الأحد، 26 يوليو 2015

الكلمات والأشياء (قانون التحرّش)


     وسط ضوضاء المتقاذفين التهم حول قانون التحرّش انتابني شعورٌ بالضياع، وأنني ما عدتُ أدري ما القصّة، قد تداخلت الأمور في عقلي ولم أعد أفهم ! منهجيّا، وقبل الشروع في التحليل والانتقاد وإبداء الرأي، لا بد من وضع الحقائق على الطاولة أولا. فلنبدأْ على بركة الله : القانون محل النزاع واضح، يقوم على تعريف التحرّش وتحديد العقوبة المترتّبة عليه، والتي من المتوّقع أن تكون رادعة. هذه الحقيقة الأولى. الحقيقة الثانية أن التبرّج والتحرّش محرّمان في الشريعة تحريما قطعيّا، وكلاهما يعرّض مرتكبها للتعزير. الحقيقة الثالثة أن المحاكم السعوديّة قضت بالعقوبة المغلّظة، سجنا وجلدا، في قضايا تحرّش، ربما أشهرها قضية نفق النهضة. الحقيقة الرابعة أن الممانعين من سن القانون لا يعارضون عقوبة المتحرّش من حيث المبدأ. الحقيقة الخامسة أن هنالك إشكالا بيروقراطيّا في سن القانون، حيث يُقترح دمجه في قانون أشمل، هو (قانون الحماية من الإيذاء)، وعادةً يأخذ مثل الجدل والأخذ والرد، وقتا طويلا بين الأروقة الرسميّة، في حركةٍ أفقيّة دائريّة تفتقد البُعد الرأسي الحاسم، ما يقودنا للحقيقة الخامسة، وهي أن السلطة هي الحاضر الغائب في القضيّة، رغم فوران الرأي العام !

     في ضوء هذه الحقائق المتّفق عليها، دعونا نستطلع مواقف النخب ثم نعرّج على ما نستشفّه من رأي الشارع. كما هو الشأن في كل ما يخصُّ المرأة، تحوّلت القضيّة لساحة مواجهة شرسة بين التيارات، حيث نُظر لمؤيّدي القانون كتغريبيين (علمانيين، ليبراليين، .. إلخ)، وتبعا لمنطق صراع الأضداد، فقد تحدّدت هويّة الفكريّة للطرف الآخر : محافظون (إسلاميّون، تقليديّون، .. إلخ). أعتقد أنه يوجد طرف ثالث مغيّب، من السهل رؤيته إذا نقشع الغبار. لكن هل من المعقول أن تلك المعارك تدور في فراغ لفظي، لا معنى تحته ؟ أظن أن المعترك في نهاية المطاف، هو : حركة المرأة في الفضاءات العامّة. سن القانون سيفتح لها المجال واسعا، لما هو أكثر من الخروج للسوق، فيما ترك الأمور بلا ضبط قانوني صارم وواضح، سيتيح للمتحرّشين دفعها للتفكير مليّا، قبل أن تخرج من البيت، خصوصا مع توالي مقاطع توثّق حوادث تحرّش مفزعة بقدر ما هي مهينة. التحرّش الآن أضحى وسيلةً غير مشروعة، لتحقيق غاية مشروع يراها بعض مناهضي القانون أهم (هنالك تسميات برّاقة لهذا "الأهم" : عفّة المجتمع، فضيلته، أخلاقه، .. إلخ)، على قاعدة ارتكاب أدنى المفسدين درءا لأعلاهما، فلا بأس من مفسدة التحرّش المحدود درءا لمفسدة التحرّر والانعتاق العام. هذا التكييف الفقهي الغريب هو أساس تحرّك بعض المحافظين الذين أبدوا تعاطفا منحطّا مع المتحرّشين. لكن ليس جميع المعترضين على القانون يصدرون عن هذه الرؤية المؤصّلة فقهيا، وهذا ما يجب التأكيد عليه.

     بطبيعة الحال، لمناصري القانون مقاصد شتّى، بعيدة وقريبة، إصلاحيّة وثوريّة. ربما أكثرهم انفتاحا يرى أنها محاولة لترسيخ فكرة القانون في الذهنية العامّة بدلا من الشرع البالي، كما أنه سيعزّز من عمليّة تحرير المرأة عبر تمكينها من كسر احتكار الرجل لموارد القوّة والتحكّم، فيما أكثرهم محافظةً يرى في القانون يدا حديديّة لقمع المتطاولين على أعراض المسلمين. وفي كلٍ خير. القضيّة -في جانبٍ منها- صراع تصورات عن العالم والإنسان والحياة، حيث يقبع تحت سطحها القانوني فلسفةٌ أشمل، تنتظم مناحي الحياة. وفي جانبٍ آخر، لا تعدو أن تكون مسألة تنظيم جزئي فقط، في حدود المتعارف عليه، وهو ما عليه أكثر الناس الذي لا يعرفون الكثير عمّا يجول في عقول النخب. توالي حوادث التحرّش الموثّقة بالصوت والصورة قد ترهب المرأة، لكنها ستدفع المجتمع لتأييد القانون، وسيلوذ المعترضون بالصمت. وستمضي الأيام ويدرك الناس أن القانون لم يغيّر كثيرا، وأن أرداف النساء ما زالت معرّضة للمس، إلا أن المرأة ستحرز من وراء وهم الحمايّة ذاك مكاسب كبيرة.