منهم بنفسه، فإذا اجتمعوا تمالؤوا على نبذه وازدرائه، أو تظاهروا بذلك أمام بعضهم؟! كم يستوقفني مجتمعنا المحافظ، وهو يحتقر المطربين والممثلين كأشخاص، ويستخف بالطرب والتمثيل كممارسة، بينما لا تكفُّ مسجّلاتهم وتلفزيوناتهم عن بثَّه ليلا ونهارا. كما لو أنهم، بهذه المفارقة، ذلك المعتوه الذي يستقذر طبّاخا، وهو يأكل على مائدته كل يوم، من غير أن يجبره أحد !

     
يشبُّ الصبي وله ميول فنيّة، لكن يُربّى على كبتها، فيموت الفنّان فيه باكرا، كمؤودةٍ لا ندري بأي ذنب قُتلت. وتنشأ الفتاة وفي عنقها طوقٌ من العيب والحرام، يضيقُ كلما كبرتُ، حتى يخنق أنوثتها، فتشبُّ وبعاطفتها ووجدانها عاهات، حيث تهرم وهي لا تعرف كيف تحب وتعاشر.. ألسنا بحاجةٍ لشخصيّة كبيرة تشبه ذلك الشيخ المقدام، علَّها أن تكسر التقاليد التي طالما حالت دون الاعتراف الصريح بالكثير من المتع والمسرّات والفنون؟! أظن أن التقاليد لا تتزحزح إلا بمكافئ يوازيها معنويّا، كشخصيّة استثنائيّة مثلا، فالفن حتى يتحوّل لثقافة عامّة، ويكون جزءا من التقليد المتّبع وليس خروجا عليه، يحتاج فنّانين يتمتّعون بشخصيّات كبيرة، تفرض احترامها، وكذا الفكر والدين والحب .