الخميس، 30 أكتوبر 2014

الصدقة وهي تفرّخ المتسوّلين !




      كل ما أسمعه عن مكافحة التسوّل يبدو مزحةً وأنا أشاهدهم -المتسوّلين- يطوفون، باطمئنانٍ بالغ، حول السيارات الواقفة عند الإشارات المرّورية. حدثٌ يتكّرر أمامي كل يوم تقريبا، ويجعلني أتساءل: هل التسوّل ممارسة ممنوعة فعلا؟! كيف تكون ممنوعةً وهي تغزو، جهارا نهارا، شوارع العاصمة، ناهيك بغيرها؟!

     
التسوّل ظاهرة مقلقة لأكثر من سبب، ويظهر أنه بات سوقا مربحة، حيث يتنقّلُ المتسوّلون فُرادى في الشوارع، ويتمركزون جماعاتٍ عند الإشارات. بكثافةٍ ملحوظة، ينتشرون في الأسواق وبين والسيارات فيُخيّل إليك، لأوّل وهلة، أنهم باعةٌ متجوّلون في منطقة سياحيّة! وإذا توقّفت بسيارتك في جانب الطريق، عند سوق أو محطّة، فانتظرْ أحدهم يطرقُ عليك النافذة، يسألُك "حق الله"، وما إنْ تعطيه شيئا حتى تهرع إليك امرأةٌ بيدها رضيع، لا تدري خرجت من أين! لم يعد هذا منظرا خارجا عن المألوف.

     
كأي نشاط يدرُّ الربح السريع، التسوّل يجتذب المرتزقة، فيتكاثرون في سوق الإحسان الاعتباطي العبثي، الذي لولاه، ما تزايدوا بهذا الشكل المخيف، كما لو أن الصدقة بدلا من أن تقلّل عدد من يُفترض أنهم "مساكين"، صارت تزيدهم وتكثّر سوادهم!

     
الغريب أن التسوّل بات يُدار على طريقة المؤسسّات، فلهم قيادات وأعضاء وأدوات ومواقع وتنسيق وخطّط. هذا ما تؤكّده التقارير الصحفيّة، وربما لمسنا بعض مظاهره في الشارع. إنه يعمل بانتظام مستغلّا سذاجة الناس وتراخي الأجهزة الحكوميّة. الواقع أننا نعاني إشكالا تنظيميّا وثقافيّا.

     على كلٍ من الحكومة والمجتمع دورٌ يجب أن يقوم به، ذلك أن المتسوّل إما أن يكون مواطنا، فهذا يجب على الدولة أن تعتني به، تأهيلا ومساعدة ريثما يجد له عملا شريفا. وإما أنه غير مواطن، فهذا يجب على الدولة أن تعيده لبلاده، وتقدّم له المساعدة والعناية اللازمة ريثما يصل إليها. وحدَها الدولة تستطيع أن تقوم بهذه المهمّة. هذا دورُها. أما دور المجتمع، فهو أن يتداعى أفراده، عبر حملات توعية، للكف عن تقديم المساعدة للغرباء بشكلٍ شخصي مباشر، لأنهم -كأفراد -لا يستطيعون التحقّق إن كان هؤلاء مستحقّين للمساعدة، أم لا. ومهما كانت المساعدات بسيطة، فإنها تتراكم بيد عصابات التّسول، بنفس منطق تجارة التجزئة  . 

     قرأت مرّةً أن أكثر المتسوّلين الذين يُقبض عليهم، كانوا كذّابين في المعلومات التي يقدّمونها للمحسنين، التي عادةً ما تكون مأسويّة، ليستدرّوا عطفهم وجيوبهم. هذا يعني أن المتسوّل الذي أمامك كذّابٌ بنسبة 51 % على الأقل ! هل تدرك معنى أن احتماليّة كذبه أكبر من احتمالية صدقه؟! على أيّة حال، لا يمكن أن تكون هذه الدروشة طريقا لنيل رضا الله، كيف تكون تغذية الظواهر السلبيّة عملا صالحا !! 

     
إن مأسسة عمليّة جمع وتوزيع الصدقات والزكوات، ومنع ممارستها بشكلٍ شخصي، حيث تُوكل مؤسسات نظاميّة، بقبضها من المحسنين، لتُسلّم للمستحقين، بعد التأكّد من وضعهم بشكلٍ رسمي.. لا شك ستحدُّ من هذه الظاهرة. بهذه الطريقة المنظّمة نقضي على التسوّل، على الأقل في أغلب حالاته، من خلال القضاء على العشوائيّة في ممارسة العمل الخيري. إذ المستحقُ سيصل إليه -عبر العمل المؤسسّي المنظم- ما يكفيه ويغنيه عن تكفّف المارّة واستجدائهم، وغير المستحق ليس له إلا أحد طريقين: العمل وكسب الرزق بعرق الجبين أو السجن (وإن كان غير مواطن فالترحيل). طبعا، من يعانون عجزا مزمنا، بسبب مرض أو إعاقه، فهؤلاء يجب على الدولة أن ترعاهم. القسمان الأوّلان محصوران فقط بالقادرين، إذ ثبت أنهم أكثر المتسوّلين اليوم!