الأحد، 28 ديسمبر 2014

معك اشتراك؟ (تدوينة تحليليّة)

     

     هل جرّبت أن تتعطّل سياراتك في هجرة أو قرية؟ حتما ستلمس الفرق في تقديم يد المساعدة التي تتأخّر كثيرا في المدن. وأعتقد أنك ستبيت في الشارع لو كان السواد الأعظم من قاطني المدينة قد تشرّبوا قِيم الفرديّة، بمفهومها الحديث، الذي لا يعني شيئا سوى الأنانيّة، بإطارها التعاقدي النفعي المغلق، ذلك النوع من الارتباط الذي يحكم علاقات الافراد في المدن الكوزموبوليتية. لا يمكن لهذه الفرديّة أن تتحوّل لثقافة عامّة إلا بعد تفكّك الكيانات الاجتماعيّة التقليديّة (العائلة، القبيلة، الطائفة، الخ)، وانحلال روابطها القيميّة والأخلاقيّة الموروثة، والتي من ضمنها : المعاونة الطوعيّة (الفزعة مثلا)، أعني أساليب السلوك الذي تشدُّ الأفراد داخل تلك الكيانات، وتعزز تماسكها، وتمنحها السلطة عليهم، السلطة المعنويّة بالدرجة الأولى (أخلاقيات الجماعة التقليدية).

     لكون الفرد قد انصهر في المجموع، فإن حدود الذات وحدود الغير تبدو غامضة، غير واضحة المعالم. فاختلطت الحقوق بالواجبات، لتداخل الخاص والعام، حيث شؤون الفرد وشؤون الجماعة شيءٌ واحد، فمشكلتهم هي مشكلته، مثلما تغدو مشكلته مشكلةً يتداعون لها جميعا. ومن نتائج ذلك أن تكون المساعدة سلوك عفوي و"طبيعي"، ويومي أيضا.

     طالما استوقفتني نجدة أبناء القرى والبوادي، ومسارعتهم لتقديم العون، بل واعتذارهم "عن التقصير" فيما لو لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا في موقفٍ من المواقف. العمل الطوعي "واجب" في البيئات التقليديّة، بينما العمل الطوعي في المجتمع المتمدّن، الذي ترسّخت فيها الفردانيّة : يُعتبر "علاجا" لتداعياتها النفسيّة على الأفراد. وتنادي الناس إليها، ليس لفرط إحساسهم بمعاناة غيرهم، لا أعتقد ذلك، بل لأنهم ما عادوا يطيقون أنانيّتهم التي قذفت بهم في وحدةٍ سحيقة، لا تُحتمل. فصار العمل الطوعي بمثابة ضوءٍ يلوح لهم في آخر نفق الفردانيّة الخانق.

     أظن أن العمل الطوعي المعاصر مجرّد آلية يستعيد بها الفرد توازنه النفسي بالاندماج في الجماعة من جديد، الجماعة التي اكتسب فردانيّته بالانفصال عنها أصلا. هذا الانفصال أحدث أزمةً نفسيّة (قلق، اكتئاب، فراغ وجودي، وحدة كريهة، الخ)، ربما لأن الفرد تمرّد على غريزته، فثأرت الطبيعة منه وردّت اللطمة، إذ يظهر أن البشر وُجدوا قطعانا منذ القدم، كما يقول تاريخهم التطوري، بحيث تكون الفردانيّة -كقيم ومسلكيّات- عبارةً عن قضاءٍ مبرم على الجزء القطيعي في الإنسان. وهي كأي عمليّة جراحيّة تعقبها آلام ومضاعفات. ولذا كان العمل الطوعي المنظّم عملية استشفاء من آثار الانسلاخ من القطيع، أو من آثار حصر الحياة في حدود الذات. إنه بحث عن الدعم و"المساندة النفسيّة" : وهو مفهومٌ حديث يُشير إلى وضع أو حالة لا يمكن تصوّرها في القرية أو البادية، حالة مدينيّة بامتياز، نابعة من تفكّك البُنى الاجتماعيّة التقليديّة. لعلها متاعب الإنسان عندما قرّر "أن يقوم وحدَه" كما يقول هكسلي.