الأربعاء، 5 أغسطس 2015

أفول اللؤلؤ (بين قيامتين)


     لقرونٍ مديدة، عاش سكّان الخليج على البحر، صيدا وتجارةً وتنقّلا. وفي العقود الأخيرة، قبل اكتشاف النفط، احتل اللؤلؤ صدارة منتوج البحر كله، فكثُر المنقّبون عنه في أعماق الخليج، وكثُرت السُفن المخصّصة لهذا الغرض، حتى لم يبقَ بيتٌ على سواحل الخليج آنذاك لم يدخله شيءٌ من حصاد الحبوب اللؤلؤيّة.

     يذهب بعض من أرّخوا لمنطقتنا إلى أن الحواضر الكبرى المطلّة على بحر الخليج نشأت، في الأساس، كمحل إقامة دائم لبحارّةٍ يحترفون الصيد والغوص، هذا قبل أن تتحوّل لمدن كوزموبولويتيّة عظيمة، في حقبة ما بعد النفط.

     كانت هذه الكرات الصغيرة اللامعة أساس الاقتصاد وعماده. يزدهر وتدور عجلته إذا توفّرت، وينكمش وتتعثّر العجلة إذا شح وجودها. تماما كالنفط يومنا هذا، المصدر الرئيسي للدخل القومي في الخليج، حيث نتساءل بكثيرٍ من الوجل عن مصيرنا فيما لو نضب النفط أو سقط سعره لسببٍ أو آخر ؟ لعلنا سنواجه المصير الذي واجهه أجدادُنا عندما ظهر اللؤلؤ الصناعي. مما أدّى -مع الحرب العالميّة الأولى والكساد الذي صاحبها- لانهيار تلك التجارة الخليجيّة في غضون أيام، فهام البحّارة على وجوههم في البريّة، تاركين مراكبهم تطفو كالجثث على ضفاف الخليج !

     كان ذلك في ثلاثينات القرن الماضي. هل سأسرد ما جرى بالتفصيّل ؟ لا. القصّة معروفة جدا، وقد تناولها المؤّرخون والمتخصّصون في الاجتماع الاقتصادي والسياسي بالتحليل والتفصيل الملّل. كانت العلاقات بين الأحداث وما ترتّبت عنها من نتائج، على كافّة الصُعد، من الوضوح الذي يغني أحيانا عن الاستنتاج المنطقي. سأشير إلى شيءٍ آخر، استوقفني وأنا أتأمّل ما جرى.

     لقد ذُهلت من دور التقنيّة الباهر في تبديل العوالم، بحيث كانت أنظمة الفكر والاعتقاد والسياسة والاجتماع والاقتصاد مجرد "أبنيّة فوقيّة" (إذا ما استعارنا اصطلاحات ماركسيّة)، أي نتائج وآثار، لذلك التغيير التقني البحت، الذي كان "البناء التحتي"، أي بمثابة المقدّمة والسبب. لم يكن اللؤلؤ مجرد حجرٍ رومانسي كريم يدر الأرباح وتعتاش عليه بطون، كان بمنزلة الروح الساري في أجساد دولٍ ومجتمعات وتقاليد ومقدّسات ومحرّمات وخيال ومغامرات وسرديات وعواطف وآمال، لم يبقَ منها اليوم إلا رفات فلوكلوري، يستثير دمعة وأشجان من لم يدركه الخرف من المعمّرين. كل ذلك العالم انتهى بابتكار رجلٍ ياباني فضولي، اسمه ميكيموتو. فكرة واحدة فقط أطاحت بكل شيء !

     كان ابتكار اللؤلؤ الصناعي مفصلا تاريخيّا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. لم يعد الخليج بعده كما كان قبله. مثلما كان ازدهار تجارة اللؤلؤ عاملا تغييريّا كبيرا، إلا أنه كان متدرّجا لا يكاد يحس به سوى المؤرّخ، فيما سقوطه لم يكن متدرّجا، ولذا احتفظت الذاكرة الشعبيّة بوقع الصدمة، التي خفّف منها اكتشافُ النفط، الذي انتشل المجتمعات الخليجيّة من الوقوع في براثن الفقر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق