الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

أوهام الطموح (في نقد العزيمة والصبر)



     يُقال إن السعادة هي الغاية التي يتفق البشر في التطلع إليها، مهما اختلفت معتقداتهم وأفكارهم. تبقى غايتهم جميعا، وإن تعدّدت إليها طرقهم، وتباينت حولها تصوّراتهم الكلية. في بحثي عنها كأي إنسان، قرأتُ وسمعت الكثير. أمّلتُ ورجوت وحلمت وخطّطت وسعيت .. حالفني التوفيق أحيانا، وخالفني أحيانا أخرى. وما يزال دكّاني في سوق الحياة على مصراعيه مفتوحا. أجلس على بابه أساومُ الأيام وتساومني. والصفقات بيننا كرّات ودُوُل، لي وعلي. أمارس تجارتي اليوميّة، أبيع وأشتري، وفي رأسي الكثير من المشاريع التوّسعيّة في المستقبل. أخطّط أن أنوّع بضاعتي، وأستأجر المحل المجاور وأتمدّد فيه، شيئا فشيئا حتى أهيمنُ على دكاكين العمارة كلها، وهي الخطوة التي لن يليها سوى بسط النفوذ على أسواق المدينة، وربما البلد بأكمله. هكذا أحدّثُ نفسي وأنا أصبّرها على جفاف عتبة الدّكان التي أجلس عليها ! الحقيقة، لا ابتكار في الخطّة، فمن المعروف أن كثيرا من التجّار الكبار، بدؤوا بداياتٍ أقل بكثير من بداياتي. وعالي الهمّة أمامه الكثير من الكد والتعب، وقد قيل: " لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا ". أنا جاهز لتجرّع الصبر. أريد القبضَ على المجد حيّا، وبأي ثمن. أو أموت في الطريق إليه !

     وطّنت نفسي على تحقيق أحلامي الكبيرة، ويالها من أحلام ! وقرّرتُ -كأي شخص طَموح- أن أطوي فراش التراخي والكسل، فأصل عمل النهار بالليل، وأختصر الراحة مسهبا في التعب، كما لو أنني في سباقٍ مع الزمن على لحظةٍ خلود دائمة، أهزم بها الموت، فأضع حدّا لتناقص وجودي .. من شدّة استغراقي فيما أنشده وأتطلّع إليه : لم أعد أتعامل مع الحاضر إلا بوصفه ساعة عملٍ لا يمكن تأخيره، الراحة منه مؤجلّة لما بعد قطف الثمار وحصد المكاسب. هذه التي لا تأتي إلا آخرا، بعد أن يجف العرق وتُسترد الأنفاس. كما المرْجلُ رأسي، يغلي دائما بخيالات المجد والثراء والشهرة، فيشحذ عزيمتي لأستخفَ بالعقبات والمشاق .. لكن لحظة ! هل من المعقول أن نعيش حاضرنا ونحن أسرى مستقبلٍ قد يأتي كما نحب، وقد لا يأتي. فنرهنه كاملا دون ضمانة مؤكّدة !

     الماضي مجردُ ذكرى نختزنها. والحاضر هو ما نحياه الآن بوصفه حقيقةً معاشة تماما. والمستقبل ربما جاء ونحن غير موجودين على وجه الأرض .. الحاضر الذي نحياه ليس إلا تفاصيل يوميّة صغيرة عادةً. نتخيّل أنها الأجزاء المكوّنة لهيكل مستقبلنا حينما يكتمل. المفارقة، أن المستقبل المكتمل هذا وهْم خلّاب. لأنه إذا جاء كما خطّطنا ورتّبنا، فلن يكون سوى تفاصيل يوميّة بسيطة، لمستقبلٍ آخر أكثر اكتمالا. كل قمةٍ تبلغها تتحوّل فورا لسفْحٍ تحت قمّة أخرى أعلى. سرُّ السعادة ليس تحقيق الغايات النهائيّة والتربّع على القمم، إنما في عملية التحرّك للأعلى. أي مزاولة تلك التفاصيل اليوميّة البسيطة، عيشها بروحٍ غير مأخوذة بالنتائج والغايات أكثر مما ينبغي. إنها في الحد من طغيان ما سيكون (المستقبل) على ما هو كائن (الحاضر).

     لو تأمّلنا قليلا، لوجدنا أن أكثر سعادتنا مذخورةٌ في تفاصيل يوميّاتنا الصغيرة، التي ربما تقاسمناها مع الآخرين : فنجان قهوة، قطعة حلوى، دردشة دافئة، أغنيّة فيّاضة، مشوار مشيا على الأقدام، مغازلة أنيقة ، الخ. إن لم تعش حاضرك بكامل سعته من البهجة والسرور، فأنت إما أسير ماضٍ لن يعود، أو مستقبل ربما لن يأتي. مستَلبٌ لزمنٍ ما .. عِشْ لحظتك، الآن وحالا، ولا تؤجل بهجة اليوم للغد. وكنْ على يقين أن من يبتكر لحظته، ويتفنّن في صياغتها وتجميلها، أكثر ذكاءً وحكمة ممّن يستهلك حاضره وينفقه، في إحْكام الخطط واتّخاذ التدابير لاقتناص لحظةٍ ما تزالُ في ضمير الغيب. والعاقل لا يدعُ يقينا لظن.