الثلاثاء، 25 أكتوبر 2022

المخرج في الداخل

 أفكارنا عن الأشياء ليست الأشياء نفسها، هنالك فارق طالما نتخطاه، فيصبح تفكيرنا هو الواقع ذاته، حقيقيا بنفس الدرجة؛ مخيفا، مقلقا، محبطا، الخ. ثم تتلبسنا ونعيشها فعلا وتصبح واقعنا النفسي. بيد أن عملية التفكير مثل عملية الهضم تماما، تتعرض للاضطراب وتتلوث، فتفرز ما يعكر الصفو ويقود للاكتئاب، العارض أو المَرَضي. بمعنى أن الحالة النفسية تؤثر في عملية التفكير، فيكون زاخرا بكل ما يعزز تلك الحالة، ضرب من الانحياز التوكيدي، وهي ظاهرة معروفة، حيث نميل تلقائيا لكل ما يؤيد قناعاتنا السابقة، ونتفنن في الانتقاء. حالتنا النفسية المشوشة تسمم عملية التفكير كلها، وهنا علينا أن نهمل ما يقوله لنا عقلنا، لأنه في وضع من لا تُقبل شهادته الآن.

الحياة لها معنى كلي، لكنه نظري في مجمله، يطرح نفسه علينا في الأزمات الوجودية. عمليا حياتنا دائما ملموسة؛ اليوم وغدا، وما عدا ذلك توقعات وذكريات. فعلينا أن نعيشها، لأننا ببساطة أحياء، مدفوعون إليها بما يفوق إرادتنا. الحياة معنى يتفكك بمجرد تحققه في الحاضر. هي خيط قصير طرفاه أمس وغدا فقط. هذا التفكك يتمثل فيما نفعله بها، وهي مهمة تبدو كبيرة، لكن تنفيذها سهل، وهذه مفارقة !


بماذا يتفكك ؟ بكل ما نصنعه؛ فنجان قهوة، أغنية جميلة، معاملة ننجزها في العمل، نميمة، تبول، الخ. الغد أفق تطير فيها الأحلام، كما أنه مبلد بالتشاؤم، إلا أننا نقف على الأرض، وهذه هي الحقيقة الوحيدة والمهمة. عندما كنت في المتوسط، كانت المرحلة الثانوية شيئا يلمع كالسراب البعيد، أشعر أن خطواتي ستنفد قبل أن أبلغه. سأتمكن من قيادة السيارة إذا ذهبت للثانوية، سأدخن، سأكون مستقلا أكثر، الخ. عندما وصلت صارت الجامعة سرابا آخر، يستحث خطواتي، وعندما وصلت وارتديت العقال، انفتح الأفق بشكل أوسع، كانت الوظيفة قيامة المستقبل، ما بعدها إلا الجنة !


لاحظت أن كل مرحلة أبلغها لا تخلصني بتاتا من سؤال "وبعدين؟"، هذا الذي يشعرني بأن "الاستقرار" متطلب دائما، وعلى نحو لا يُطاق. أدركت لاحقا أنه ليس مرحلةً لنبلغها، بل سراب يستدرج خطواتنا فقط، أو بالأحرى شيئا ابتكرته الخطوات لتعطي حركتها الفوضوية معنى ونظام. كما عرفت بالتجربة أن الجميع مشغول بـ "وبعدين؟"، وأنه منبع كثير من الأديان والفلسفات، إذ الحياة برمّتها، ما عادت إجابة مقنعة. استنتجت أنه ليس مشكلةً أصلا، حتى نبحث لها عن حل. شعورنا به ربما يلتهب أحيانا، وهذا طبيعي وسيخف ونُشفى. وهو أقرب للفضول المتعلق بشيء غامض في طريقه إلينا، اسمه المستقبل. أتذكر قلق أول يوم في الدراسة، أهتم بأين سأجلس، بحكم أني شديد الخجل، فأتخيل وأرسم سيناريوهات لأتجنب الإحراج، وأتفادى هلع المفاجآت الذي يطن في رأسي لأيام. اتضح أنني كلما اقتربت منه تقشّع الضباب، واستطعت رسم خريطة واضحة لما عليَّ أن أفعله ولا أفعله. الخجول روبوت يتوق أن يكون إنسانا متحررا من البرمجة. ثم تبيّن أن عنصر المفاجأة هذا كان مجرد فكرة مغلوطة داخل ذهني فقط، مصدرها غموض بالغت في الخوف منه. كما أن استعدادنا له يتبلور وينتظم بطريقة تلقائية، نحن نتحول عبر الزمن، ونصبح جاهزين لما هو قادم، مهما كان. المتعبون الذين هدّهم المرض، وكبار السن، أكثر تماسكا أمام موتهم القريب. وكل صعب يهوّنُه موت سيريحنا جميعا، وتماسكنا حياله ممكن أكثر.


كأن الخوف والقلق والتشاؤم كائنات مدفوعة بغريزة البقاء، تتشبت بحياتها في أعماقنا، توحي لوعينا بمبررات حتى لا يجتاحها الفناء. ربما لهذا السبب تبتكر لنفسها أسبابا وحيثيات تبدو لوعينا منطقية، فنتخيل أن حالتنا النفسية انفعال طبيعي حيال "واقع"، والحقيقة أن الواقع مجرد أفكار اتتحلت شخصية الواقع، فيما هي نتاج حالتنا النفسية أصلا. أي أن حالتنا النفسية أفرزت تفكيرا معتلا فقط، وعلينا أن نضفي درجة من اللا اكتراث نحمي بها أعصابنا من التلف، فلا توجد تنانين، ونحن لا نعيش في عالم قيم اوف ثرونز، وكل من نحبهم ليسوا مهددين بغزو النايت ووكرز وهم في طريقهم لإسدال ستار الشتاء على العالم، وهذا كافٍ لسعادتنا في هذه الحياة. هنالك فن مهجور، فن يتعلق بأن لا تفعل شيئا حيال ما هو خارج إرادتك. إنها مشيئة الله، فلتكن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق