الأربعاء، 1 فبراير 2017

الحقيقة والصواب


     ما الحقيقة ؟ سؤال أرّق المتفلسفين وأشياعهم، ممن يبحثون في أصول الأشياء ومبادئها. يعتقد كثيرون أنهم قد كُفوا مؤونة الإجابة عليه، منشغلين بسؤال : ما الصواب ؟ وهو عملي، شديد الإلتصاق بالحياة، رحب القابليّة للاحتمالات. بعض المشتغلين بالفلسفة كأنه اقتنع بطريقة القانعين بالحياتي/اليومي عن الوجودي/الأزلي، فراح يؤسس لفلسفة عمليّة، لا ترْهِق الرقاب بالنظر للأعلى، منكبّةً على الحاضر المحسوس، تبرهن (بشيءٍ من الانتقاء الاعتباطي) على صحّت مقولاتها بما يُنجز على الأرض. فالحقيقة تُقاس بالملاءمة والتقريب بغرض إزاحة كل ما يعترض طريق الطبيعة، التي نُعتبر أحد تجلّياتها في زعْم، أعظم تجلّياتها في زعمٍ آخر.

     يُقال إن كل سؤالٍ لا نتمّكن من الإمساك بإجابته على نحوٍ واضح، فليس بسؤالٍ في الحقيقة. لعلّه استشكالٌ لفظي وحسب. كما أن ما يتعذّر على العلم إثباته، لن يثبته شيءٌ آخر. مصداقية النسق المعرفي للعلم كامنة في قدرته الاستثنائيّة على الحسم، براهينُه موضوعيّة، فيما الأنساق المعرفيّة الأخرى تتهلهل حججها المتناقضة لما لا نهاية، دون أن يقف النقاش عند نقطة موضوعيّة، ولو واحدة. ذلك أنه يبحث في ما تمثّله الأشياء من قيم ومعاني، وقيم الأشياء ومعانيها ليست أشياءً مثلها. لكن مشكلة النسق العلمي أداتيّة مضمونه، كونه متعلّقا بالأجزاء التي يعتقد المهمومون بالحقيقة أنهم يبحثون لها عن "كلٍ" ينتظمها، ذاك الذي يترآى خلف الأشياء المحسومة علميّا، ويعطيها تفسيرا أشمل، يليق بما يتمتّع به الإنسان من عمقٍ متسامي. وما يستوقفني هو أن "العمق المتسامي" في الإنسان مجرد افتراض، من جملة الأصول الكلّية المودعة داخل الأجزاء. والتي يجري البحث عنها، على قدمٍ وساق، خارج العالم !

     منذ قرون والإنسان يزاوج معارفه بين سؤالي كيف؟ ولماذا؟ لكن شرع الأخير في التراجع منذ قرون تاركا الساحة للأول، التقني : "كيف؟"، لكن ترافق ذلك مع تعقّد الحياة وتعرّض الإنسان الفطري لخطر الانقراض. وتشييد العالم الاصطناعي كان تحت شعار نزع السحر عن العالم، أي العودة للطبيعة، موطن الإنسان الفطري. لكن الانتخاب ما عاد طبيعيّا أبدا، اشتراطات الاصطفاء أصبحت، يوما بعد يوم، صناعيّةً جدا. كيف لعقل الإنسان أن يستمر في التضخّم في ظل تجاهله المتعمّد لـ "لماذا؟" ! ما لم يستطع العلم بحث نشأة الدين، سيظل "لماذا" مستغلقا من جهة، محافظا -من الجهة الأخرى- على كيان الإنسان الفطري من الاندثار، رغم التهام التقني للطبيعي. هل هذا يعني أن الدين هو الجزء المجهول من الطبيعة ؟ الله أعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق