الاثنين، 17 أغسطس 2015

وادي السباع (خاطرة حول التوقيف)

     
     لا أظن أنه توجد مؤسسة كالشرطة تجسّد سلطة الدولة على الأفراد بشكل مباشر، بعض من كتب في أنثروبولوجيا السياسة يقول إن ضبط الأمن هو المهمة الأولى التي تفرّعت عنها سائر المهام الحكوميّة، التي لم تكن سوى أشكال أخرى من الضبط والتقنين والمأسسة، تزداد سيطرتها رهافةً مع تقدّمت المجتمعات البشريّة، كتنظيم الاقتراع الشعبي، وفسح الكتب والمنشورات، وتشجير الشوارع، ومتابعة الفحوص الطبّية للعاهرات، وحظر صيد الحيوانات المهدّدة بالانقراض، إلخ. ولعل خشونة هذا الجهاز نابعةً من كونه ينهض بأكثر الأدوار السلطويّة بدائيّةً، حيث الزجر والضرب والتكبيل والحبس. وانتهت الحداثة إلى حصر حق ممارسة العنف في الحكومة، وهي السمة المميّزة لمجتمع ما بعد الدولة عمّا قبلها.

     لأن الحياة فقدت بساطتها، صار ضبط الأمن منوطا بحزمةٍ متشابكة من الشروط والمتطلّبات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، وطبعا السياسيّة. لذا امتد سلطان الدولة ليشمل كل مناحي الحياة تقريبا، عبر التنظيم والمأسسة والإشراف الذي قد يُفوّض أحيانا للشعب، بحسب الأعراف والقوانين. لكن الشرطة بقيت محتفظةً بوضعها الخشن المدبّب والمتوارث منذ القدم، لماذا ؟ ربما لأنها أكثر المؤسسات صراحةً في ممارسة القسْر والإكراه، الذي يأخذ معها شكلا محسوسا جدا، حيث يقع تحت طائلتها بدنيّا جميع من تمكّنوا من النفاذ من قبضة الأطر التنظيميّة الأخرى، ولم تجدِ معهم ضغوطاتها الناعمة. طبعا يندرج في هؤلاء الأصناف كلها، من الإرهابيّين وحتى سرّاق اسطوانات الغاز.

     في التوقيف يتساوى الحضور رغم تباين أسباب وجودهم، يتماثلون في الضَعَة، هناك حيث يفقد المرء جزءا كبيرا من اعتباره الشخصي بطريقةٍ غير متدرّجة (تشبه ما يجري لتجّار الأسهم، حينما ينهار السوق فجأة ويتحوّلون، في دقائق، من دائنين تُلتمس منهم المسامحة والتساهل لمدينين يُهدّدون بالسجن !) خطوة واحدة وحسب، أي مسافة مكانيّة بين الردهة وغرفة التوقيف، تفصل ما بين المواطن الصالح والطالح. بمقتضاها تُعاد جدولة مشاعر الجميع، موقوفين وعسكريين، حيث يتبادل الأوّلون التعاطف، فيما يتواطئ الآخرون على الازدراء. يحدث كل هذا بشكلٍ لا شعوري تقريبا. هل لاحظت كيف تتغيّر مشاعر رجال الشرطة عند دخولك كموقوف وعند دخولك كزائر ؟

     أسلوب الخطاب يختصر الكثير، حيث يستخدم الموقوف لهجةً خاضعة يغشاها التوسّل، لأنه لم يعد يتمتّع بندّيته الطبيعيّة والقانونيّة، فصار كعبدٍ يتجاذبه سادتُه. شعوره بالمهانة دفعه للتخلي عن كثيرٍ من مظاهر كبريائه المعتاد، وصار يتقبّل الأمر بالسكوت والوقوف ونحوه. ذلك الانحدار المفاجئ في مركزه، أخلَّ بموازين القوى، ليكتشف أنه أضعف من حَمَلٍ تائه في وادي ذئاب مسعورة، مصدوما ربما من سقوط القناع الإنساني عن وجه المجتمع الحيواني، حيث الاحترام مرتهن بموازين القوّة وحسب، أي شريعة غاب مغلّفة بغطاء مدني. ما يعني أن الشرطة مؤسّسة تتكفّل بحفظ أمننا ونسبنا البربري من الضياع في "الأزمنة الحديثة" !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق