الثلاثاء، 10 مايو 2016

شاركنا هبالتك


     مع تطور التقنية وتناسل برامج التواصل الاجتماعي، بنسخها المتعدّدة، أصبحت الحياة الخاصة مهدّدة من الداخل، أي بأيدي أصحابها. وأخذت الحساسيّة ضد التطفّل والمتطفّلين تتبلّد كلما اتّسعت المساحات الشخصيّة المباحة بشكلٍ طوعي لتطبيقات التصوير بأنواعها، عندما تحوّل اليومي إلى موضوعٍ للحفظ والتوثيق والأرشفة كما لو أنه حدثٌ لا يتكّرر ! واستتبع التساهل في التصوير تساهلا في التصريح والثرثرة، فأدمن البعض الظهور حدَّ التعرّي، وأدمن آخرون الفُرْجة حدَّ الخرس.

     إن انتشار موضة "شارك الآخرين لحظتك" جعل الفضولي المتلصص كائنا مهدّدا بالانقراض حقيقةً. ليعيش، يحتاج الفضولي غابةً من الخصوصيات، ذلك هو وسطُهُ الحيوي وبيئته الطبيعيّة. لكن بعد أن هوى جدار الخصوصيّة الشخصيّة تحت كاميرات ومايكات تلك البرامج والتطبيقات (آخرها السنابشات، الأكثر فهاوةً وعبطا)، تبعه -في التداعي والسقوط- هرمُ العلاقات الشخصيّة وطابعها الطبقي، الذي تتحدّد ،بناءً عليه، أنواع وأصناف من الموضوعات والأحاديث، تتناسب وكل طبقة. من يخلط بين الطبقات، فيغرف للجميع، غرباءً وأصدقاء، من ذات الإناء والملعقة، ويحدّثهم بذات الطرائف والقصص والأساليب كما لو أنهم، جميعا، خلصاء أصحابه، مسقطا علّة كل أشكال الارتباط الحميمي بين البشر : التمييز. فنحن إذن بإزاء مرضٍ نفسي لم يُكتشف حتى الآن ! بل وأجروء على القول بأن أكثر -إن لم يكن كل- مشاهير هذه البرامج مرضى نفسيّين.

     أسوأ ما تزرعه فينا تلك البرامج ليس الرياء والتصنّع والمباهاة، بل إنه الولعُ بتتبع الآخرين وإدمان تفاهاتهم، وحرماننا حتى من حقنا في ارتكاب التفاهة، حيث استُعيض بمشاهدتها عن ممارستها فعليّا. ومتى ما بلغ الإنسان هذه الدرجة، فهو خارج الحياة حقيقةً، بكل ما تعنيه الحياة من حسٍّ وحركة وتذوّق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق