الثلاثاء، 28 أكتوبر 2014

لم يفقدني أحد !



     كنت أكتب في منتدى عربي، وظللتُ مدّةً هناك تكفي لتكوين صداقات وفيّة ومعارف طيّبة. ثم انقطعت عنه، لمللٍ وانشغالات. ثم عدتُ إليه بعد الانقطاع الذي أظنه كان كافيا، لإثارة شوق محب، وقلق صاحب. فذهبتُ فورَ تسجيلي الدخول لموضوعٍ تفاعلي أذكرُه هناك، بعنوان "أفتقده"، وأنا أقول في نفسي : سأجدهم الآن صفوفا أمامي يسِحّون الدموع، يتبارون، أيُّهم يعبّر عن مشاعر افتقاده لي بطريقةٍ أبلغ وأكثر تأثيرا، إلا أن شيئا من ذلك لم يكن ! فلم أجد الموضوع في الصفحة الأولى من القسم، لعدم دخول أحدٍ عليه من مدّةٍ طويلة، فطُمر مع تجدد الموضوعات. رحتُ أقلّب الصفحات بحثا عنه، وعندما عثرتُ عليه، وجدتُ آخر مشاركة فيه، كانت بعد انقطاعي بأيامٍ قليلة. كتبها شخصٌ دخلَ ليرد على آخر، كان -ذاك الآخر- قد دخل ليسجّل افتقاده له. بديا لي مدفونين بجانب بعضهما، يعلوهما غبارُ ثلاثة أشهر ونيّف، أي تقريبا عمر خريف شاحب.

     انتابنتي مرارةٌ غامضة، خفي عليَّ منبعُها من نفسي، أظنها ما يدور في عقل الغريب إذا تقطّعت به السّبل، وعرفَ أنه لا محالة هالكٌ بمكانٍ قفْر، لا أنيس فيه ولا صاحب. صدَمه الشعور بالضآلة، وأخذ يتحسّرَ على أنه لن يُسمع عويل متّشحاتٍ بسواد على موته، يتناوبن تمزيقَه مع كل موجة بكاءٍ حارقة
، وعلى سُرَادق عزاءٍ لن يُقام، وعلى شيوخٍ لن يجلسوا في الجمع يتلون القرآن، إذ ما ثمَّ من يصنع قهوةً مرّة، يوزّعها على حضورٍ قد أطرقوا برؤوسهم، لولا فناجين القهوة بأيديهم، لظُنَّ أنهم ما تجمّع إلا ليناموا على كراسيهم معا، يحلمون بعودة ميّت.. نعم، لم يفتقدني أحد!

     ليس لأنني لا أعني لأحدٍ شيئا على الإطلاق، بل لأنني لا أعني للناس بقدر ما يعنون -هم- لأنفسهم. من يقول إنه يقدّمك على نفسه، ويؤثرك عليها، لا يقصد شيئا آخر، سوى أنك مهّم جدّا لسعادته، التي تحوّلتَ -لسببٍ ما- متطلّبا ضروريّا لها. مهما كانت نظرتك لنفسك وتقييمك لها، فلست محور حياة أحد إلا بقدر ما تحقّق له من سرور ومتعة أو فائدة. وغيابك لو صار مصدر لوعةٍ وألم، فإنهم يتخلّصون منه (أي منك!) بالتناسي، الذي يتفنّنون في ابتكار طرائقه وأساليبه. وهم معذورون، فلا أحد يأنس بالتعايش مع الآلام والعذابات، ولا يُلام من نشدَ الخلاص من همِّه.

     سيهتموّن بك بقدر اهتمامك أنت بهم، ولعلك لا تهتم بهم إلا ليهتمّوا بك. هي منافع متبادَلة إذن. ولأنها غير مادّية، صارت نزيهة. هكذا تُقيّم العلاقات في المجمل. والحقيقة أنه لولا الانتفاع، لَمَا كانت هنالك رابطة أصلا، تجمعُ أحدٍ بأحد، والخارج عن هذا القانون مجرد شذوذ، كعلاقة الأم بذريّتها مثلا.

     عندما تدخل عالمَ شخصٍ قد أُعجب بك، فإنك تغدو جزءا من خيالاته حول ذاته. ربما لونٍ قرمزي يستعملُه في رسم لوحاته، التي يحاكي فيه وجهَه في مرآة المستقبل. يستعير منك ما يكمّل به نواقصه، ويرى فيك شخصَه مطوّرا. بمعنى أنه يحلُّ نفسَه مكانك، ليراه -أي نفسَه- في عيون محبيك ومعجبيك، الذين يتطلّع لانتزاع حبَّهم وإعجابهم منك. وإن كانت أنثى، فلا ترى فيك سوى غيض الأخريات وحسدهن الذي يسرُّها اشتعاله، إذ ما يمور في صدورهن عليها، بمثابة شموعُ حظّها الوقّاد.

     اقتنعتُ أخيرا، بأنك عندما تغيب عن الناس، فإنهم يسارعون بملء الفراغ الذي تركته خلفك، بما سينسيهم إياك بعد حين. وفضولُك للاطلاع على طبيعة اهتمامهم بغيابك ووقْعِه على نفوسهم، شيءٌ يعنيك -أنت- بالدرجة الأولى، لأنه متعلّق بشخصك. أما هم فسيبحثون عمّا يسد تلك الفجوة (على افتراض أنها فجوة!)، ولعلهم يعزمون على آخر ليجلس على كرسيك الفارغ، ليكمل معهم السهرة بأحاديث، ربما كانت شيّقةً أكثر من أحاديثك. ولو صادف أن أحاديثك كانت أجمل، فسيبحثون على آخر، لأن متعتهم هي ما يريدون. وغيابك عن تحقيقها، تماما كفشلك عن تحقيقها، مشكلةٌ سيجدون لها حلّا بعد حين، لأنها تعنيهم -هم- بالدرجة الأولى. فرحمَ الله امرأ عرف قدر نفسه.