الثلاثاء، 28 أكتوبر 2014

أنت في الإلف أجمل (في نقد الاحتفال)




     لا يبدو إلحاحي مستغربا، وأنا أبدد معاذيره، صديقي الذي لا تكتمل جلستُنا بدونه. فلا يلبث أن يستسلم في النهاية، ويحضر على العشاء .. عموما، أميل للاعتقاد أن كل جلسة أُنس لا بد -لتحتفظ بأجوائها- أن تضبط عدد الحضور. الزيادة ربما توجب بعضَ الرسميّة الجافّة. والنقص يفقر الجلسة، ما قد يضطر أصحابها لفضَّها متعجّلين، لأنهم -ببساطة- ملّوا. كَمْ يبدون وهم يقاومون السآمة منقوصي العدد، كمن يشاهد مسرحيّةً كوميديّة للمرّة العاشرة بعد المائة ! 


     الدعوة للاجتماع (العزيمة) هنا مبرّرة منطقيّة، واضحة، شعارها "تعال نتونّس" وما يُرادفها من جملٍ ترغيبيّة ومحرّضة. ويظهر أن هذا شأن كل اجتماعٍ خاص، كاحتفال الزملاء بترقية زميلهم، أو الأسر بمولودها الجديد، وما شاكلها. صحيحٌ أن بعضها قد تكتسي طابعا رسميّا بعضَ الشيء، إذا اتّسع نطاق المدعوين. لكن يظل المجلس مترابطا، يمسك بزمامه متحدّثٌ واحد، وربما نازعه الحديث آخرون، إلا أنه يبقى موحّدا في المجمل. إذ المداخلات وإن بعثرت الحديث وشتّته، فإنه سرعان ما يعود لموضوعه العام، ثم يتسلسل. هل لنا أن نعتبر وحدة المجلس والمتحدّث فارقا مميزّا بين الاجتماع الخاص والعام ؟ أظن أن الأمر كذلك، حيث يفُقد -في الاجتماع العام- ذلك الترابط، سيّما إذا تعاظم المجلس وانقسمَ إلى عدّة مجالس، بحيث يكون لكل منها متحدّثُه وموضوعه ومستمعوه. إنها طبيعة الاجتماعات العامّة، التي ربما استبحرت، فانفرط ترابط المجتمعين، ليقيمَ كلُ متجاورَين أو ثلاثه مجلسا صغيرا لوحده، غارقون في ضجيجهم الهادئ وسط القاعة، وكأنهم مسافرين في صالة المغادرة، ينتظرون منادي الرحلة للغداء أو العشاء، فيهرعون صوبه ! 


     طبعا، في هذا النوع من الاجتماعات العامّة، إن كان هنالك من متحدّثٍ واحد، فلا بد أنه خطيب على منبر، يتكّلم عبر مكبّرات الصوت، فيلزم الجميع الصمت، إذ لا مجال لحوارٍ أو نقاش. تتجسّد في هذا النوع من الاجتماعات : الرسميّةُ في أقوى صورها وأكثرها قتامة. وعندما نتكلم عن "الرسميّة"، فنحن لا نتكلم إلا عن مجمعٍ من الناس، تطغى عليهم مظاهرُ الرياء والمباهاة والاستعراض والتفاخر. أعني تلك السلوكيّات التي نطلق عليها في عامّيتنا الدارجة: مجاكرة، هياط، ترزّز، يعنّني، الخ. هذا هو مسرحُها الكبير.


     أظن أن كمّية المتوافدين ونوعيّتهم في كل اجتماعٍ تخضع لموازين دقيقة، تبعا للغرض من التداعي للاجتماع. وقد نستحضرها -أي الموازين- بشكلٍ واعي، وقد تحضر بشكل غير واعي. وهي -في كلا الاحتمالين- توجّهنا وتحكم سلوكنا. لم أكن أعير انتباها لمباعث الدعوة (العزيمة)، فهل لها من غرضٍ سوى حضور المدعو (المعزوم) ! الواقع أنه لا غرض لها إلا ذاك. لكن حضورك مطلوب هناك، لماذا ؟ أعتقد أن التمييز بين الاجتماعات، خاصّها وعامّها، يكشفُ لنا أشياء، ربما يمتعنا التفكير والتأمل فيها. ذلك أن الاجتماعات الخاصّة لا تهدفُ عادةً سوى لمتعة الالتقاء والتواصل، فنحنُ فيها نطرح التكلّف ونجري بتلقائيّة مع عفويّتنا. عندما أدعو صديقي، فأنا أطلب مساندته لدفع الفراغ وهمومه. بينما الاجتماعات (المناسبات) العامّة، تهدفُ لأمور أخرى، مختلفة، ولذلك نتكلّفُ فيها ونخنق عفويتنا بالالتزام بالبروتوكول الاجتماعي حسب أصوله المتّبعة. أعني العادات والتقاليد (والسلوم، أي إيتيكيتنا الثقافي الخاص). عندما يدعونا أحد ما، إلى اجتماعٍ عام، فهو يريد مساندتنا، ليس طلبا للأنس ودفعا لهموم الفراغ، لا، بل كي يتظاهر بنا أمام الآخرين، الذين يتظاهر بهم أمامنا. تظاهر مزدوج إذن ! هذا هو الغالب في الواقع. المدعوّون هنا مجرد مظهر أو ديكور، برستيج يستمد بريقه وفخامته من عددهم ونوعيّتهم، كما لو أنهم حرس شرفٍ وحاشية وأتباع. وحين يبدؤون بالانصراف، يتفكّك الديكور، وينطفئ مع آخر مدعو يخرج، ليبقى الداعي المفاخر وحدَه وكأنه سيدّةٌ توّا غسلت وجهها من مكياجٍ ثقيل ومضلل !


     اجتماعاتنا العامّة هي الزيف في أقبح صوره. ونحن فيها متصنّعون، أبعد ما نكون عن أنفسنا. وكل ما نراه من تواصلٍ إنساني مجرد تمثيل، لا عمقَ له. الإنسان يكمن في وحدته أولا، وثانيا في اجتماعاته الدافئة الخاصّة. هناك -في المناسبات العامّة- يتعلّم الناس المجاملات، والتصنّع، والابتسامات الصفراء، والمشاعر المستعارة، الخ. وفيها تتشرّبُ نفوسنا التعلّق بالمظاهر الفارغة، والتفاخر. وتنبعث فيهم روح التنافس. إذا خلوت بنفسك أمكنك أن تخلع ملابسك وتتجرّد بارتياح، وإذا كنتُ مع أحبابك وأصحابك أمكنك أن ترسل نفسك على سجّيتها عاريةً، بلا تحفّظ. لكن إذا اكتظَّ المجلس، خلعت ثوب العفويّة، وارتديت ما هو أكثر من الملابس، وابتعدت عن نفسك خطواتٍ أو أميالا. ألا تشعر وأنت تخرج من مناسبة عامّة أن شيئا عادَ إليك، فتنفّست الصعداء قبل أن تركب سيارتك !